الملك عبدالله ودروس العفو والتسامح

بين سطور صفحات الوطن

رانية سليمان سلامة

عندما تُسامح فأنت تتخذ قرارك بأن تعيش الحاضر وتنشغل بالمستقبل، وتضع عجلة الزمان على طريقها الصحيح لتتجاوز الماضي... فالتسامح خطوة يتخذها من يريد أن يكمل مسيرته في الحياة بنجاح... وفرصة جديدة للمخطئ ليتحرّر من شحنات المشاعر السلبية حتى تكون خطوته القادمة أكثر تعقلاً وإيجابية... هكذا قرأنا صفحة تسامح بيضاء افتتح بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز عهده... وفي يوم الوطن يحلو لي قراءة ما بين سطورها.

فبالعفو الأول عن أبناء الوطن منح الحرية لقوس قزح يرمز كل لون من ألوانه إلى الأطياف الثقافية والفكرية التي تعيش تحت سمائنا... لم تشع كلمات رسالة العفو بروح التسامح فحسب، بل كانت تضم بين سطورها لمن يحسن القراءة دعوة للتعايش وتأكيداً على المساواة واحتواءً للاختلافات... وهي رسالة تستحق أن نقرأها بتمعن لندرك أننا كلنا في الوطن سواء نملك حرية (الاختلاف) التي يتشكل منها قوس القزح ملوناً الآفاق، ويغيب شعاعه ويتسرب من بين أحداقنا ما لم نُدرك مسؤوليتنا وواجبنا نحو الارتقاء على (الخلاف) والاجتماع عند نقطة التقاء ينطلق منها الضوء... وما أكثر نقاط الالتقاء التي نمر بجانبها ونغادرها صوب ضباب الصراعات.

وبين سطور العفو الثاني تتجلى شيم الكرام... أولئك الذين يتنازلون عن حقهم الخاص في لحظات القوة تجسدوا أمامنا في شخص رجل واحد ونحن نقرأ قرار العفو عن الذين تورطوا في التخطيط لمحاولة اغتيال بشعة... عفا صاحب الحق عنهم مُتخذاً خطوة جديدة على طريق جمع كلمة الأمة العربية وتوحيد صفها، مؤكداً بذلك وبلسان شعب يصطف وراءه أن التنازل عن الحق الخاص في سبيل مصلحة عامة هو طريق الحكماء... وشتان بين هواة إشعال الفتن وبين أيدٍ تُعجزهم بقدرتها على إخمادها في كل اتجاه.

واليوم في هذه المناسبة الوطنية تتجدد رسائل العفو وتتمايل مع علم خفاق في سمائنا السمحة لتمنح الفرصة من جديد لفئة ضلت طريقها... وبالعفو يتجاوز قلب الوطن عن عقوق أبنائه ويهفو لاحتضان الأنفس التي تمتلك جسارة الاعتراف بالخطأ والرجوع عنه.

أما الوطنية فلم أعد أبحث عن تعريفها بين دفات الكتب أو أنقب عن مكوناتها وعناصرها, فالتركيبة الأساسية التي تجعلها تنمو بداخل المواطن هي ببساطة (كرامة ومساواة). هذا ما اختصرته لي تلك السيدة الأمريكية السمراء التي التقيت بها ذات مساء عندما فاجأتني بقولها: (هل تعلمين أننا أكثر دول العالم عنصرية؟ وهل تدركين كم عانى أجدادنا على هذه الأرض من الذل والهوان فيما مضى؟)... واستدركت قبل أن أتحمس باستعراض معلوماتي عليها فقالت: (لازلنا نعاني إلى اليوم من عنصرية تحاول أن تشعل نفوسنا بالأحقاد، ولكننا خلافاً لأجدادنا نشعر بالكرامة والوطنية والمساواة)... استغربت ذلك التناقض فكيف لعنصرية أن تمنح كرامة!! إلا أنها أزاحت الاستغراب بقولها: (يكفيني أنك لو أطلقت علي الآن لقب (نيقر) أو عيرتني بلوني بشكل مهين بوسعي أن أحرر ضدك محضراً في الشرطة وأجعلك تقدمين لي التعويض والاعتذار رغماً عنك... مادمت أستطيع أن أستعيد حقي وأعلم بأن قانون وطني يساويني بغيري فأنا أشعر بكرامتي وانتمائي لهذه الأرض كأي مواطن أمريكي آخر يختلف لونه عني ويعتقد أنه أفضل مني).

