( كم هي مريرة و موجعة الحقيقة التي نراها صدفة من ثقب الباب )

من ثقب الباب

سحر الرملاوي

عندما دقت الساعة معلنة السابعة مساء ، تركزت كل الأعصاب البصرية في عينيه السوداوين ، و اتجهت مستفزة إلى حيث تجلس سيدة البيت الكبير ، كانت بدورها مشغولة بمتابعة برنامج فضائي يستهويها و لا تسمح لأحد بأن يقاطع استمتاعها به ، إلا أنها لم تنس في خضم المتابعة الشغوفة أن تنظر إلى خادمتها السريلانكية نظرتها المعتادة في مثل هذا الوقت من كل يوم ، و تشير بها إليه ، بعد ذلك يحدث كل شيء بهدوء شديد ، وكالمعتاد ….
فيما بعد و عبر الباب المغلق كانت تصله اصواتهن ، كن يثرثرن كثيرا و يبدين آراءهن فيما لا يفهم ، كان لكل مشكلة في العالم حل ما تراه صاحبته قطعيا :
- آه لو فقط يسمعون كلامي ، آه لو فقط يأخذون برأيي …
لاحظ في جلسته هذه المرة شيئا مختلفا ، فلأول مرة يستطيع أن يتابع ما يحدث خلف الباب المغلق صوتا و صورة ، لقد لاحظ بكثير من الغبطة أن ثقب الباب القريب جدا منه لدواعي العجلة يعطي صورة قطعية لما يجري أمامه ، صحيح أن الصورة غير مكتملة ، لكنها أفضل بكثير من مجرد سماع الأصوات التي قد تصل واضحة كل الوضوح ، و قد تصله على شكل همهمات فقط لا يستطيع تفسيرها ، الآن بمقدوره أن يفسر ، أن يسمع ، و أن يرى أيضا …

أمال عنقه أكثر ناحية اليسار ليتسع مجال الرؤية الجديدة ، أستخدم أصابع خمسة أمامه في رصد عدد الحاضرات:
- إذا كان هذا الشيء البرتقالي هو ظهر إحداهن فإن العدد يصبح ثلاثة بكل تأكيد ، واحدة ترتدي اللون البرتقالي الفاقع و أخرى ترتدي مهرجانا و الثالثة ترتدي اللون الأسود ، كم هي جميلة ، و رقيقة و ناعمة ذات الرداء الأسود … و لكن أين سيدة البيت الكبير ؟
رائحة شهية تسللت إلى أنفه عبر الباب المغلق أنبأته عن مكان سيدة البيت الكبير ، إنها فطائر السبانخ التي لا يتناول منها أكثر من واحدة في كل مرة يصنعنها فيها ، و لا أحد يسأله إن كان يريد أخرى ، سمع ضوضاء بقرب الباب و لم يعرف كنهها إلا عندما التفتت ذات الرداء البرتقالي بملامح زاعقة الزينة و صاحت بشفاه دموية :
- أيها الشيطان …. ماذا تفعل ؟
تراجع برأسه إلى الخلف متسائلا عما إذا كانت هذه البدينة قد اكتشفت تلصصه عليهن ، إلا أن ركضا خفيفا لطفل في الرابعة من عمره باتجاهها فسر له الأمر ، و أيضا أعطاه دليلا آخر على نعمة الرؤية من ثقب الباب ، و لمح الصغير يشد أمه من ثوبها و يشير بإصرار باتجاه باب غرفته المغلق ، إلا أنها لم تستجب لإشارته و أكملت حديثا كانت قد بدأته قبل أن تزجر طفلها الصغير :
- نعم كما أقول لكن ، لا يوجد تفسير آخر ، و إلا فلماذا وقعوا معاهدة السلام ؟ إن كل ما حدث يذكرني بابنة خالتي التي قبلت مكرهة بزوجة ثانية لزوجها و قالت إنها هي من أجبرته على ذلك … أجلس أيها الشيطان …

