ويتباين الراي بين الرفض والقبول لدور النشر

بين العامية والفصحى يتجدد الجدل

خاص - عربيات
صور وفيديو

يتواصل الجدل الذي اشتعل في الماضي بين كبار الكتاب حول استخدام العامية في كتابة الروايات، وينتقل من كبار الكتاب كالدكتور طه حسين الذي رفض العامية جملة وتفصيلا فيما خالفه الأديب يوسف السباعي الذي رأى ضرورة استخدامها في بعض المواضع، إلى رموز العصر الحديث وشباب الرواية العصرية التي باتت العامية سمة مميزة لها وأحد عناصر ارتفاع مبيعاتها. عربيات قامت برصد هذا الجدل وامتداده الذي طال دور النشر والمتهمة من البعض بالمساهمة في خسارة الفصحى سعياً لتحقيق مكاسب المادية.

طه حسين يكتب مقدمة رواية لإدريس منتقدا إستخدامه العامية

بالعودة إلى أحد أهم العصور التي انتعش فيها سوق الروايات العربية، انتقد عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الأديب الدكتور يوسف إدريس لتداخل الفصحى بالعامية في حوارات القصص التي يكتبها وطالبه بأن يترفق بالفصحى، وتمسك حسين باللغة العربية الفصحى المعتدلة وطالب بتحديثها لتواكب التطور معتبرا أن اتجاه الكتاب الشباب في تلك الفترة لكتابه الحوار بالعامية بغرض تصوير الواقع وطبيعة الشخصيات خطأ، فالفن الرفيع – باعتقاده - يهدف للرقي بالواقع وعدم الاقتصار على الأداء والتصوير معتبراً أن الأديب ليس مجرد ناقلاً لكلام الناس على علاته. وتحيز العميد للفصحى مؤكدا بأن العامية لن تصل لأن تكون لغة أدبية لآخر الدهر.
هذا وقد اتجه عدد  من الأدباء إلى تطعيم رواياتهم بالعامية، فقد استخدمها على سبيل المثال الأديب الكبير توفيق الحكيم في الحوار بين شخصيات رواياته مبررا ذلك بأنه لا يستطيع أن يجعل "العتال" أو "الفراش" أو "سائق التاكسي "يتحدثون الفصحى كونها ليست اللغة الطبيعية التي يتحدثون بها وبتصويره لهم وهم يتحدثون الفصحى سيخلق جوا مصطنعا.

قدوس استخدم العامية لـيخلق الأجواء

الأديب إحسان عبد القدوس  دمج بين العامية والفصحى في كتابة الحوار حيث استخدم  في القصص القصيرة العامية وفق حاجته لها ووفق شخصية أبطالها، بينما رجح استخدام العامية في الحوار بين شخصيات الرواية الطويلة لخلق "جو" -على حد تعبيره - ولقناعته بأن الرواية الطويلة إن كتبت بالفصحى ستبدو مفتعلة وسقيمة خاصة إن كان إبطالها لا يتكلمون في واقع حياتهم الفصحى، بينما يستخدم الفصحى في حال كان أبطال الرواية لا يتحدثون العربية .

رأي وقصيدة بين السباعي والرفاعي

فارس الرومانسية الأديب يوسف السباعي انتهج ذات النهج في رواياته، ودعا لاستخدام العامية لأن  في الفصحى قيود تحول بين الأديب والتعبير، وقد رد علي رأيه الشاعر هاشم الرفاعي بقصيدة يدافع فيها عن اللغة العربية بعنوان "حول قيود اللغة العربية" قال فيها:

أشـعـلت حربًا لم تضع أوزارها تـركـت بـكـل صـحـيفـة آثـارها

وحملـة حملتك الجريئة فانبـرت أقلام من خاضوا وراءك نـارها

ورميت أخت الضاد منك بطعنة كــادت تــدك قــويــةً أسـوارهـا

مجبًا؟ أتحـيـون الـتراث بقـتـلهـا

وتــرمــون بــهـدمـهــا منهـارها

ورأيت قـومـاً يـرهـقون عيوبهـا

طلبًا وراحوا يطمسون نضارها

محفوظ والعامية للأمثال الشعبية

أما الأديب الكبير نجيب محفوظ فاعتمد على الفصحى في كتابته للرواية مستخدما العامية في بعض الحالات كالاستناد إلى مثل شعبي أو الاستشهاد بأغنية أو التعبير عن الممارسات التقليدية التي لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال العامية.

 العقاد والرافعي ونقد توجه العميد

الأديب عباس محمود العقاد استنكر استخدام العامية تماما وطبق رؤيته في رواية "سارة"، وانتقد بمشاركة الأديب مصطفى صادق الرافعي استخدام "اللغة البسيطة" أو الفصحى المستحدثة التي دعى إليها طه حسين.

