الجزء الثاني

تغيب ويظهر قمر

لبنى ياسين

 محملة بأوجاعي ولذة الفوز، أعود معانقة مجموعتي الشعرية الأولى، أدور بها في فضاء غرفتي، وأرفعها عاليا لتراها جيدا، وتعلم أن كلماتها أورقت في شراييني وما كان لها أن تختفي دون أن تترك أثرا يراه كل من كان يعرفها ويعرفني.يدخل أبي غرفتي، يمسك المجموعة بين يديه، يرفعها..يتأمل الغلاف،  يقلب الصفحة الأولى فتطالعه تلك الأبيات التي يعرفها جيدا:
 
لها وجه قمر...
ولي شعرها المنسدل...
وجمال قامتها...
لها ابتسامة قمر...
ولي دمعة...
 تغوص دمعة دافئة في عينه اليمني برفضه للقائها بي، هو الذي كان يكفكف دمعة هاربة من عيني ويخبرني بأنه ليس من اللائق أن تعلم أمي أن دمعة تحفر حرها على خدي هي من أجلها..بسببها كما سوف تعتقد.
يمضي بخطوات مترددة نحو غرفته، يغيب دقائق اعلم أن وراءها ما وراءها، ثم يظهر ثانية على باب غرفتي حاملا في يديه دفتر صغير، يتقدم نحوي وأدرك من حركاته أنه متردد بين إعطائي إياه وبين حجبه عني، ثم يمد يده به نحوي، فتمتد أصابعي تلقائيا لالتقط دفتر بني قديم بليت بعض صفحاته وتآكلت أخرى تحت خطى زمن رفض أن يمر دو أن يترك توقيعا يحمل آثار مروره، ينظر لي نظرة محملة بالحنان ويستدير مادا خطاه خارج غرفتي تاركا إياي في صحبة دفتر اصفرت أوراقه إثر شيخوخة مبكرة باغتت صفحاته .
أفتح الدفتر بيد ترتجف وأخرى تضمه، أعرف فيه لون ألفت أن أرى أمي في أيامها الأخيرة تحمله، أدرك انه لها..هو لها بالتأكيد..فلمن إذن؟ ولماذا يعطيني إياه أبي في هذا الوقت وبمثل هذا التردد إن لم يكن لها؟
 
