كفوا عن تشكيل أحلام أبنائكم

أخصائية علم النفس د.مرفت جودة تطلق صيحة تحذيرية للآباء

عربيات: القاهرة - إيهاب سلطان
صور وفيديو

أفرزت الحياة العصرية الكثير من الضغوط النفسية التي تلاحق الإنسان منذ طفولته وطوال حياته مما جعلته عرضه للإصابة بالأمراض النفسية، فمنا من يتمكن من التغلب على تلك الضغوط والصمود أمامها فيهزمها ويتحرر من أمراضه النفسية، ومنا من يفشل في التعامل معها فيلجا إلى كبتها والحرص كل الحرص على عدم معرفة أحد بها حتى تتفاقم معه ليصبح أسير لأمراضه النفسية.
( عربيات ) التقت بـ " د. ميرفت جودة " المعيدة بكلية البنات جامعة عين شمس والمتخصصة في علم النفس، وكان هذا الحوار .



في البداية هل مايزال العزوف عن زيارة المريض للعيادة النفسية شائعاً ؟ وماهي الأسباب ؟
الإنسان يحب أن يظهر دائما في عيون الآخرين بصورة كاملة، والمرض النفسي نوع من النقص في نظر صاحبة، لذلك يسعى المريض النفسي بكل ما يملك إلى التستر على مرضه خشية أن يعلم الآخرين به، ويتفاوت هذا التستر من مجتمع لمجتمع، بل في داخل المجتمع نفسه يتفاوت من طبقة لطبقة، وتجد الإحساس بأن المرض النفسي شيء فظيع وعار في الطبقة الوسطى من المجتمع، ولا يمر بهذه الفظاعة في الطبقتين سواء الطبقة العلي أو المتدنية.
المريض النفسي يذهب للعيادة النفسية في حالتين، الأولى بعد أن يفشل علاجه عن طريق المشايخ فيأتي إلى الطبيب النفسي حاصلاً على دعم ورخصة من المحيطين به سواء الأسرة أو العائلة، والنموذج الثاني يملك الفهم والوعي الكامل بضرورة استشارة الطبيب النفسي وهذا النوع يزداد الآن بصورة كبيرة دلالة على زيادة الوعي عند الناس بأهمية استشارة الطبيب النفسي... ويتراجع الإحساس بالخوف عند المريض من الطبيب النفسي عندما يجد نفسه في أحسن حال وأفضل مما كان عليه، وأن عمله تحسن و علاقاته بالآخرين أصبحت ناجحة وكأنه كان مصاب بنزلة برد ومن الله عليه بالشفاء.

ولكن يزداد خوف المريض من طرق باب عيادة الطبيب النفسي إذا كان المعالج سيدة، فما رأيك في ذلك؟
المعالج النفسي لا يرى نفسه كرجل أو سيدة أمام المريض، هو يرى نفسه إنسان يستطيع أن يساعد الآخرين سواء كان رجلا أو سيدة أو صغيرا أو كبيرا في السن... يبحث في كيف يساعد الناس... أما المريض النفسي فهناك نوع لا يرى هذا الاختلاف ولا تفرق معه كثيرا إذا كان الطبيب المعالج رجل أم سيدة ولا حتى محدد ملامحه، وهناك مريض صاحب موقف خاص من الأنثى سواء كان المريض رجل أو سيدة، وأتصور أن أفضل حل لعلاجه هو أن يكون المعالج له طبيبة، والعكس صحيح أي إذا كانت مريضة عندها مشكلة من التعاون مع رجل فأفضل معالج لها هو الطبيب الرجل ولكن لا يمكن الضغط على المريض في اختيار جنس من يعالجه.
وفي اغلب الأحيان عكس النوع مفيد جدا للمريض لأن مشكلة الناس هي كيف ترى الطرف الأخر يفكر، وجائز أن يدفع هذا الاختلاف ـ اختلاف جنس المعالج ـ المريض إلى تصحيح مفاهيم عديدة مغلوطة عن علاقته بالجنس الآخر.