دعوة لتدخل مجمع اللغة العربية

 بالإنتقال من الماضي إلى الحاضر، اتجهنا إلى دور النشر المعنية في المقام الأول بترويج الروايات، إذ أبدى قاسم بركات من دار الفارابي رفضه لاستخدام العامية في الروايات، قائلاً: "لابد أن نحافظ على اللغة العربية السليمة ومكانتها وذلك بالابتعاد عن استخدام اللهجات الخاصة بكل بلد، لان هذا الاستخدام يؤثر على سلامة اللغة ويزيد من تفككها، ولا أرى في استخدام العامية أو اللهجة الدارجة أي إضافة أدبية للعمل الإبداعي أو مساهمة الحبكة القصصية بل على العكس فالعامية تحصر انتشار العمل على نطاق البلد الذي تنتمي إليه، فلكل بلد عربي مصطلحات خاصة به لن يستطيع أي قارئ من بلد آخر استيعابها أو فهمها بسهولة، كما أن بعض الكتاب اتجهوا  إلى الاستعانة بعبارات أو مفردات أجنبية خلفها الاستعمار مثل كتاب المغرب العربي الذي يستخدمون بعض المفردات الفرنسية في الكتابة العربية الأمر الذي يساهم في تشويه وتصدع اللغة". واقترح بركات في ختام حديثه أن يتم التعامل بحزم مع هذه الأساليب من قبل مجمع اللغة العربية.

 

العربية الفصحى ستساهم في تأخرنا والعامية تزيد التواصل

و يخالفه في الرأي إبراهيم هرقل من دار اطلاس، بقوله: "أشجع استخدام العامية في كتابة الرواية، ولو حصرنا ما نكتبه على الفصحى سنتأخر كثيراً خاصة وأن 80% من الأفراد في الوطن العربي يتحدثون بالعامية بصفة يومية  والكتابة بها سترفع من نسبة تواصلهم مع الكتاب، كما تزيد اللهجة الدارجة من الحبكة القصصية ولم تعد كما يرى البعض حكرا على المتحدثين بها، فعلى سبيل المثال مسلسل باب الحارة لاقى انتشار واسع بالرغم من أنه باللهجة السورية التي تم استخدامها كذلك في دبلجة  المسلسلات التركية في الآونة الأخيرة، وهذا ينطبق على عدد كبير من اللهجات العربية التي أصبحت منتشرة ومفهومة على نظاق واسع".

 

 

 

 

تحول الثقافة إلى اقتصاد وراء استخدام العامية

بينما يرى الدكتور مجد حيدر من دار ورد للنشر أن هناك ضرورات تحتم استخدام اللهجات العامية موضحا ذلك بقوله: "أنا ضد استخدام اللهجة الدارجة في العمل الأدبي بشكل عام، لكن هناك ضرورات في الأدب تحتم استخدام بعض المصطلحات العامية فحتى في الآداب العالمي هناك كلمات تكتب بالعامية، ولكن ليس في كتابة العمل الأدبي بشكل كامل فهذا التوجه لايخدم الأدب ويدمر الحالة الإبداعية للغة العربية التي تعد طيعة ومجنحة بوسعنا الاشتقاق منها دون اللجوء إلى العامية، ومن متابعتي لهذا الاتجاه الذي بات ينتشر في الآونة الأخيرة أعتقد أنه يعود إلى الجهل بالإضافة إلى أن الثقافة تحولت إلى عمل تجاري، فلم تعد كما كانت مرتبطة بالهم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ونحن بحاجة لغربلة الأعمال الأدبية قبل نشرها واختيار ما يليق بنشره بقسوة كي نحافظ على مستوى الأدب".

 

الفصحى لاتؤثر على الحبكة والدليل "الأيام"

وفي ذات السياق يقول نبيل نوفل من دار الآداب: "اللغة العربية لغة جميلة وفيها إيقاع غير موجود في العامية، ونحن ضد استخدام اللهجة العامية في الكتابة الأدبية بشكل عام وبشكل خاص في الرواية حتى وإن كان الحوار بين شخصين أحدهما متعلم والآخر غير متعلم، فالواقع أن الكاتب المتمكن من اللغة يستطيع استخدام العبارات المناسبة التي تميز كل شخصية، ولست أرى أن استخدام الفصحى يؤثر على الحبكة القصصية، فرواية "الأيام" بالرغم من أن أحداثها وقعت في القرية إلا أن الدكتور طه حسين كتبها بالفصحى، ولابد أن نراعي أثناء الكتابة والنشر أن الشعوب العربية لا تتحدث ذات اللهجة الدارجة، وأن كل لهجة تحتوي على مصطلحات غير مفهومة". وعن انتشار الروايات العامية اليوم، يقول: "أفسر هذا الاتجاه  في الآونة الأخيرة باستهداف بعض الكتاب للإنتشار المحلي، وهي نظرة ضيقة فمن يملك تطلعات أوسع وأرحب يفضل الانتشار على مستوى أوسع، وهذا ما توفره الفصحى".