ابتسمت ذات الرداء الأسود و همست بحنان :
- ربما هو جائع ، فرائحة الفطائر تثير الشهية …
أشاحت مهرجانية الزي بيديها و هي تقول :
- أية فطائر هذه التي تثير الشهية ؟ على العكس إن ما يصنعونه هنا يشبه في أحسن الأحوال الفطائر المجلدة التي يشتريها عامة الناس دون الالتفات إلى دقة صناعتها ، أو في أبسط الأحوال تاريخ صلاحيتها .
همت سوداء الزي أن تتحدث عندما بادرت برتقالية الثياب بالموافقة على ما أبدته صديقتها مؤكدة :
- بل هي بالفعل فطائر مجلدة تثير التقزز ، أهدأ ايها الشيطان ، ماذا تريد ؟
عاد الطفل مجددا يشير إلى غرفته و هذه المرة التفتت السيدة البدينة ناحية بابه المغلق و قالت :
- ماذا تريد بالضبط ؟
هم أن يهز رأسه نافيا أنه يريد شيئا عندما فطن إلى أن الحديث موجه إلى الطفل الصغير و ليس له هو شخصيا ، ابتسم و نظر باتجاه ذات الرداء الأسود برجاء أن تتكلم فاستجابت لرجائه المحجوب و قالت :
- عفوا صديقتي ، لكنني اخالفكما الرأي فيما يتعلق بصناعة سيدة هذا المنزل ، فقد تميزت دوما بالمذاق الحسن …
- ليست هي الطاهية على أية حال …
لا يدري لماذا تصر مهرجانية الزي و كرنفالية الزينة على انتقاص صناعة المنزل ، ما الذي يجبرهما على الحضور و الأكل من طعامها اذا كن لا يعجبن بشيء مما تصنع سيدة المنزل ..
و لكن أين ذهب الطفل الصغير ، لماذا اختفى عن مدى رؤيته المحدود ؟
لم تستمر حيرته طويلا فقد جاءت الإجابة بشكل عملي للغاية عندما بدأ مقبض الباب الذهبي يتحرك لأعلى و لأسفل في محاولة دؤوبة لفتح الباب ، كما أن المشهد الخارجي برمته كان قد اختفى الآن ، دفع برأسه إلى الخلف و راقب المحاولات الصغيرة لفتح الباب و تساءل ، في الواقع تمنى :
- هل يمكن أن ينفتح الباب ؟
سمع خطوات مسرعة و ثقيلة تتحرك باتجاهه ، و اخذت مشاهد الخارج تأتي و تروح هنيهة قبل أن تنجح الأم في سحب طفلها العنيد إلى حيث تجلس ، و جاءت سيدة المنزل الكبير و ابتسامتها القلقة تصافح وجوه ضيفاتها و تنزلق مسرعة ناحية الباب المغلق …
- اعذريني حبيبتي فهذا الشيطان الصغير لا يهدأ أبدا ..
- لا تبالي ، هكذا هم الاطفال …

