هذه أخطاء الدولة في محاربة العشوائيات، والحل في الدمج

الباحث المغربي الدكتور عبد الجبار شكري

خديجة الفتحي - المغرب
صور وفيديو

تبنت الحكومة المغربية مشروع محاربة السكن الغير اللائق دون أن ترفقه ببرنامج لمحاربة تبعاته، حيث أفرزت العشوائيات كل أشكال التطرف والانحراف وبالتالي استطاع هذا المشروع تغيير الهندسة السكنية دون أن يقوم على تغيير الهندسة الاجتماعية، فبرزت مركبات حديثة تتساكن فيها مجموعة من الأنماط الحياتية التي كانت سائدة في الأحياء الصفيحية، بل نجدها تتسع وتزداد سواء تعلق الأمر بالسرقة أو الإجرام أو البغاء وبروز شقق مفروشة لم تعد تقتصرعلى الأحياء الراقية، كما اتخذت ملامح التدين غطاءاً للتخفي من رقابة المجتمع عبر المزاوجة ما بين الأسلوب الأفغاني والأمريكي، ويستعرض الحوار الذي أجرته "عربيات" مع  الدكتور عبد الجبار شكري الباحث في علم الاجتماع وعلم النفس، مدى نجاح الدولة المغربية في برنامجها للقضاء على السكن العشوائي.

إلى أي حد استطاعت الدولة المغربية محاربة السكن العشوائي والذي سكنت تحت سقفه الكثير من الموبقات، وتعايش تحت ظله التطرف الديني والبغاء والكثير من مظاهر الإنحراف؟
سعت الدولة المغربية في غضون العقد الأخير إلى إعادة تنظيم المجال العمراني للمدن ورفعت شعار "من أجل مدن بدون صفيح" بعدما استشعرت خطورة هذه العشوائيات التى أضحت مرتعاً للتيارات الدينية المتطرفة، كما شكلت بؤراً لإنتاج الدعارة ومرتعاً للجريمة بكل أشكالها من التجارة في المخدرات إلى السرقة واعتراض سبيل المارة، وانطلاقاً من الهاجس الأمني عمدت الدولة إلى تفكيك شبكة دور الصفيح وبناء مركبات سكنية لإيواء سكان مدن القصدير والبناء العشوائي، غير أن الدولة في استراتيجيتها السكنية لم تراع المقاييس السيكولوجية والسوسيولوجية في بناء هذه المركبات بالقدر الذي يوفر لهؤلاء السكان كل شروط وعناصر الحياة بدءاً بما يصون حميميتهم، بحيث أن هذه المركبات مفتوحة على بعضها تجعل الناس يشاهدون الحياة الداخلية أو الحميمية لبعضهم البعض، فتبدوعارية الى أقصى حد، بالإضافة إلى  أن هذه العلب ضيقة لا تراعي عدد الأسرة الواحدة التي يفوق في كثير من الأحيان معدلها سبعة أفراد، وهو ما يجعلنا نعتبرها مجرد علب سردين تنعدم فيها كل عناصر الحياة ، فلا مرافق إجتماعية، ترفيهية، تربوية وثقافية تذكر، ولا حدائق خضراء تساعد على استقطاب الأطفال والشباب من أجل إعادة تنشتهم الإجتماعية، وبذلك يتم إعادة نفس العلاقات الاجتماعية التى ظلت سائدة بدور الصفيح، فهي علب سردين إمتدت نحو السماء وتلبست بالإسمنت المسلح ومُسحت عنها الوجه القصديري، وبذلك نقلت نمط عيشها وأسلوب حياتها الى هذه المجالات الحديثة محافظة بذلك على علة المعلول بإعادة إنتاج ما كان قائماً كالجريمة والدعارة وكل مظاهر التطرف والإنحراف.

