عربيات تفتح باباً على حلم الشباب (مدينة العقول الخليجية)

رعاية الموهوبين صناعة واستثمار

الطائف: سلطان المنصوري
صور وفيديو

سعياً نحو "توطين" العقول وإيقاف هجرتها، ولأن الشباب هم محور ارتكاز الأوطان، تفتح عربيات الملف عن "هجرة العقول" وهي الظاهرة التي خسرت بسبها الدول العربية الكثير، فاتجهت نحو أساليب المعالجة، وبات إنفاق الدول الخليجية في السنوات الأخيرة لافتاً إذ تضخ المليارات من موازناتها المالية لدعم الابتكار، والاختراع، ورعاية الموهبة، فأنشأت مؤسسات ذات صفات اعتبارية عليا كمؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع التي يرأس مجلسها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله – ومؤسسات في دول الخليج وجوائز عدة تجد داعمها الأول الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، رئيس مجلس الوزراء، وحاكم إمارة دبي.

كيف تنظر القيادات إلى الشباب؟
من أقوال خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز: "الأجيال القادمة هم الثروة الحقيقية والاهتمام بهم هدف أساسي". ومن خلال هذه الرؤية أنشئت جائزة خادم الحرمين الشريفين لتكريم المخترعين والموهوبين (تكريم) بقرار من مجلس الوزراء والتي تهدف إلى الإسهام في تطوير مجالات العلوم والتقنية في المملكة، والمنتجات القائمة عليها، دعماً للتحول إلى مجتمع المعرفة، ولتشجيع وتكريم المخترعين والموهوبين المتميزين في المجالات العلمية، والتقنية والإنتاج الفكري، وتنميةً لروح الإبداع، والابتكار، والاختراع، وتحفيز المواهب والقدرات، وأيضاً تحفيز طاقات أفراد المجتمع، وحثهم على التنافس المثمر، وتحفيزهم على الابتكار في المجالات العلمية والتقنية المختلفة.


وفي أحد مقالاته قال الشيخ محمد بن راشد: "إنني أنظر إلى هؤلاء الشباب باعتبارهم مصادر غير عادية لبناء الأمة" ووجه في كلمتة للشباب في القمة الثالثة لريادة الأعمال: "أقول للشباب، أنتم تستحقون الأول والأفضل والأكبر، فقط إذا آمنتم بأنفسكم وقدرتكم على التحدي، نلتقي اليوم هنا لأننا نؤمن بقدرات الشباب، ولأننا نعرف حق المعرفة أن المستقبل لا يصنعه إلا الرواد، والتاريخ لا يغيره إلا أصحاب الشجاعة والإقدام، والنجاح لا يأتي إلا لمن سلك دروب لم يسلكها أحد قبله، واليوم في هذا المؤتمر بدأنا خطوة تتبعها خطوات، وفتحنا طريقاً وسيتبعنا غيرنا، نحن جميعاً شركاء ونحن مسؤولين عن خلق بيئة مناسبة لهؤلاء الشباب حتى يبدعوا وينطلقوا وينهضوا بدولهم ومجتمعاتهم."


تلك الرؤى هي التي أنشئت مكتب براءات الاختراع لمجلس التعاون لدول الخليج العربية التابع للأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية والذي يهدف إلى تشجيع البحث العلمي والتقني بين دول المجلس وتسهيل انسياب التقنية ودفع عجلة التنمية الاقتصادية في المنطقة، وتشجيع الأفراد نحو استثمار الأفكار في المجالات المنتجة، وتنشيط السوق الصناعي والتجاري بتقديم نوعيات جديدة من المنتجات، والمساعدة على التقدم الصناعي والزراعي في المنطقة عن طريق قيام الأفراد والمبدعين والمبتكرين والمخترعين بنشر أفكارهم التي تخدم هذه المجالات مع المحافظة على حق ملكيتهم.

وقد سجل مكتب براءات الاختراع لمجلس التعاون لدول الخليج العربية 2614 طلب خلال عام 2013 م مقارنة بـ 3001 طلب بعام 2012م. وتراجعت عدد البراءات الممنوحة سنوياً، ففي عام 2013م تم منح 319 براءة، وفي عام 2012م تم منح 343 براءة، مقابل 512 براءة في عام 2011م.



