إتق شر من أحسنت إليه

تستوقفني بعض الأمثال والحكم ولا أملك إلا أن أرسل تحية اعجاب لقائلها فهو استطاع بكتابة جملة من كلمات بسيطة اختصار مفردات ومعاني اللغة كلها... ولعل هذه هي البلاغة الحقيقية التي تنطبق عليها مقولة (خير الكلام ما قل ودل)، فقد تكون هذه الحكم مسجلة من مئات السنين لكنها تنطبق علينا منذ ذلك الزمن وحتى اليوم إلى أن أصبحت ترافقنا لنضرب بها الأمثال في كل موقف يمر بنا وكأنها كتبت لنا، وكأن كاتبها يخاطبنا بها... وهذه هي الحرفة في الكتابة التي يفترض أن يتحلى بها الكاتب ليصل إلى القاريء ولا ينتهي به الأمر للكتابة لنفسه دون أن يستوعب الطرف الآخر رسالته أو يشعر بها.

عندما فكرت اليوم بما أريد كتابته وجدت أن جملة واحدة تختصره ببساطة وتقول (اتقي شر من أحسنت إليه)، ولكن يأبى "كيبوردي" أن يترك هذه الجملة تختال وحدها في صفحتي، ويلح على تسجيل كلماته بجانبها تلتمس بعضاً من نور حكمتها ومعناها العميق.

للإساءة وقعها الخاص بداخلنا ولكن تأثيرها يتفاوت... أما إن كنت قد أحسنت لصاحبها فهي بالتأكيد ستكون بمثابة الخنجر الذي يغرس رأسه في شريان قلبك... وأعتقد هنا أن هذه الحكمة لا تقصد القلب بقدر ما تقصد (الظهر)لأن الخنجر يختاره كهدف بعيد عن العين فيجد طريقه بسهولة إليك قبل أن تتفاداه وتبتعد عنه.

وما صاحب الخنجر إلا نموذج يتجرد من الإحساس، بل ربما من الحواس الخمس...لأنه لو كان يملكها (لشعر) بما قدمته له، و(رأى) إحسانك، و(تذوق) حلاوته، و(تلمس) قيمته، و(استنشق)عبيره... وكل ذلك كفيلاً ليبقي خنجره في غمده مدى الحياة.

هذا يحدث فقط لو كان (إنساناً) يدرك حقاً ماهي الإنسانية... ويعرف أن من شِعَبِها (التقدير)، ولو لم يطلبه من هو أهل له... فكيف بكائن لا يرغب بتقدير الإحسان!... ويعتبر أنه إنسان يجب أن يكون من طبعه (النسيان)، ويتجاوز إلى النكران، ويحمله جهله إلى الإساءة معتقداً أنه بها يصبح قوياً والواقع أنه يسقط... وما أبشع هذا السقوط المخجل.

قد يكون شخص من كل عشر أشخاص ردد في يوم من الأيام بحرقة مقولة (إتق شر من أحسنت إليه)... وقد تكون مرت علي غيره مرور الكرام لكن عندما تجد نفسك في مقعده تدرك جيداً أنها كانت حكمة لا يمكن أن يلتفت لها الإنسان العادي ليحذر ممن يسعى أن يقدم لهم ولو ابتسامة ترتسم على شفاههم... فالطيبة جزء من الفطرة، والثقة هي الحق الذي نمنحه للآخرين من أجل التواصل الصحي، ودائماً لا نتعلم إلا من أخطاؤنا التي تكون فادحة في بعض الأحيان... مع ذلك علينا أن نستثمرها لأنها رصيد خبرتنا في هذه الحياة.

ولعل من يخطيء يستحق منا كلمة شكر فهو من حيث لا يدري يقدم لنا درساً لنعرف حقيقة النفوس السيئة ونحذر من التعامل معها أو نتعلم كيف نروضها قبل أن يغتال (الوحش) الذي يسكنها كل الخير فينا.

والمقولة بالمقولة تذكر... فعندما يوقظك صوت (إتق شر من أحسنت إليه) من سبات عميق يمكنك أن تجيبه (اعمل الخير وأرميه في البحر)... فما أشبه النفوس السيئة الجاحدة بالبحر الذي تركوا كل صفاته ومكوناته الجميلة واقتبسوا منه الغدر ليكون شيمتهم، ويالها من سقطة تهوي بصاحبها حتى يتلاشى بعدها ويصبح (لاشيء).

ولعل ضيفنا في هذا العدد الفنان (عاصي الحلاني)هو من دفعني بإحدى إجاباته لطرق باب هذا الموضوع، وبالطبع قد يكون وقع جملة (إتق شر من أحسنت إليه) مختلفاً لدى كل شخص بناءًا على تجاربه الخاصة... لكننا جميعاً نتفق على صدى ذلك المعنى الذي يحمل الكثير من الألم.