 

 

نرفض العامية ونرضخ لها في هذه الحالات

ولدار الساقي تصور إذ يقول عصام أبو حمدان: "دار النشر تعتبر همزة الوصل بين الوطن العربي، وتتجه دور النشر في العادة لاستخدام اللغة العربية الفصحى تسهيلا للمعرفة بين المشرق والمغرب، وفي المعتاد تقوم لجنة متخصصة من قبل الدار بالإطلاع على العمل قبل نشره وقد نقترح على الكاتب بعض التعديلات أو المدلولات، وبالرغم من رفضنا الأعمال التي تكتب بالعامية إلا أننا نرضخ حينما يكون جمهور الكاتب مقتصرا على مدينة أو منطقة معينة تستخدم ذات اللهجة".

 

 

 

 

بعيداً عن الإفراط والتفريط يتكامل النص الأدبي

 ويقول الأستاذ محمد المنقري: "الرواية كما أظن عالم يتوازى مع الحياة بكل تنوعها وأطيافها، وحراكها، وناسها، وأساليب تعبيراتهم، واللهجة الشعبية جزء أساس من اليوميات وعبرها تفيض الدلالات الأكثر ثراءً وعمقاً في نقل الواقع والتعبير عن إيقاعاته ولذا نجد كثيراً من الأعمال العربية تميل إلى استخدام اللهجات الدارجة في ثنايا السرد لتعميق الصوت والصورة بكل أبعادها ليعيش القارئ في عمق الشارع وضمن تفاصيل الصراع وتطوراته، والروائي بذلك ينجز نصاً ممتعاً لكنه محفوف بعلامات استفهام شائكة أحياناً.

وهناك عنصر آخر يساعد على استخدام اللهجات الشعبية وهي عمليات تُكرِّس اللهجات السابقة للعمل الروائي المعاصر وأقصد بها إسهامات الوسائط الإعلامية وخاصة التلفزيون والغناء فقد أسهما في تكريس اللهجة المصرية – مثلاً-  والشامية وحين يجدها القارئ العربي في تفاصيل الرواية فإنه قد لا يجد صعوبة في التعاطي معها بل ستكون ممتعة له وقريبة من نفسه كما فعل أحمد الخميسي في حكايات سائق تاكسي أو ادوار الخراط في كثير من أعماله.

ولعلنا ننظر للموضوع من زاوية من شأنها دعم النص الروائي وخلق قاعدة جماهيرية أوسع لانتشاره وهي تتعلق بعدم الإفراط في استخدام اللهجة الدارجة لأنها ستعيق الانتقال والتواصل الأوسع مع الناس وخاصة حين يستخدم الكاتب لهجات جهوية محدودة لم يتحقق لها التواصل المباشر مع فئات شتى أو لم يكن لها الحضور الإعلامي المسبق، ودعونا نسوق مثلاً بسيطاً يتعلق برواية ( الخبز الحافي) للمغربي محمد شكري، و(عرس بغل) و(الحوات والقصر) للجزائري الطاهر وطار ففي هذه الأعمال أطياف من اللهجات المغربية والجزائرية ولكنها بحدود معقولة ولو أسهب الكاتبان المبدعان في الاتكاء عليها فإن الأعمال ستقع ختماً في دائرة المحلية الضيقة ولن يستطيع قارئ في الخليج أو غيره أن يتواصل مع النص كما يجد ربه.

 وختاماً يبقى النص الروائي العظيم متواصلاً مع الناس وقريباً من نفوسهم حين تتكامل فيه البنية الحقيقية للرواية بكل دهشتها، ونموها، وجرأتها على الاقتراب من العالم الحي، وعدم التهادن مع الترويج الفج أو الإنشائية الاستعراضية فلن تكون اللهجات الدارجة منقذاً لنص ضعيف أو سنداً لكاتب استعراضي والكل يتذكر أن النصوص الروائية المترجمة إلى العربية كتبت بلغة لم تتخللها اللهجات الدارجة، وكذا النصوص الرائدة لعبد الرحمن منيف أو جبرا إبراهيم جبرا أو غيرهم كتبت باللغة العربية الفصيحة واستخدم مبدعوها قاموساً عربياً أصيلاً وثرياً ضمن نسق سردي استطاع صناعة حياته الخاصة وعالمه الأبقى."