المريض النفسي له طبيعة خاصة، فيتعجل الشفاء وهو ما لا يتحقق حيث يطول مشوارا لعلاج النفسي، فكيف تتعاملين مع هذه الإشكالية؟
كل المرضى يتعجلون الشفاء وهذا الأمر طبيعي ولابد من أن نلتمس لهم الأعذار، ولكن المريض النفسي له تاريخ طويل مع المرض والألم، وعندما يذهب للطبيب النفسي تكون فرصة عظيمة ليرى مرضه ويعالجه لأن التفاعلات النفسية تكون تشابكات تحتاج لمزيد من الوقت لفكها وحلها بمعنى أن جرح المريض النفسي قديم جدا وهو يتحمل نزيفه الداخلي منذ سنوات طويلة ولا يذهب للعيادة النفسية إلا بعد أن يفقد السيطرة على هذا الجرح، ولذلك العلاج النفسي هو فتح الجراح وتنظيفها حتى الشفاء منها على عكس العيادة الجراحية التي يتم فيها إغلاق الجراح ووقف النزيف ومن هنا يجب أن احترم خوف المريض جدا، ورغبته في الشفاء السريع.

يرى البعض صورة الطبيب النفسي في الإعلام، وخاصة في السينما صورة مشوهة إلى حد كبير فكيف تراه ميرفت جودة؟
الإعلام ليس متهم عندي، وصورة المعالج النفسي في السينما بالنسبة لي ليست مشوهة إلى هذا الحد، فهي صورة قد تكون مساعدة للناس على فهم ضرورة اللجوء إلى الطبيب النفسي وزيارته كلما أحسوا بآلامهم النفسية.

ولكن الصورة النمطية التي ترسخت عن الطبيب النفسي في ذهنية المتابع للأعمال الدرامية تقترب إلى الشخصية المضطربة غريبة الأطوار والتي ربما أصابتها العدوى من كثرة الحالات النفسية التي تتعرض لها، فإلى أي مدى تنطبق تلك الصورة على الواقع؟
الطبيب النفسي إنسان متصالح مع نفسه ويتعامل مع كل جديد على شخصيته بسرعة فائقة وإذا فقد القدرة على ذلك لابد أن يرفع الراية البيضاء ويتوقف عن علاج المرضى، فالفرق بين المعالج والمريض كبير جدا، المعالج إنسان له القدرة على حل مشاكله ويستطيع أن يواجه نفسه، ولا مانع في ذلك فكلنا بشر نمر بظروف نفسية في مجتمعنا المعاصر، ولا مانع أن يرجع إلى زملائه لو هناك مشكلة تضايقه لأن العلاج النفسي أمانة ولو فقدها لحس المريض بها وبالتالي يفقد التواصل وسيصبح عمله مجرد مهنة يتكسب من ورائها... بالعودة إلى الأفلام السينيمائية التي أظهرت المعالج النفسي محاصراً بالمشاكل النفسية ويعاني من المرض النفسي وذهبت إلى أبعد من ذلك في تصويرها للمعالج على أنه مريض يخضع لعلاج المريض الذي طرق بابه وهذه صورة تضخيميه هدفها الكوميديا ورغم ذلك هي صورة فيها فن كبير توضح أن كل إنسان له مشاكله الخاصة التي تؤرقه بعيدا عن كونه معالج أو مريض والفرق كما قلت أن المعالج يستطيع أن يتعامل مع مشاكله على عكس المريض.

الفتوى في الأمراض النفسية مشكلة تؤرق المريض النفسي، الجميع يملك الحل مما يزيد من تدهور الحالة النفسية للمريض، فما رأيك في ذلك؟
هذه ثقافتنا في المجتمعات الشرقية، الكل يعلم، والكل يفتي، وعيب كبير أن نقول لا نعلم أو لا نعرف، وقد نشأنا على ذلك منذ طفولتنا، فهي ثقافة مجتمع، ولم نتربى على الاعتراف بأننا لا نعلم أشياء كثيرة لأن الإعتراف في تصورنا يعني الضعف الذي نخشى إظهاره، ومثال على ذلك الأب يتعامل مع أولاده بأسلوب يؤكد به أنه خبير في جميع المجالات، وعندما يجد ابنه قد تعثر في حل مسالة رياضية مثلا يحاول هو حلها وقد يكون غير حاصل على شهادة تؤهله لذلك فتكون النتيجة أنه يفشل في ذلك فيضطر لإلصاق تهمة فشله في ابنه بأنه بليد و تكون النتيجة توريث أبنائنا الكذب وعدم الصدق مع النفس .