اقرأ على صفحاته الأولى أنين المرض ورائحة الأدوية وألوان أوجاع ما بارحت روحها، ألملم دموعا تتساقط غصبا عني، تروي حروفها، وأخشى على كلماتها-كل ما تبقى لي منها- من ملوحة دمع لا يعرف الاحتشام في حضرة الذكرى.
أقرأ صفحاتها الأولى المحملة بالهم والألم، فتبوح لي بأنها ما خافت المرض إلا لأنه سوف يأخذها عني بعيدا، وأن أكثر ما كان يعنيها ابنتها الصغيرة-أنا- وكيف ستتحمل خبرا كموت أمها-أمي، تهاجمني دموعي رغما عن صبر اصطنعه موحية لنفسي بأنني أقوى من الألم والذكرى، يا الله ..تراها نفس النار كانت تشتعل في قلبي وقلبها في لحظة واحدة؟ نفسها تكوينا معا دون أن تدري إحدانا بأوجاع الأخرى؟
أتصفح صفحات أخرى على عجل، وأتذكر ذلك اليوم الذي  سقط فيه الشال عن رأسها لأرى رأسا دن شعر، يوم أسعفني عقلي الطفولي الصغير بأن الشعر الهارب من رأسها هو سبب حزنها ودموعها وشحوبها وحتى مرضها، وأتذكر ضفيرتي التي قصصتها لألصقها  على رأسها لئلا تحزن على شعرها، ونحيبها عندما رأت الضفيرة في يدي دون رأسي، فأقلب صفحات الدفتر بحثا عن ذلك اليوم، لأبحث عن إجابة تطفئ حر السؤال الذي لم أجد له جوابا، هل خطر في بالها أنني قصصت شعري من أجلها أم أنها غضبت فقط لأنني قصصته دون أن تعلم سببا لتصرفي ذاك؟
قلبت الدفتر متحرية آخر الصفحات-آخر الكلمات، ولما وجدتها شعرت بقلبي يتساقط من مكانه، ربما في قرارة نفسي بعد أن شاخت بي الطفولة وعلمت بان شعري لم يكن ليلتصق برأسها مهما فعلت، لم أردها أن تعلم باني قصصته من اجلها لئلا يزيدها ذلك ألما.
أمسكت الدفتر القديم المحمل برائحة حبها، وقربته من عيني، قرأت فيه آخر أيامها:
" كم هو مؤلم أن ترى صغيرتي ما حاولت مواراته خلف شال طيلة تلك الشهور، شعري الذي كانت تحبه كثيرا، كان علي أن أبعدها عني، وألا أنام إلى جوارها كما اعتدت أن افعل طيلة سنوات، خوفا من أنامل صغيرة تتسلل خفية لتقبض على خصلات شعري لكي تنام مطمئنة إلى وجودي بجانبها، أجبرتها على النوم وحدها بمجرد أن علمت أن علاجا كيميائيا يوشك أن يقتحم جسدي، فيلتهم شعري وبقية عافيتي، كنت أرى تساؤلاتها الصغيرة تلتمع في عينيها فأخبرها بأنها أصبحت كبيرة وأن عليها ألا تمسك شعري حتى تنام.
عندما بكت اليوم وهي تراني صباحا ذاهبة كما هي العادة لأدفن جرعة كيميائية جديدة في مقبرة جسدي، لم استطع أن اصطنع ابتسامة شاحبة كما اعتدت، بل انهرت باكية وسقط الشال عن رأسي، ورأيت الذهول في عينيها، شلتها المفاجأة فلم تتحرك من مكانها ولا هي نطقت، كانت دموعها تجري على خديها دون صوت.
وصلت إلى المشفى وفي داخلي شعور خفي بالاستسلام، كنت اشعر بدبيب الموت في كل عضو من أعضائي..كل وريد وشريان..كل خلية، واعلم تماما أن تلك الجرعات لم تعد تجدي نفعا يذكر، لم يكن لدي الجرأة الكافية لأطلب إيقاف ذلك العلاج الذي ينتهك روحي كلما حقنت به، كنت اشعر أن كل صباح يشرق علي وأنا في سجل الأحياء هو مكسب لي ولها، يوم آخر في جوار أمها، أنا التي أدرك جيدا أنني أتحدث عن أيام فقط..أيام إلى جوارها لن تكمل شهرا إلا بمعجزة من الله.
إلا أنني فوجئت يومها بان الطبيب طلب إيقاف الجرعات الكيميائية، لم أجرؤ على سؤاله عن السبب، ولا هو تجرأ على الإيضاح، أظنه حمل أخباره وقذفها في آذان زوجي وإخوتي، فقد رأيت في عينيهم نعوة تحمل اسمي، رغم أنهم كانوا يتصنعون الضحك، كنت أريد إخبارهم بان الموت أحيانا راحة من الألم والعذاب لئلا يحزنوا، إلا أن ابنتي..تظل غصة في صدري..مهما كان الألم جاحدا.
 للمرة الأولى هذا الصباح أعود دون جرعة تعذيب علي أن أحتمل ثقل أوجاعها دون صوت، ورغم أن تلك الجرعة الغائبة كانت بطريقة أو بأخرى تحمل نعوتي في طياتها إلا أنني شعرت بالارتياح لمجرد أنني لن أعاني ثقل مرورها في أوردتي وشراييني.
اصطحبني زوجي إلى المنزل بينما تفرق إخوتي  متخذين طرقاتهم نحو أعمالهم على أن يزوروني مساء، يؤلمني أن أرى نفسي وقد أصبحت عبئا عليهم، أريد أن أقول لهم بان يعيشوا حيواتهم  دون شعور بالذنب فالموت قدر لي وحدي الآن، ومن حقهم أن يستمتعوا بقدر لا يشبه الموت يخط تفاصيله على حائط أعمارهم، إلا أنني لا استطيع، تغالبني دموعي كل مرة وأنا اخبرهم بالا يغيروا من روتينهم اليومي من اجلي ولا استطيع إكمال كلمة مما انوي قوله.
وصلت يومها إلى البيت، وعندما فتح زوجي الباب، ركضت صغيرتي إليّ، كان في يدها شيء ما لم استطع رؤيته تماما بسبب ضوء الشمس الذي كان قد غمرني في الخارج، بعد لحظات  استطعت أن أكتشف ما كانت تحمله، كانت ضفيرتها الطويلة وقد قصتها من أعلاها، كانت تمد لي يدها بها، لماذا فعلت ذلك؟ هل شعرت بان عليها هي أيضا أن تجامل الموت بي، وتقص شعرها لتشاركني أوجاعي؟!.
لم ادر بنفسي إلا وقد وقعت في الأرض..جديلتها كانت اغلي علي من نفسي، لم استطع أن ألومها ولا حتى بكلمة فقد غاصت الدموع في حلقي، لكنني لمحت اللوحة التي رسمت بها وجها اعرفه من اصفراره، وقد ألصقت فوق الوجه المحتضر خصلات من شعرها الجميل.
هكذا إذن يا صغيرتي تظنين انه يمكن اقتلاع الحياة من شعرك لإعادته إلى رأسي..ليت الأمر بهذه البساطة يا صغيرتي.
عدت إلى سريري وجديلة طفلتي لا تفارق عيني، أمسكتها بيدي، صدفة مضحكة أن أغفو إغفاءتي الأخيرة وأنا امسك جديلتها بعد كانت تنام وهي تمسك خصلات شعري..يستبد بي إحساس غريب بأنها تحاول أن تصبح أمي، أن تغمرني بحبها وحنانها لكي أنام جيدا.....".
 
أغلقت الدفتر المهترئ الذي ينوء  بتفاصيل الوجع، وقد استبد بي الحزن حتى أغرقني، أتذكر تلك الليلة التي غابت بها خلف أفق لا أراه، كان القمر مستديرا يغمر الكون بضوء ابيض شفيف كما لو كان يحاول أن يأخذ مكان روحها التي ما بارحتني يوما، نظرت إليه وقلبي مفعم بالأسى فرأيت ملامحها تعتلي استدارته، كانت ابتساماتها تتمطى فوق القمر فيزيد بهاءً، رأيت في وجه أحبه يرتسم فوق ملامح القمر عزاء لي فصرت أرافقه كل يوم بانتظار أن  أرى ابتسامتها المضيئة.
 
نعم يا أمي..لم يكن في يدي أن افعل شيئا لأبقيك مستيقظة تنظرين إلي، فلتنامي جيدا إذن ملء جفونك..وها هي ضفيرتي بين يديك لتعلمي أنني سأبقى إلى جوارك ولن أتركك.