تركتها وأنا أتذكر فيما بيني وبين نفسي أننا يحكمنا قانون أقوى من القانون الذي يحكمها لأنه من مرجع سماوي يحرم علينا التنابز بالألقاب، ولم تبرحني فكرة الإحساس بالوطنية الملازمة للكرامة والمساواة كما عّرفتها السيدة ولم يلبث هذا المفهوم أن يصطدم بواقع تهوى فيه بعض الأصوات النشاز التي تعيش بيننا أن تجعل لغة حوارها الاتهامات والتصنيفات القائمة على الألوان والأعراق والطائفية والاختلافات لتمزق الكرامة والمساواة وتخدش الوطنية وتؤجج نيران الصراعات... يود أصحاب هذه الممارسات لو أن أحضان الوطن تضيق بعد أن اتسعت واتسعت معها آفاق تفكيرنا مُحتفية بكلمات العهد الجديد الذي يؤكد أنه امتداد لمسيرة عدل ومساواة وتسامح, بتنا نُدرك أننا نستمد القوة منها ومن قوة وطن توحدت أطرافه ليجتمع لأهله فضل وجود الحرمين الشريفين مع الموقع الاستراتيجي والثروات النفطية... من هذه الأرض الشاسعة لابد أن نتعلم الحكمة وتتجدد في نفوسنا مفاهيم الوحدة بالرغم من التمايز والاختلاف. فبينما يتميز موقعنا الاستراتيجي بإشرافه على عدة منافذ بحرية نجد علاقة مدهشة تربط بين تلك البحار وبين الثروات النفطية والمشاعر المقدسة... وفي عصر لا يعترف إلا بالقوة والماديات كان لابد أن تكون المقدسات في حماية أكبر دولة مصدرة للنفط (وقود أدوات ومنتجات الحضارة في العصر الحديث). وإذ كنا ندرك بأن الحرمين الشريفين قد تكفل الله سبحانه وتعالى بحمايتهما فتلك الحماية يتجلى تفسيرها منطقياً بتوفير الأسباب المتوافقة مع كل عصر وزمان... كما أن منابع النفط تستمد الحماية في مواجهة مطامع الاستعمار من وجودها في الدولة التي سيهب أكثر من مليار مسلم للتصدي لأي محاولات ترمي إلى التعدي عليها... من ذلك الاستيعاب لواقعنا وواقع العالم من حولنا ندرك حتماً أهمية وحدة هذا الوطن واستقراره وضرورة مواجهة كافة المحاولات المغرضة التي تهدف إلى زرع الفرقة وتفكيك الوحدة, أو بمعنى آخر تفكيك أسباب القوة لنخرج من حيز التكامل باحثين عن ما يضعف هذا الجسد.

لقد أصبحنا من الوعي بمكان يحول بيننا وبين الاستجابة لطيور تُغرّد خارج أسراب التلاحم والتعايش، يشغلنا هاجس البناء وإن شغلهم هاجس الانحصار في مساحات خلاف واختلاف ضيقة حتى الاختناق.

نتوق اليوم أكثر إلى استنشاق نسائم الوطنية النقية التي تهب من غربنا وشرقنا وجنوبنا وشمالنا لتلتقي في الوسطى وتنطلق في سمائنا من جديد محملة ببشائر العهد الجديد.

 

* رئيسة تحرير مجلة (عربيات) الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