حديث حول الموهبة مع المختصين:
تتحدث المستشارة الإماراتية ناديا بوهنّاد الحاصلة على دكتوراة في تربية الموهوبين عن ضرورة إيمان الدول بالمواهب ودعمها حيث تقول لـ "عربيات": "الدول المتقدمة في المجال الفكري والعلمي هي من تبادر في الإيمان والاهتمام بالمواهب، أما دعمها فيعتمد على قوة اقتصاد الدولة، حيت أن هناك دول بها عقول نابغة ولكن بسب اقتصادها المتردي لا يحصل الموهوب على الدعم الذي يجب أن يحصل عليه، والعكس صحيح هناك دول لديها من الإمكانات المادية الكثير مثل دول الخليج ولكنها لا تمتلك الوسائل والسبل التي تدعم من خلالها الموهوبين، الاهتمام والرعاية والدعم مطلوب في كل الحالات لأن الموهوبين في أي دولة هم رأس المال الحقيقي لتلك الدول والاستثمار فيهم يُظهر نتائجه لاحقا بعد سنوات".

من جهته يرى عضو مجلس الشورى السعودي البروفيسور عبدالله الجغيمان والذي يرأس الجمعية العالمية لأبحاث الموهبة والتميز بألمانيا أن: "الدول التي تعنى بمستقبلها، وتطمح في المنافسة العالمية لا سبيل لها لتحقيق ذلك إلا أن تعنى بصناعة الموهبة ورعاية الموهوبين. العناية بأصحاب القدرة على تقديم إسهامات عميقة ومهمة في حاضر المجتمع ومستقبله ليس بشأن ثانوي أو اختياري بالنسبة للشعوب التي تعد أمر تقدمها وتفوقها أول أولوياتها، وإن وجود فكر يتبنى صناعة الموهبة في كل مدرسة ومنزل ومؤسسة ليس بأمر يمكن حدوثه بالتمني أو المصادفة أو بمجرد مرور الزمن، بل المسألة في حاجة إلى صناعة مقصودة موجهة على بصيرة وذات رؤية واضحة تلامس حاجات المجتمع الحقيقية".

بدوره يرى الدكتور شافع النيادي عضو مجلس إدارة جمعية الموهوبين بالإمارات أن بعض العقول إن لم تهاجر فقد تستغل موهبتها بشكل سلبي، ويشدد على ضرورة الرعاية بقوله: "لهذا يجب على الدول أن تقوم بتنمية وتطوير وتبني هذا الكنز والثروة التي ستغذي الوطن بالفكر والإبداع والابتكار مما له الأثر الإيجابي على الجانب الاقتصادي والاجتماعي وغيره من الجوانب، وقد أثبتت الدراسات العلمية  أن نسبة المبدعين من الأطفال من سن الولادة حتى سن الخامسة تصل إلى 90% منهم، وعندما يصل هؤلاء الأطفال إلى سن السابعة تقل تلك النسبة لتصل إلى 10%، وما أن يصلوا إلى الثامنة حتى تحط الموهبة رحالها على 02% منهم فقط، معنى هذا أنه على الدول البحث والاهتمام بالموهوبين منذ نعومة أظفارهم قبل أن يتقلصوا وتقل نسبة وجودهم، أو تُعدم مواهبهم."

وتطالب بوهنّاد "الحكومات في الدول العربية بتبني الموهوب من مرحلة ما قبل المدرسة، من خلال برامج القياس المخصصة للكشف والتعرف على الموهوبين ومتابعة الطفل الموهوب في كل مرحلة مع التركيز على التنوع والإثراء في المادة العلمية التي يتم تدريسها للموهوب لأن الطفل الموهوب سرعان ما يشعر بالملل من مستوى المواد العلمية كما هي الآن. بعد المتابعة يجب أن يكون هناك صقل لموهبة المشخص في مجال ما والعمل على تلبية المتطلبات المادية والبيئية وتهيئة الظروف النفسية للموهوب حتى يبدع ويعطي في مجاله، وكل ذلك يجب أن يتم من خلال العمل مع الأسرة وتفهمها."

