تجربة تحت أنقاض سقف الصحافة المنخفض

حنين موصلي

اعتدت أن اكتب الأهداف وأضع لها خطوات عمل تفصيلية، لكني اكتشفت بأن أجمل الأهداف تلك التي تتحقق دون تخطيط معقد، فالنفس البشرية تمتلك مهارات قد نقيدها ببعض التفاصيل التي نُلزم أنفسنا بها، فالمرونة ميزة من مميزات العمل الصحفي.
أدركتُ ذلك وأنا أؤدي أحد أهم أدواري في رحلة الحياة، وبالرغم من أن النجاح يقاس بالنتيجة النهائية إلا أن المكتسبات من التجربة قد تتخطى كل معايير النجاح الملموسة.
كان الفضل لهذه التجربة التأنيب الذي تلقيته في اجتماع التحرير بسبب غياب اسمي من الصفحة الأولى، وبالرغم من عدم اهتمامي بما ينشر في الصفحة الأولى إلا إنني قررت أن أواجه التأنيب بالعمل على فكرة التواصل مع سيدة تقوم بقتل الجنين في قبل ولادته، ألقى الحظ سريعا واحده منهن في طريقي، اتصلت بها دون ترتيب مسبق لما سأقوله على غير العادة، وأخبرتها بمشكلة صديقتي الحامل والتي ترغب بالتخلص من الطفل دون أن أعي أنها ستسألني عن الدافع وراء رغبتها، فواجهت سؤالها بصمت يعكس جهلي وارتباك يواكب حجم المفاجأة، إذ كانت "الداية" قد تبرعت بتفسير السبب الذي لم يكن ليخطر على بالي، ألجمتني المفاجأة فلم أعلق على تشكيكها في سلوك صديقتي الوهمية "ومشيها البطال"، حددت – هي – الموعد والمكان، بينما انشغلتُ عنها في الكيفية التي سأخبر بها والدتي عن أول أدواري التمثيلية التي سأؤديها على مسرح صاحبة الجلالة.
لن أسرد التفاصيل الخاصة بالاحتياطات الأمنية التي اتخذتها كتسجيل مقاطع غنائية على المسجل الذي أخفيه تحت ملابسي، ولا بالحجة التي اتخذتها لإقناع والدتي بأهمية قيامي بهذه المهمة.
وقفت أمام المطعم القريب من منزل "الداية"، وقبل أن اتصل بها ابتعدت والدتي عن السيارة، إلى أن جاءت مضيفتي وصحبتني لبيتها.. دخلت كـ"امرأة " وارتبكت كـ"طفلة" وهي تسألني عن قصة يبدو أنها كتبت فصولها مسبقاً من خيالها، ثم بدأت تؤنبني بالنيابة عن صديقتي "الضحية المغدورة"، حددت المبلغ سريعا وهي تسرد حكاياتها مع القتل العمد، أما أنا فوافقت دون فصال وأنا أؤكد أنه لا حيلة لصديقتي سوى الموافقة حتى وإن طلبت مبلغاً مضاعفاً، وليتني لم أقل ذلك لأنها أخذت بقولي وازداد المبلغ قليلا!.
ارتدت ملابس الواعظة ونبهتني- نيابة عن صديقتي- إلى أهمية التوبة، وسار حديثها إلى أنها تخصص جزءا من المبلغ لتتصدق به على روح الطفل، كما أنها لا تقوم بهذا الفعل إلا لستر الفتيات وأنها لا ترغب إلا في الأجر من الله!
أمنت على كلامها، ولأول مرة منذ أن دخلت أمسكت بزمام الحديث، فسألتها عن الوقت الذي ستستغرقه عملية تخلص صديقتي من الجنين؟ ومدى خطورة ذلك على صحتها؟ ومن يضمن لي أن تخرج سالمة؟ بدأت تدافع عن مهنتها بجدارة، وسردت تجاربها وخبرتها التي تجاوزت سنوات، قصت لي عن السيدة التي كانت في منزلها بالأمس فقط، والتي ستأتيها بعد قليل.. قالت لي ببساطة انجازاتها في مساعدة النساء ليس فقط في هذا الشأن ولكن حتى في تقديم عقاقير سرية يمكن للزوجة أن تضعها للزوج في الخفاء قبل سفره لتضمن عدم قدرته على خيانتها.
انتظرت أن تنهي حديثها لاستأذن، وعوضا عن ذلك طلبت مني الاتصال بصديقتي- الآن- لترتيب الموعد معها.. ارتبكت!! فمن من صديقاتي سأتصل عليها الآن؟! ومن منهن تعلم أين أنا فتجاري حديثي؟!.
طال الصمت بيننا بينما أعبث بهاتفي بحثاً في قائمة الاتصال عن الصديقة التي ستتمكن من استيعاب الدور ومشاركتي في تمثيله، وجدت أخيراً من أثق بأنها سترد علي اتصالي، واتصلت بها وبادرتها بمجرد ردها على اتصالي قائلة: (وجدت ضالتك)، استغربت الصديقة التي اتصلت بها وبدأت تردد اسمها لتؤكد لي أنها لا تفهم ما أقول وتذكرني بأنني ربما اتصلت بها عن طريق الخطأ، لكنني كنت أرد على تأكيدها بتأكيد حازم، إلى أن استسلمت للضحك عندما أخبرتها أنني وجدت من يقوم بقتل الطفل مقابل 5500 ألف ريال فقط، وأن عليها تحديد موعد سريع، يبدو أنها لحسن حظي استوعبت التمثيلية الصحفية وجارتني في حديثي، أنهيت مكالمتي، واتفقنا على الموعد الذي شددت "الداية" على ضرورة الالتزام به وإلا سيكلفنا التأخير مبلغ إضافي، وفيما كنت استعد للخروج رميت بشباك سؤالي الأخير عليها ليكتمل عملي الصحفي فسألتها إلى أي شهر بوسعك إجراء عملية إجهاض الجنين فأجابت: إلى الشهر السابع!.

خرجت من ذلك المكان شاردة إلا من ألم "القولون العصبي".. صامتة إلا من حديث دار بين عيني وعين والدتي..
أضفت لأقوالها رأي أهل الاختصاص، وسلمت مادتي للنشر بثقة لكنها رفضت!، رفضت لتجاوزها الخطوط الحمراء في ذلك الوقت..
يومها غضبت، وندمت على الوقت الذي أهدرته في العمل على المادة، وعلى الدقائق التي قضيتها في غرفة معبئة بأرواح الأبرياء التي اغتيلت!، تأكدت أننا نعيش في مدينة فاضلة تمناها يوما أفلاطون وأبينا نحن إلا أن نحقق أمنيته، لكنني بعد أن هدأت سعدت بمكتسبات اكتسبتها من تجربة عشت من خلالها على سطح الوحل وليس في الجنة حيث يحيا برزخاً الأنبياء.