لم يعد من المناسب التغاضي عن أخطاء التخطيط

اشربوا القهوة

رانية سليمان سلامة

أصنف نفسي بأنني من أعداء القهوة ليس لأسباب صحية فالعداء بيني وبين رائحتها قديم الأزل ولازلت أذكر معاناتي في اختبارات المرحلة الإعدادية والثانوية عندما كانت المراقبات يستعن بالقهوة التركي للتركيز في أداء مهمتهن ويستبشرن بتسليمي لورقة الاختبار ومغادرتي القاعة سريعاً معتقدات أن الأسئلة كانت سهلة والحقيقة المرة هي أن رائحة القهوة كانت صعبة للحد الذي يجبرني على التضحية بورقتي دون مراجعة أو تحري دقة إجابة.

علاقتي بالقهوة تخالف القاعدة العامة فالغالبية ليس بوسعهم أن يمارسوا أي عمل أو يستجمعوا قوى التركيز عندما يستيقظون إلا بعد احتساء (جردل) قهوة، تذكرت ذلك وأنا أستمع إلى إحداهن تقول مستبشرة بالخطى الإيجابية التي نخطوها في طريق إصلاح قطاعات عديدة (من الواضح أننا استيقظنا وبدأنا نضع أيدينا على مواضع الخلل ونعمل على معالجتها)، وهو رأي أتفق معه تماماً فحتى المواطن العادي الذي يقرأ الصحف اليومية ويتابع وسائل الإعلام المختلفة دون أن يكون له اتصال مباشر مع المسؤولين والنخب يستشعر أنه في بلد يعيش حالة من مصارحة النفس بالواقع والاعتراف بالسلبيات أحياناً قبل الإيجابيات، ولكن مابين المصارحة والمعالجة وجني الثمار أحداث تؤكد أمراً من اثنين، إما أن بعض المسؤولين استيقظوا وسارعوا بوضع حلول للمشاكل التي تتعلق بقطاعاتهم قبل احتساء كوب القهوة الذي قد يساعد على التركيز في التفاصيل والتحسب للعقبات والتأهب لتجاوزها بتخطيط محكم لايغفل المتغيرات على المدى البعيد، أو أن التنفيذيين وجدوا أن المشكلة أكبر من الحل فقرروا أن يعودوا إلى النوم مكتفين بالإعلان عن دراسات تنفي وجود ظواهر ومشاكل خطيرة، وأخشى أن تؤدي هذه الدراسات إلى تضليل صناع القرار فيتعطل العلاج حتى إشعار آخر في علم الغيب.

عندما يتعلق الأمر بالمشاريع الإنشائية فهناك عدد من المشاريع الحكومية والخدمية التي تم رصد ميزانياتها والتعاقد على تنفيذها مع شركات محلية أو دولية منذ سنوات غير أن هذا التنفيذ كثيراً مانجده يتعطل بسبب إجراءات روتينية عندما تنتهي قد تكون أسعار مواد البناء وتكاليف المشروع بشكل عام تغيرت مما يتطلب انتظار رصد ميزانية جديدة، وهو نموذج لتخطيط لم يضع بعين الاعتبار الروتين، وروتين يؤثر نفسه على المصلحة العامة، ومشاريع نسمع تصريحات مبشرة عنها قبل أن تختفي عن الأنظار. وهناك مشاريع تغفل دراساتها المتغيرات الطبيعية لتتحقق منها استفادة بعيدة المدى، ولعلي ذكرت في مقال سابق تخطيط مدينة جدة الذي لم يراعِ أنها كمركز سياحي وتجاري مهيأة لزيادة كبيرة في تعداد السكان، كما لفت انتباهي مقال للكاتب عبدالعزيز الذكير في صحيفة الرياض يوم الأربعاء الماضي يورد فيه مشاريع التحلية كنموذج بعد إقرار دراستها والموافقة عليها بدأت عملية طلب الأموال اللازمة من وزارة المالية وهو أمر يستغرق عامين إلى ثلاثة أعوام – وفقاً للكاتب – ثم أكثر من عامين للتوريد والتركيب والتسليم والتشغيل تكون خلالها الأزمة قد تفاقمت ولن يتمكن المشروع من الوفاء بالغرض الذي أقيم من أجله.

تجارب كثيرة وعدد كبير من الأسماء البارزة في مجالات مختلفة تقلدت المسؤولية وأطلقت التصريحات والوعود وشرعت أحياناً بالعمل وفقاً لخطط تبدأ الإصلاح من نقطة الصفر أو تحاول تطوير وتحسين أوضاع قائمة غير أن المشاريع كثيراً ماتتعثر قبل إتمامها، وبوسعنا أن ننظر إلى أسباب التعثر ونلتمس العذر للمسؤول، ولكن ما لم يعد من المناسب التغاضي عنه هو أخطاء التخطيط التي لم تراعِ مبكراً كل التفاصيل لتؤدي في نهاية المطاف إلى التعطيل والخسائر، ولم يعد من المقبول أن تظل مشكلة عدم وجود تنسيق كافٍ بين الجهات المختلفة قائمة ومتضاربة مع المصلحة العامة، كما لايمكن أن نصف من قاموا على التخطيط بحسن النوايا والاجتهاد لتحقيق نجاح لولا ظهور مستجدات تعثرت بسببها خططهم في الوقت الذي يفترض أن يكون استشراف العقبات والتحسب لمواجهتها أو تلافيها جزءاً من خطة لم يضعها أصحابها بمعزل عن الواقع والمتغيرات أو مشروع غير قادر على تأدية أهدافه على المدى البعيد... كما لايمكن أن نغفل الروتين والبيروقراطية والنظام الإداري الذي يقف عقبة أمام شق طريق أمل جديد في الإسراع بخطى تنفيذ بعض المشاريع التي طال انتظارها.

أن نستيقظ كل يوم على الاعتراف بخلل ما فهذا أمر صحي، ولكن الأهم أن تكون الجهة المعنية بإصلاح الخلل قد تناولت ما يوازي مفعول القهوة لدى البعض ليساعدها على التركيز قبل وضع خطة وبرنامج للعلاج يفترض أن يراعي الدقة والسرعة ويتجاوز العشوائية والتصريحات والوعود التي أتمنى مواجهتها بسن قوانين محاسبة تحول دون استخدامها لذر الرماد في العيون.
 
رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