ويناشد النيادي الحكومات بقوله: "لابد من رسم خارطة طريق لاستثمار موهبتهم بما يخدم مجتمعهم ووطنهم، وذلك بتذليل الصعوبات التي يواجهونها، وضمان حقهم في الجهود المبذولة وكذلك التطبيق العملي لمواهبهم ومخترعاتهم وابتكاراتهم، بحيث تخدم المجتمع ويكون لها دور هام في تقدمه وتطوره، وأيضا لابد من تثقيف الأسر وأولياء الأمور بكل ما يتعلق بالموهبة، بحيث تدرك الأسرة أهمية ابنهم والعناية به عناية خاصة وتوفير البيئة المناسبة والمشجعة على الإبداع والابتكار حيث كلما ازداد وعي وثقافة الأسرة بمعرفة موهبة الابن وما يملكه من قدرات تتبع هذه الموهبة، كانت الفرصة أكبر من الاستفادة من إمكانياته وقدراته وتوجيهها الاتجاه الصحيح، وتجنيبه الإحباط أو الانحراف".

وعن الموهوب توضح بوهنّاد أنه في الغالب شخص غير اجتماعي بطبعه، وهو لا يلجأ إلى الآخرين بل ينتظر من الآخرين أن يبادروا بالدعم".


الموهوب لا ينسحب، بل تزيده العقبات عزيمة وإصراراً
وينقل النيادي بوصلة حديثه إلى الشباب الموهوب مقدماً نصائحه لهم بقوله: "كل شخص موهوب لابد وأن يمتلك الصبر والإرادة والمثابرة لتنمية موهبته، ولا يكتفي بما تقدمه له حكومته، أو يتحجج بعدم تعاون الآخرين معه، يجب عليه أن يثابر ويبحث ويناضل ليصل إلى مبتغاه، فلو كان النجاح سهلا لكان الجميع ناجحين ومتميزين، لهذا على الموهوب أن يوظف ما وهبه الله له بخدمة مجتمعه ووطنه، ولا يربط  خدمة المجتمع فقط  بتوفير المعونة والمساعدة. بل تكون أيضا بتطوير مهاراته والمثابرة في طلب العلم وكسب الخبرات، ولا يسمح  للمحبطين والمتشائمين بأن  يؤثروا على همته وإرادته. فالعطاء أمر مرتبط بديننا ومبادئنا وقيمنا وليس مشروطاً بوجود عطاء في المقابل، ولا تبرر انسحابك بمبررات مواجهتك الصعاب والعقبات والفشل، لأنك لو تتبعت أكثر المبدعين والمخترعين لرأيت أنهم واجهوا جبال من الصعاب والعقبات، بل فشلوا عشرات المرات، لكن لأنهم موهوبين ومبدعين لم ينسحبوا أو يحبطوا، بل العكس زادتهم هذه العقبات والمصاعب إصراراً وعزماً وإرادةً على المواصلة والاستمرار على طريق النجاح والتميز والإبداع."

ويخاطب الجغيمان المؤسسات التعليمية وذات العلاقة بثقافة الابتكار والموهبة بحديثه قائلاً: "يجب أن تعي المؤسسات التعليمية أن رعاية الموهوبين صناعة وليست مجرد خدمة يتم تقديمها، هي صناعة مهنية راقية ومفصلية في حياة ومستقبل مجتمعاتها. وإن التصور الذي يحمله المجتمع بسائر مؤسساته عن الموهبة والموهوبين عامل رئيس في صناعة الموهبة. ولذلك فإن من الحكمة أن تبدأ المؤسسات التعليمية بترسيخ هذا التصور في عقيدة منسوبيها وأنظمتها وسلوكياتها ومناهجها".

 

 


الموهبة لاتبرز في مجتمعات لاتعترف بالاختلاف
كما تشير بوهنّاد إلى أن "ثقافة الموهبة لا يمكن أن تبرز في مجتمع لا يعترف بالاختلاف والمرونة، بمعنى أنه لن يستطيع الكشف أو التعرف على الموهوب معلم تقليدي وعادي في طريقة تفكيره ولا يملك العلم والخبرة في هذا المجال وغير مرن، لذلك وجب على المؤسسات الحكومية أن تضع شرطاً من شروط الالتحاق بالتدريس غير الكفاءة في المادة العلمية التي يدرسها المعلم هو أن يخضع لدورات تدريبية مكثفة قبل التدريس في طرق الكشف والتعرف على الموهوب وكيفية التعامل معه، ومن ثم متابعته لما يجد في هذا المجال سنوياً".

وهنا يلمح الجغيمان إلى أن: "رعاية الموهبة ليست مناسبات عامة، واحتفالات موسمية، ومسابقات محلية ودولية، وظهور إعلامي هنا وهناك، وإنما هي عمل جاد طويل المدى يتطلب رؤية إستراتيجية وتنفيذ منظم ومركز بما يخدم حاضر الموهوبين ومستقبلهم ومستقبل أوطانهم."

