الدين بدون رقابة

زينب حفني

يُرجع فهمي هويدي في مقال له حول شيوع الفوضى في مجال الإفتاء، بأن أهم أسبابه يعود إلى ثورة الاتصالات التي فتحت الأبواب على مصراعيها أمام شيوخ الدين لنشر فتواهم بحريّة مطلقة. إضافة إلى أن أغلبية الأنظمة العربية التي تُشدّد قبضتها على كافة مؤسسات المجتمع المدني، تقوم بتضييق الخناق على المؤسسة الدينيّة، وعدم تركها دون رقابة أو توجيه، مما أفقد الناس ثقتهم في مؤسساتهم الدينية الرسميّة، واضطرارهم البحث عن شيوخ مستقلين ليفتوا لهم من وحي ضمائرهم في كافة حوائجهم الدنيويّة.

وليسمح لي الأستاذ هويدي في مناقشته فيما طرحه من آراء. فعلى الرغم من أن أهمية العاملين اللذين ذكرهما في شيوع حالة الفوضى الخاصة بالإفتاء في العقود الأخيرة، إلا أنني أرى بأن القضية تتجاوز هذين العاملين. ولا أميل إلى رأيه بأن الناس يلقون تساؤلاتهم في حجور شيوخ مشهود لهم بالنزاهة، ليقدموا لهم فتاوى صافية النيّة، غير مُسيّسة من قبل أجهزة الدولة! كون عدد كبير من هؤلاء الشيوخ تحكمهم رؤية دينيّة متعصبة لا علاقة لها بسياسات أوطانهم.

صحيفة "الفاينانشال تايمز" نشرت تعليقاً حول هذا الموضوع، حيث ترى بأن كثافة الطلب على الفتاوى في السعودية ومصر تحديداً بحكم ثقلهما السياسي والديني والتاريخي بالعالم العربي، يرجع إلى فشل مناهج التعليم في غرس القدرة على التفكير لدى الطلاّب وهم على مقاعد الدراسة، وهو في الحقيقة رأي صائب إلى حد كبير.

مجتمعاتنا تتخبّط اليوم في لجج الإفتاء التي أضحت "مفلوتة على حل شعرها"، دون أن تجد من يشكمها ويهد قواها، وذلك كنتيجة حتميّة لهشاشة أنظمة التعليم. إضافة إلى انهيار البنية الفكرية في العصر الحالي مقارنة بزمن التنوير الذي عاش فيه مفكرون كبار من أمثال طه حسين والعقاد والمازني وغيرهم من العظام الذين وضعوا قواعد عريقة في إرساء أسس التفكير العقلاني، ونادوا بعدم الاستسلام للبدع والخرافات، ودعوا المجتمعات العربية إلى مقاومة الانسياق الأعمى خلف ركب الإفتاءات المتحجرة المضامين.

الملاحظ للقاصي والداني أنه لم يعد هناك خط دفاع قوي في جيش المفكرين، يملكون القدرة الكافية لمواجهة جحافل التطرّف الفكري كما كان يحدث في الماضي، وإنْ وجدوا فهم يلقون معارضة شرسة من قوى الظلام، وتقوم مجتمعاتهم المغيّبة بتقديمهم لقمة سائغة إلى زمرة من شيوخ الدين، ليحكموا عليهم بالكفر وبالنفي خارج أوطانهم... رجال دين يحركون مجتمعاتهم كلعبة الشطرنج بعد أن أضحوا نجوماً يتنافسون بقوة مع نجوم الكرة والفن في الشهرة والتحصيل المادي.

من الواضح أن المسائل الدينيّة غدت مثل مسمار جحا، تستخدمها بعض الأنظمة العربية لدفع الناس إلى الدوران في حلقة الفتاوى العشوائيّة، باحتساب أجرهم عند الله وبإغرائهم بما سينتظرهم في الآخرة من نعيم في الجنة، حتّى تلهيهم عن الإصلاحات السياسيّة داخل بلدانهم، وكي ينشغلوا عن قضاياهم المصيريّة مثل الفقر والبطالة، وعدم مطالبتهم بتقليم أظافر أوطانهم من حكومات الفساد، وتركها لقمة سائغة في أيدي العابثين.

دوماً أردد بأننا بحاجة إلى ثورة تعليميّة وفكرية واجتماعية حتّى نستعيد توازننا. وهذا ليس من أجلنا فقد اكتوينا بجمرات الفتاوى العشوائيّة، وأحرقتنا نار التطرّف وانتهى الأمر، ولكن الانقلاب يجب أن يحدث من أجل أجيالنا القادمة لكي تُكمل طريقها بوعي، وحتّى لا تجد نفسها تقف حائرة في منتصف الطريق، لا تعرف هل تكمله وهي مطأطئة الرأس، أم تتبيّن موقعها محاولة إيجاد درب آمن لنفسها؟! هذا هو السؤال المحيّر.