إلا أنت….

لبنى ياسين

أبحثُ عن نفسي فأجدُ عينيك، أنظرُ إلى وجهي في المرآة فتقابلني ملامحك، أهربُ إلى شوارع المنفى الذي يحمل اسم الوطن ولا يحملُ دفء تفاصيله، لأضيع بين أجساد لا أعرفها تماماً، فأجدُ ملامحك تعتلي تلك الأجساد، أي سلطان ٍ تملكه عليّ حتى تحاصر جهاتي الأربع وتحبسني بين كفيك، أيها الغائب الذي ما غاب ساعة، لماذا لم تأخذ معكَ ملامحكَ حين ودعتني؟ ولماذا تركتَ عينيكَ في جعبتي؟ وكيف ختمتَ على قلبي فلم يعدْ يفتحُ بابه لزائرٍ غيرك؟!. هربتُ منك إلى غرفةٍ سميتها مجازاً “مرسمي”، وكدتُ أصفها بأنها قبرٌ لي فوق زاوية مجهولة من الأرض، لولا أنْ منعني كبريائي منْ عرض يأسي على واجهةٍ باذخةٍ تراها أنت تماماً، وتقسم سراً بينكَ وبين قلبك بأنكَ ما رأيتَ شيئاً يذكر، صلبتُ اللوحة على الحامل الخشبي -الذي أهديتني إياه بمناسبة تخرجي خلسةً عن الأعين كمنْ يداري عاراً- وبدأتُ أشجّ وجه البياض بالريشة والألوان، وعندما حملتُ اللون العاجي رأيتُ وجهك يرتسم فوقه مشاكساً إياي كما كان يفعل دائماً. على وجه لوحة عذراء وجدتني أجزئك، وأخفي بعض تفاصيلك خلف منحنيات وخطوط وألوان للوحةٍ لم تكتملْ أنوثة تفاصيلها كما ينبغي . في مكان ٍ ما من اللوحة خبأتكَ جيداً، في زاويةٍ ما منها ثمة قلب يرتجف، حيث صلبتُ مشاعري على لوحة وصلبتني هي داخل قلب، وما زلت حتى اليوم لا أدري هل كنت أدفنك أم أدفنُ نفسي في تفاصيلها. في مكانٍ ما على اللوحة حاولت أن أجعله محفوفاً بالخطر..بالمنحدرات..بالعويل والأعاصير خبأتُ عينيكَ وأخفيتُ صوتك جيداً، لكنهم تمادوا في الولوج رغم الخطر، واكتشفوا تفاصيلك وعرفوا سر حضورك..كيف حدث ذلك..لا أدري! ثمــّة عيون لا تجيد إخفاء سر، ثمــّة خطوط تواري خلفها ألف قصة وقصة، وفي فن المواربة تقف أنتَ والحقيقة..أحدكما حتما سينكشف. ثمــّة صوت في داخلي ينعجن بدمي..بشوقي..بدموعي..بشغفي وحزني وصمتي وجبني، صوت يهمسُ في أذني قائلا ً:”فلتبق أيقونة وجدٍ علـّـقتها على نحر لوحة..لا يراها سواي”. شيءٌ آخر يدفعني للجنون، للصراخ ملء رئتي عالياً باسمك ولتنهدم الدنيا فوق رأسي..فلم أعد أبالي. لماذا على الحب أن يأتي في صورة خطيئة مقدسة؟ لماذا عليه أن يخلعَ ثوبَ الفرح ويرتدي حزناً أبدياً؟ تراك تشعرُ بالأعاصير التي تمزق صمتي؟ ماذا عليَّ لو تركتكَ تخرجُ هكذا من جوفي وتعتلي جبينَ القمر، وادعيتُ أنني في لحظةٍ ما خانتني سريرتي، فلم أركَ تختلسُ خطواتكَ خارجاً مني، وأخبرتهمْ بأنهُ ما كان لي من سلطان ٍ عليك. ماذا عليَّ لو مشيتُ حافيةَ القدمين عارية الملامح على رمال ِ أحلامي، تراني أرتكبُ خطيئةً توازي خطيئةَ حواء يوم أن خلقت للمرة الأولى على الأرض؟. ماذا عليَّ لو تركتكَ كالشمس تصافحُ وجوه كل الناس، من أعرف ومن لا أعرف..هل سينعتونني بالجنون؟ تراني أنعتقُ منك إن أنت خرجت مني؟ تراك تنعتقُ مني؟ من منا أكثر شوقاً إلى الإنعتاق؟! إلى صدر الحقيقة العاري؟ إلى وجهٍ خرج تـّواً من البحر لا يعرفُ فن المواربة؟. وهل الحقيقة عارٌ علينا أن نمارسَ وأدها خفية داخل حدود صدورنا ونندفن معها؟. يا إلهي…. أكاد أجزم أنَّ قلبي ُخلِــقَ من نسيج ٍ شفاف ليس بوسعه أنْ يخفي ما يختبئ في داخله؛ وأنت لا تختبئ؛ بل تجاهر الكون بوجودك كما قمر في ليلة مظلمة. حيث تصلبني على حافة حلم ٍلمْ أحْـيَـه تماماً فأغفو على صدر خيبة لأمنية لم تتحققْ كما ينبغي؛ أمنية ما زالت تتبرعم في صدري خلسة عن ضوء الشمس وعتمة المسافات وقصائد القمر عندما يرتجل نفسه. أما زال في العمر متسع لقبس يريد أن يشتعل في ضلوع الحياة؟ أما زال فيه متسع لخيبة ..أو لابتسامة لم تكتمل؟! أمزجُ الألوان بدموعي …أرسمها بريشةٍ تشكلت أوبارها من نزق البعد والأسئلة التي لم تجدْ لها إجابات تهدئ من روعها. أعيد تشكيل ملامحك، وأعطي عينيك - بانحناءة شبه صادقة من ريشتي- شذراً من نظرة حب أردتك أن تراني بها، فتأبى إلا أنْ تبيح نفسها إلى أخرى تخبرني بأنني قد لا أعني لك شيئاً، وربما -أقول ربما- أعني لك كل شيء, لكنك كما أنت..تكابر نفسك، وتدثر الحقيقة بثوب التجاهل. أرسمُ كلمة انتظرتها طويلا ً لتعبر مسافات الوجع وهضاب الخوف التي تفصل بين قلبك وشفتيك، أرسمها حلماً مستحيلا ً.. ولوناً لا سبيلَ لأن أعيد تكوينه، ومسافات من الانتظار لم أتمكن يوماً من عبورها. على حواف الخيبة المسجاة في تضاريس تلك اللوحة اليتيمة مثل حبي لك، أرسم عصفوراً مذعوراً، ووردة سقط أريجها في غفلة منها، وأضيع أنا فلا أجد لي مكاناً يضم ذهولي في لوحة ادعيت بيني وبين ذاكرتي أنني من مارس غواية رسم تفاصيلها سراً، ولم أكن صادقة تماماً. تتورم الخيبات في ضلوعي ويتسع مداها حتى تكتسح بقية جسد عرته الحقيقة حتى عن عظامه. أي شيءٍ يستطيع أن يواري سوءة الخيبة؟!!. أي شيءٍ بإمكانه أن يغطي عورة جرح؟!!. أي شيءٍ بإمكانه أن يقي قلبي من الانهيار نحو حافة الضياع..أو حافة الموت؟!. وكأنني أسير به على حبل رفيع فوق هاوية لا قرار لها، وليس لدي سوى احتمالين السقوط أو السقوط، فبأي الاتجاهين أسقط؟! ولمن أدين بشرف سقوطي الأخير قبل الموت؟!. ما زلتَ- رغم كل مقاومتي- تستلمُ دفة قيادة قلبي نحو الهاوية، نحو جحيم ٍ لا يطاق، وما زلت أكبحُ فرامل نفسي بقوة، ولا أعرف حتى متى بإمكاني أن أمارس السقوط نحو الأعلى. يا لليل يمتزج شفقه الأخير بالأول، وبدايته بآخره، وحزنه بفرحه، وحضوره بغيابه. ألهذا لم يعد للحضور معنى ولا للغياب؟! أنهيتُ احتضار لوحتي على قدر مسافات الفقد المزروعة في قلبي، وبلون انتكاسات الشوق والحنين، ووقعتها بدمعة باذخة ما زالت تعاني مخاض الهطول، وبتاريخ سقوطي الأول والأخير في متاهات البعد، وصلبتها على حائط يعاني نتوءات الوجع… فوق شرخ الأماني تماماً صلبتها، على مرمى قدر لا أعرف إلى أين يمضي بخطى جراحي، وتركتها عارية في مواجهة أعاصير الحقيقة وزوابع الشك، الغريب أن كل من مر بها وألقى ظلال عينيه على مساحاتها ظنَّ أنها تحمل ملامحه…إلا أنت.