و استأذنت مجددا لتشرف على شكل المائدة الذي يشكل حجر الاساس في حفلة الاستقبال هذه …
- يالها من امرأة ، كيف تصم ولدي بالشقاوة ؟….
همت ذات الرداء الأسود أن ترد ، إلا أن مهرجانية الثوب تلقفت الحديث فورا و علقت :
- لا يمكن أن يشعر بالاطفال إلا من له طفل ، لا تنسي (هي) بلا أطفال …
غامت الدنيا أمام العينين السوداوين و تقلصت عضلات فكيه و حاول أن يقبض أصابع يديه ، فأخرج لسانه ، و لما أعيته الحيل سمح لدمعة متسللة أن تزحف بهدوء على خدوده ، و تعمد أن تلقفها شفاهه المتعبة و فكر بأن ملوحتها تشكل تضامنا سريا مع الآخرين الذين يرغبون جدا في إيذائه و لا يدري لأي ذنب ، فتفلها بقوة إلا أنها بقيت عالقة في سقف فمه ، تطلع إلى سقف الحجرة ، و بدت له الثريا خافتة الضوء ، كحجر كبير يكاد يسقط فوق رأسه ، إنه يتوقع سقوطها في كل لحظة ، لكنها تظل تخيفه بظلالها القاتمة و لا تسقط …
- هل رأيتم الموقف الاخير الذي حدث لبطلة مسلسلة السادسة و النصف ؟ كم هي تعيسة تلك الجميلة…
- لا يحزنك أمرها ، ففي النهاية لابد أن يعود إليها حبيبها …
- لقد بكيت كثيرا عندما مات قطها الأبيض في ذلك الحادث المروع …
- كم أنت إنسانة !!
علقت ذات الرداء الأسود ..
لا يدري لماذا تنهمر دموعه ، تضايقه هذه الدموع ، يضايقه أكثر عدم قدرته على الصراخ ، و أكثر ما يزعجه أن لا أحد يشعر به ، و أن تلك الدموع التي تحرق بملوحتها سقف فمه ستظل هناك رغما عنه ، حتى خيوط الماء الحار التي بدأت في الانسياب من فتحتي أنفه تدخل تلقائيا إلى فمه المفتوح و لا يملك إبعادها رغم الغصة التي يعانيها و التي بدأت تتحول إلى اختناق ….
تسلل الصبي الصغير تاركا أمه تلتهم فطيرة السبانخ الخامسة و معها عدد لا بأس به من الشطائر متنوعة الحشوات و سار باتجاه الباب المغلق في الصالة ، عاود محاولة فتحه ، إلا أن الباب لم يستجب له كما حدث في المرة الأولى ، دق الباب ، ثم ركله بقدمه ، أحضر منديلا ورقيا و مال بكل جسده و تطلع من تحت الباب ، دفع المنديل إلى الداخل ، و انبطح تماما ليرى أين ذهب .
كان الشعور المبدئي بالاختناق لديه قد بدأ يتحول إلى ألم حاد في العنق ، و توالت الدموع المنهمرة تسقط بلا هوادة ، و اليد الخامدة لا تسعفه في صرفها عن الفم المفتوح ، و شكل الصالة الخالية من البشر يفزعه ، كأن البيت صار بلا سكان ، ماذا لو مات الأن ، حرك رأسه بكل ما أوتي من قوة فأسقطها على صدره و لاحظ سقوط قطرات الدمع فوق ملابسه ، ثم لاحظ المنديل الورقي بجوار الباب المغلق ، و لمح أصبعا صغيرا متطفلا يحاول الامساك بطرف المنديل ، كان هو ايضا بحاجة الى المنديل ، حاول أن يحرك نفسه ، أن يتقدم بكرسيه المتحرك و لو قليلا إلا أن حالته لم تسعفه ، أخرج من فمه صوتا غاضبا و حرك يده ما استطاع و رفعها بكل قوة فلطمت وجهه ، فعاود الحركة و عاودت اليد تلطمه ، بدأ يحتج على العنف الموجه ضده من يده بصرخات أقرب إلى الحشرجة ، فزع الطفل و حاول سحب إصبعه العابث ، فانحشرت بين الباب و الارض ، صرخ يشدة فانتبهت الام ، و نهضت بسرعة حاملة اللقمة الاخيرة من فطيرتها السابعة و قالت للاخريات و رذاذ الطعام يختلط بالكلام :
- لا تنزعجن ، لابد أن شيئا ما أفزعه ، سأذهب إليه ...
رفعت سيدة البيت الكبير رأسها و انتبهت إلى ضيفتها برتقالية الزي و هي تسير باتجاه الصالة فالقت ما بيدها و نهضت مسرعة و اتجهت وراءها إلى الصالة تستطلع الامر و لحقت بها الضيفتان ...
كانت كرنفالية الزينة قد خلصت إصبع صغيرها ، و تطلعت بدافع الفضول من ثقب الباب المغلق ، و عندما التفتت خلفها تحمل ملامحها كل الذهول ، همست للعيون المتطلعة ، ووجهت كلامها إلى عينين تتواريان خجلا و ألما :
- لديك أبن معوق ؟ !!
تلعثمت سيدة البيت الكبير قبل أن تصرخ ذات الزي البرتقالي :
- أنقذيه إنه يموت ...
عندما اندفعت " أمه " سيدة البيت الكبير إلى الغرفة المغلقة ، نظرت البدينة إلى كرنفالية الزي و قالت بشماته :
- لديها ابن معوق ....

تمت

سحر الرملاوي
[email protected]