ومن خلال "عربيات" يوجه الدكتور شافع النيادي رسالته إلى العقول الخليجية بقوله: "تحلوا بالصبر والمثابرة ولا تستعجلوا الأحداث والنتائج، نحن نتعامل مع بشر لا نتعامل مع آلات أو مصانع ننتظر المخرجات في حينها! بل نحن نتعامل مع تنمية مواهب، فثمارها لا تقطف في لحظتها، وكذلك لابد من التطوير المستمر والمتواصل فلا نكتفي بهدف معين ونقف، واعلم أنه من يقول وصلتُ إلى قمة طموحي وأهدافي، فهذه هي بداية نزوله للأسفل. التزموا التخطيط والتنظيم والتقييم، لا تبنوا مواهبكم وإبداعاتكم ومخترعاتكم على العشوائية والتخبطية. وكذلك أرجو من العقول الخليجية استثمار الوقت وعدم التأجيل والتسويف لإبداعاتهم بل التزموا بخططكم التي وضعتموها. قد تواجهون النقد والتذمر والإحباط، لكن عليكم أن تجعلوا هذا النقد هو العدسة التي ترون من خلالها ما لم تستطيعوا أن تروه  بأعينكم المجردة. خذوا هذا النقد من الناحية الإيجابية وابدأوا بالتعديل والإصلاح إن احتجتم  ذلك، وإن كان مجرد النقد ليس له من المصداقية شيء فقد اكتسبتم خبرة".

من جهتها توجه المستشارة الإماراتية ناديا بوهنّاد رسالتها إلى العقول الخليجية بقولها: "أدعو العقول الخليجية بشكل عام لعدم إصدار الأحكام المسبقة والبعد عن الانغلاق ومحاولة تقبل الآخر وكل جديد منه من دون انتقاد، أما للعقول الخليجية الموهوبة فأدعو إلى عدم الاستسلام والاستمرار في التغريد خارج السرب لأن صوت الموهوب وعمله وموهبته ستصل إلى الآخرين بإصراره والمطالبة في حقه للدعم لأنه جزء من المجتمع كغيره".

مدينة العقول الخليجية:
حول الفكرة التي تطرحها "عربيات" بإنشاء مدينة للعقول الخليجية تقول الدكتورة الإماراتية ناديا بوهنّاد: "الفكرة رائعة ولكن الخبرات السابقة غير مشجعة ولا تدعو إلى التفاؤل حيث أن معظم الدول التي دعت إلى تبني الموهبة والموهوبين- باستثناء الأردن- حولت الأفكار إلى شعارات فقط من أجل جذب انتباه الرأي العام وفي الغالب لا يتم تطبيق الأفكار إلى واقع عملي تطبيقي. ولكن التطبيق ممكن في ظل وجود أفراد موهوبين قائمين على العمل ومتابعته حتى تكون المخرجات واقعية وعملية، لا أن يتم ذلك من قبل عقول منغلقة لا تقبل التغيير، المجتمعات العربية بشكل عام تخاف التغيير وتقاومه، والموهوب دائماً يأتي بما يحمل التطوير ولكن مع التغيير."

ولم يخفِ المتخصص في برامج الموهوبين وتنمية التفكير الدكتور عبدالله الجغيمان حالة عدم الرضا التي يتوقعها لهذه الفكرة ويقول: " تتحقق هذه الرؤية عندما تعتنق مجتمعاتنا الاحترافية والمهنية العالية في رعاية هذه العقول بمنهجية علمية وخطط طويلة المدى بعيداً عن المبادرات الشخصية والآراء الفردية والأفكار الآنية."

أما الدكتور شافع النيادي يؤيد هذا الحلم بقوله: "يستحق هذا الحلم أن يصبح واقعا بزرع ثقافة الموهبة في مجتمعاتنا والتي من خلالها ستقوم الدول بالاهتمام بالموهوبين وتحفيزهم على الإبداع والابتكار وتذليل العقبات والصعاب التي يواجهونها. وكذلك لا بد من دور الإعلام في هذا الجانب لإبراز المواهب، والذي بدوره يُسهل على المسؤولين القائمين على فكرة (مدينة العقول الخليجية) العثور على الموهوبين، ولابد من التطبيق العملي البارز والملموس لأفكار وإبداعات الموهوبين، وأن لا تكون مجرد مؤتمرات وورش عمل دون مخرجات ملموسة".