كيف ترى د. ميرفت المريض النفسي الذي يزور عيادتها ؟
المريض النفسي شبه متوقف عن ممارسة الحياة، وهو شخص حساس جدا يرى أكثر مما يراه الآخرين، وله القدرة على إيجاد علاقات بين أشياء ليس لغيره القدرة على كشفها وهذه أحياناً مشكلته... والتشخيص السليم له هو انه إنسان متوقف لفترة وسينطلق، ويحتاج فقط لمن يساعده على هذه الانطلاقة بمجرد فك التشابكات النفسية التي تعرقل مسيرته في الحياة .

برأيك ما هو المرض النفسي الذي ينتشر كوباء في بيوتنا العربية؟
الغربة داخل الأسرة، فالإنسان قد أصبح غريب داخل أسرته وتزداد هذا الغربة مع الأسف لتتراجع الفكرة القديمة عن الأسرة بأنها الحضن الدافئ والبيت والملجأ الأخير، كل ذلك أصبح من الشعارات التي يرددها الإعلام فقط والواقع غير ذلك، حيث تنعدم داخل الأسرة مشاعر الدفء وتسود انعزالية كل فرد من أفرادها بهمومه الخاصة .

وما سبب هذه الغربة؟
انعدام الحوار داخل الأسرة، واقصد هنا الحوار الغير محدد الملامح بمعنى الحوار المفتوح لمناقشة كل أمور حياتنا، وهذا الحوار هو الذي يعطي للابن أو الابنة إحساس بأن مشكلته الخاصة هي مشكلة عامة داخل الأسرة، وان اهتماماته وأحلامه هي مثار اهتمام من كل أفراد الأسرة، وانه ليس حصان سبق للتحصيل الدراسي أو التفوق الرياضي أو الاجتماعي لمجرد التباهي به، ولذلك أطلق من خلال ( عربيات ) صيحة تحذيرية لكل أب ولكل أم تقول : " كفوا عن التعامل مع أولادكم كدمى تشكلونها وفق أحلامكم لتحقيق رغباتكم أنتم دون الاهتمام برغباتهم أو أحلامهم". على الآباء أن يكونوا عونا لأبنائهم لتحقيق أحلامهم كما عليهم النظر لحياتهم بأعين الأبناء أنفسهم... يحضرني مثال حي أثير في أحد البرامج في الإذاعة المصرية عن فتاة متفوقة دراسيا وهي من أسرة فقيرة، تملك قوت يومها بصعوبة شديدة، واجتازت هذه الفتاة شهادة الثانوية العامة بمجموع كبير يؤهلها للالتحاق بكلية الطب ـ حلم والدها ووالدتها الفقراء ـ وتصورا الأب والأم أن ابنتهما ستحقق أحلامهما في أن تكون طبيبة وهو ما يتعارض مع حلم الفتاة في أن تكون سكرتيرة ناجحة وأن تلتحق بمعهد السكرتارية، وبالفعل دخلت الفتاة كلية الطب بناء على رغبة الأبوين، وبعد مرور عدة شهور فشلت الفتاة في الاستمرار في كلية الطب، واتخذت قرار بتحويل أوراقها إلى معهد السكرتارية دون علم أبويها، ولم تجرؤ على كشف سرها ورغبتها لهما.... وهذه هي الكارثة الكبرى، فقد نجحت الفتاة بتفوق داخل معهد السكرتارية،وتخرجت دون علم الأبوين اللذان يعتقدان أنها ما زالت في كلية الطب، وأنها ترسب في كل سنة وهذا شان كلية الطب ودراستها الصعبة.... ومرت السنوات والتحقت الفتاة بعمل دون علم الأسرة واستطاعت بنجاح كبير ادخار مبلغ كبير من المال ـ 50 ألف جنية مصري ـ ولكنها لا تستطيع التصرف في أموالها، والأب والأم متمسكان بحلمهما في أن تصبح ابنتهما طبيبة رغم أنها تبلغهما كل عام أنها رسبت فكيف تتصرف؟ هذه هي المشكلة التي طرحتها الفتاة عبر الإذاعة، وهذا مثال حي للغربة داخل الأسرة.

