أكد المفكر والكاتب الإسلامي الدكتور خالص جلبي أنه لا يفكر إطلاقا في رفع قضية رد اعتبار ضد الشيخ عبد الرحمن البراك، أحد علماء المملكة العربية السعودية، والذي اتهمه في فتوى جديدة له ـ نشرت على موقعه في الانترنت ـ بالزندقة والكفر والاستخفاف بالله والأنبياء والطعن في شعيرة الجهاد، وهي الأمور التي دفعت الشيخ إلى مطالبة المسئولين بطرد جلبي من السعودية.
وشدد الجراح والكاتب -السوري الذي يحمل الجنسية الكندية- في حديث لـ"عربيات" على أنه لا يعتبر اتهامات البراك له تطاولا عليه، بل "وجهة نظر محترمة وإن أخذت حدودها القصوى، وهي منطلقة من حرصه الشديد على الإسلام."
وقال جلبي إنه في حالة مغادرته للسعودية تحت أي ظرف كان، فإنه يرى بلده هو مكتبته وأفكاره، مشيرا إلى وجهته بقوله: "مونتريال المدينة الفرنسية الجميلة مع بناتي وأحفادي في انتظاري".
ويعتبر جلبي في هذا الحوار أن سنة 1973 كانت سنة حاسمة بالنسبة لتكوينه الفكري، حيث تفتق ذهنه على وضع لبنات مشروع فكري ما يزال يعمل على تطوير محاوره وملامحه، وهو مشروع "اللا عنف" أو المقاومة السلمية، وقد بلور رؤى هذا المشروع الفكري في كتابه الشهير النقد الذاتي، فضلا عن كتب أخرى ضمها أفكاره حول تنوير وتحرير العقل الإسلامي ونبذ العنف والمعاصرة.
وفي الحوار أيضا محاور أخرى من قبيل طقوس الكتابة عند جلبي وتعرضه للنقد والاتهامات العديدة وردود أفعاله إزاءها، ومعكم نتابع...

لعل أول سؤال يجدر بنا طرحه هو حول الضجة المثارة حاليا بخصوص اتهام الشيخ البراك لك، فهل تعتبر ما قاله البراك في حقك تطاولاً عليك؟ وهل من أسباب غير معروفة للناس؟
ليس تطاولاً، بل وجهة نظر محترمة وإن أخذت حدودها القصوى، وهي منطلقة من حرصه الشديد على الإسلام، وهو حرصي أيضا.. فأنا ليس لدي مشكلة مع الآراء مهما كانت حادة وأرد عليها.

هل تظن أن هذا الاتهام ستكون له تداعيات قادمة؟
الباب مفتوح لكل الاحتمالات، ولكن توقعي أنه سيبقى في إطار الإثارة الإعلامية والأخذ والرد، وأتوقع أن المحبة ستجمعني بنفس الشيخ وتلاميذه بشكل أكبر بعد جلاء هذه الضجة لشعورهم بأنني حريص على نهضة الأمة الإسلامية، وأفنيت عمري من أجل هذا، وسأموت على ذلك، وإن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين.

الحوار مسلكاً للحقيقة

هل تفكر برفع قضية رد اعتبار؟
معاذ الله، فهي آراء وأخذ ورد، وأطلب من كل من يقرأ كلماتي أن لا يرفع أي دعوة وقضية للمستقبل مهما وصلت الأمور، فنحن نتبادل وجهات النظر وليس مثل الحوار مسلكا للحقيقة، وأنا أقدر حماسة الشيخ وتلاميذه حرصا منهم على الإسلام، وأنا بدوري حريص على بيضة الإسلام، أن لا ينال منه أحد.

هل يمكنك دكتور خالص جلبي الحديث لنا عن فترة الميلاد، في أي بيت رأيت النور أول مرة؟
ولدت في مدينة القامشلي في سوريا في بيت شبه أميّ ولا يحوي كتاباً واحداً.

هناك من يصف مدينة القامشلي بأنها عروس شمال سوريا، كيف قضيت طفولتك بين شجيرات القصب التي اشتهرت بها هذه المدينة الهادئة؟
أي عروس هذه؟ القامشلي مدينتي التي ولدت فيها، ولكنني لا أحبها ولا أحب الفتن والحزبيات والشرانق المغلقة.. وفضلت أن أبني في قرية زوجتي في الجولان بيتا على رابية لعلي أستريح فيه حين سن التقاعد.

تكره مدينة مولدك، فما المدينة السورية التي أحببتها إذن؟
دمشق، فيها تعرفت على زوجتي المرحومة ليلى سعيد توأم روحي، وفيها تعرفت على الكثير من الناس من كل زوايا سوريا، وفيها زرت مراقد الصالحين وقبر صلاح الدين، وفيها تعرفت على علماء أجلاء وأخوة أفاضل.

تحررت من بيئتي الخانقة، ولا عودة إلى سوريا في ظل الأحكام العرفية

كيف كان أثر الوالدين خصوصا على تنشئتك؟
أبواي أنجباني بيولوجياً وأعطياني جينات جيدة ربما، أما البيئة فهي "خانقة" "متخلفة" و"قاتلة للعقل والعقال".. ولم أكن لأكون خالص جلبي لو لم أطلقها بدون عودة، فقد شطبت عليها، وخرجت منها كما تخرج المركبة الفضائية متحررة من جاذبية الثقافة، وما زلت أحمل الكثير من السلبيات من تلك البيئة التعيسة.