ألست معي أنه حلم مجنون؟ كيف أوافق ابنتي على الالتحاق بمعهد سكرتارية وهي متفوقة وحصلت على ما يؤهلها لكلية الطب؟!!!
معهد السكرتارية ليس أفضل من كلية الطب، ولكنه في هذه الحالة هو أفضل من كلية الطب وجميع كليات العالم لأن الفتاة اختارته، والدليل على ذلك نجاحها بتفوق في اجتياز دراسة المعهد، وأيضا نجاحها في الحياة العملية و ادخارها هذا المبلغ الذي يعجز الكثير من الأطباء تحقيقه في فترة قصيرة....الحلم جميل والأجمل أن يكون حلمي أنا وليس حلم غيري، وليس بوسع أحد أن يحلم لغيره لذلك لابد من أن نفهم مايريده أبناءنا ونفرق بينه وبين مانريد نحن .

الغربة بين الأزواج باتت قنبلة موقوتة داخل الأسرة فما هو تعليقك على ذلك؟
" زواج ابني بالأمس واليوم طلاقي، الحمد لله قد أتممت رسالتي وكفى" هذه العبارة نسمعها كثيرا من الآباء في البيوت، فالأزواج يتحملون الحياة الزوجية فقط من أجل أولادهم، فآخر ابن أو ابنة تزوج في الأسرة يعني الخلاص من الرباط الذي كان يخنقهم، هكذا ينظر الأزواج مع الأسف، والسبب هو أن الأزواج ينظرون للحياة الزوجية على أنها مفرخة للأبناء وليست حياة كاملة يجب أن يتوفر فيها الرضا والقناعة بالطرف الآخر مما يؤدي إلى تفاقم الغربة داخل كل زوج، ويعزز الاحساس بأن الحياة الزوجية ليست شركة اقتصادية ساهم الاثنين فيها، ولعلاج هذا لابد من وقفة من كل طرف لمراجعة نفسه وتصرفاته والكف عما يضايق الطرف الآخر، فالدليل على أن الحب هو الذي جمع بين الطرفين هو الزواج والإنجاب،وأن غربة كل واحد منهما سببها تجاهل راحة الأخر أو عدم احترام رغبات شريكه.

هل المرأة أكثر اعترافا بالمرض النفسي أم الرجل ؟
المرأة أكثر اعترافا بالمرض النفسي على عكس الرجل، وهذه ثقافة مجتمعاتنا الشرقية فالمرأة لا ترى عيبا في البكاء والتعبير عن الألم على عكس الرجل الذي يكابر والألم يفترسه، وهذا لايعني بالضرورة أن المرأة تختلف بطبيعتها في هذه النقطة عن الرجل ولكنها ثقافة المجتمع.

في النهاية، لكل مهنة نوادرها فماهي أندر المواقف التي قابلتك في عملك ؟
في بداية عملي دخل مريض العيادة وجلست معه، ثم انصرف على موعد بجلسة أخرى، وعندما جاء في الجلسة الثانية فاجأني بعصبيته التي انتهت في لحظات ليخرج من جيبه مسدس ويردد سأقتلك وأقتل نفسي، وتعجبت من كمية الثبات في تعاملي مع هذا الموقف، فأنا لا اعرف إذا كان هذا المسدس حقيقي أم لا، ولا أعرف إن كانت به طلقات رصاص... تعاملت معه بهدوء شديد جدا حتى بكى وحكى عن أشياء كثيرة لم يكن يحكيها من قبل، وهذه الواقعة غيرت من مجرى حياتي وأكسبتني خبرة كبيرة في التعامل مع مثل هذه الحالات.

وهل من موقف أخر ؟
المواقف كثيرة ولو لا احترام خصوصية المرضى لسردت الكثير منها لكن الأمانة تقتضي الحفاظ على أسرار المرضى لمساعدتهم، حيث ينتهي الحديث معهم عن أسرارهم بمجرد الشفاء ليصبحوا أصدقاء بعد ذلك.