كيف كانت بداية تكوينك الفكري، وما أبرز ملامحه الرئيسة؟
صنعت نفسي بنفسي، والصدف دفعتني أمواجا هنا وهناك.

أنت ترفض العودة إلى سوريا في ظل النظام الحالي، لكن سؤالي ماذا ستفعل لو اضطررت لذلك؟
مشكلتي مع سوريا هي الأحكام العرفية، فمتى رفعت ليست عندي مشكلة.

ما هو البلد الذي ستختاره لو قدر الله وغادرت السعودية لأي سبب من الأسباب؟
بلدي هو مكتبتي وأفكاري والأرض لله وأنا عبد لله، أما جنسيتي فهي كندية ومونتريال المدينة الفرنسية الجميلة التي تضم بناتي وأحفادي في انتظاري، والأرض كلها هي موطني.

بماذا يختلف جلبي عن أي سوري يعيش اليوم في سوريا؟
هذه مسألة وجودية، فمن شعر أنه يختنق عليه أن يغادر، ومن شعر أنه يمارس حياته الطبيعية فهو يعيش، وفي القرآن قوله تعالى "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة"...أي حياة.. بالنكرة.

ما هي المدرسة الفكرية التي يرى خالص جلبي أنه ينتمي لها؟
الإنسانية.

هل هي السبب في معاداة البعض لك؟
ربما نعم، من المتوقع ذلك.

في المعتقل ولد مشروعي الفكري

هل من علاقة بين جراحة الأوعية الدموية وبين جراحة العقول فكريا؟
ليس من علاقة؛ فالجراحون مثل الحلاقين، أهل مهنة ولا فرق كبير بين جراح وسائق شاحنة سوى في لون المعطف أزرق أو أبيض، وبينهم وبين الفكر مسافة ثلاث سنوات ضوئية.

ما هي السنة التي تعتبرها سنة حاسمة في حياتك دكتور خالص جلبي؟ ولماذا؟
سنة 1973 كان عاما مفصليا في حياتي حين كنت معتقلا في سجن الحلبوني، وهناك تفتق فكري على مشروع فكري مازلت أعمل على تطوير محاوره وملامحه، وهو مشروع "اللا عنف" أو المقاومة السلمية، وفيه تبلورت أفكاري في كتابي "النقد الذاتي".

ما هي أبرز المؤلفات التي أثرت في تكوينك الفكري؟
أطنان وعشرات الآلاف من الكتب والمقالات وبأكثر من لغة، لكن يمكن القول على سبيل المثال أنه من بين هذه الكتب التي غيرت تركيبة ذهني هناك كتاب الفلسفة لسعد رستم، ومحنة ثقافة مزورة للنيهوم، وبنو الإنسان لبيتر فارب، ومقدمة ابن خلدون، والأحياء للغزالي، والمقال على المنهج لديكارت، والخواطر لباسكال، وقصة الفلسفة لديورانت، وكتاب منطق ابن خلدون للوردي.

لديك كتب كثيرة حول العقل الإسلامي وتنويره وحول "اللا عنف" في العمل الإسلامي وغير ذلك، لكن ما هو أهم كتاب تجده الأقرب إلى عقلك وقلبك من ضمن كل مؤلفاتك؟
ثلاث: الطب محراب للإيمان، النقد الذاتي، وسيكولوجية العنف وإستراتيجية العمل السلمي.

هؤلاء استفدت منهم وتمردت عليهم

تعرفت على المفكر الراحل جودت سعيد الذي تزوجت بأخته المرحومة ليلى سعيد، كيف كانت علاقتك بجودت سعيد على المستوى الفكري؟ وما حدود التأثر والتأثير بينكما؟
جودت سعيد مدرسة ورجل ذو عقل نظيف ويبقى ضمن دائرة النقد واستفدت منه، وهو ليس خارج الخطأ، أو المساءلة، ولقد اختلفت معه في أمور أهمها موضوع حزب الله وإيران.

كان للمفكر الجزائري مالك بن نبي تأثير عليك أيضا، هل لك أن تشرح لنا ماهية هذا التأثير وطبيعته؟
أفكاره ممتازة في خمس أو ست مواضع، ولكنه أيضا تورط في موضوع العجل الناصري . وبصفة عامة، فقد استفدت من الكثيرين في حياتي ولكني في كل مرة أتمرد على من استفدت منه وأحاول تمحيص أفكاره وإعادة النظر فيها ونقدها وتطويرها.

سلاحي قلم ودفتر وفكرة

ما هي طقوس كتابتك دكتور جلبي؟ هل تحب السكون أم الضجيج؟ النهار أم الليل؟ وهل تكتب بتأثير المزاج الجيد أم السيء؟
أكتب في الحافلة والطائرة والمطار والمحفل والعرس والدبكة ومحطة السكة الحديدية، وحين يتشاتم الناس ويصيحون.. سلاحي قلم ودفتر وفكرة في كل زاوية ومحطة.

بطبيعتك هل تحب الاختلاط بالناس؟ أم العزلة حيث قد تجد فيها ذاتك المفكرة؟
صديقي الطفل والقطة والمريض والعامل البنغالي المسكين، وأكره الجبارين والمتشددين والاستبداد وقلة العقل.

كيف تختار موضوعات كتبك التي تؤلفها؟ هل من منهجية معينة؟
وحي يأتي، ونار تنقدح وتتدفق الكلمات على ظهور الجمل والعبارات، كما في لقائي هذا معكم.