 البدائل السكنية المطروحة تعكس اختلال المجتمع

على ضوء هذه الصورة القاتمة التي تؤكد على الإختلال الإجتماعي، هل يمكن القول أن البدائل السكنية المطروحة تظل عاجزة عن تطويق مظاهرالإنحراف إضافة إلى التطرف الديني؟
أكيد، لأن سلبيات هذه المركبات السكنية أكثر من إيجابياتها كإرتفاع كثافتها السكانية إذ لم تحمل معها ملامح التغيير على مستوى البنية التحتية الثأتثيثية باستمرار، بمعنى ديكور هذه المركبات يعكس نفس نمط الحياة السابق، فلا ملامح التطرف تقلصت ولا الجريمة إنخفضت، والبغاء عرف إرتفاعا ً في معدلاته بشقه الذكوري والأنثوي، إذ وفر السكن الإقتصادي إمكانية للعديد من بائعات الهوى بأن يقتنين دوراً سكنية ليحولنها الى أوكار للدعارة أو شققاً مفروشة تأجر لهذا الغرض، وبذلك تتعايش في هذه المركبات السكنية مجمل التناقضات الإجتماعية التى تعكس الاختلالات التى يعيشها المجتمع المغربي وهو نفسه الذي يسعى لمحاربتها وفي نفس الآن يخلق شروط إفرازها.
فالدولة أخطأت في استراتيجيتها، حيث لم تعمل على توزيع ساكني دور الصفيح بشكل متوازن، وذلك بدمجهم في أحياء سكنية تقطنها فئات متوسطة الدخل، وكونها لم تسند هذه المشاريع السكنية بالمرافق الاجتماعية والثقافية والتربوية، ولم تضع رهن إشارة هؤلاء السكان مؤسسات للعمل الاجتماعي كالوسطاء والمساعدين الإجتماعيين الذين يلعبون دوراً كبيراً في الحد من الإنحراف والتطرف.، بل ستجد  هذه الأسر نفسها أمام أعباء اقتصادية جديدة ومشاكل طائلة لم تكن تعرفها في سابق مرحلة السكن العشوائي، إذ عليها الآن أن تؤدي تكاليف فاتورة الماء والكهرباء وضريبة النظافة، ناهيك عن الأقساط الشهرية لقروض السكن، وهو ما يجعل بعضهم مهدداً بالإفراغ تحت الإكراه وحجز سكنه، إنها أعباء خلفت وستُخلف تفككا أسريا وتشريدا للأطفال والنساء لأن أغلب سكان هذه الأحياء لا يتوفرون على دخل، وترتبط أكثريتهم بالحرف الهامشية أو يشتغلون في القطاع الغير المنظم ويعانون من الأمية.

لم يعد الحجاب عقيدة دينية للبعض، واتخذ طابعاً جديداً لهذه الأسباب

 نريد منكم التوقف على بعض المفارقات التي يمكن إستجلائها في مظاهر التدين لدى المتحجبات، حيث أخذ الحجاب أشكال جديدة من الموضة وحافظ على علامة تأثيم إنكشاف الشعر لكن من جهة أخرى ترتدي المحجبة لباساً عصرياً يكشف نتوءات الجسد ويسعى إلى إبراز محاسنه؟
 اللباس في المجتمع المغربي فيما سبق كان يسعى إلى التعبير عن نظام القيم والمواقف والاتجاهات، وبه كنا نميز بين المتشدد في الدين وبين المنفتح، وكانت المرأة المتحجبة تبدو الأكثر تشدداً في الدين، فيما تبدو السافرة أكثر مرونة في تعاطيها مع الدين، غير أنه في السنوات الأخيرة بدأنا نلاحظ أن الحجاب نفسه صار يدخل في عملية التأثيت الإستتيقي لجسد المرأة، إذ يتعايش مع كل أشكال الماكياج وإختيار الظهور بسروال الجينز القصير والقميص اللاصق الذي يفصح عن مفاتنها، وبذلك يتوحد "عمرو دياب مع عمرو خالد" أو بعبارة أدق "الأعلى أفغاني والأسفل أمريكاني"، فلم يصبح الحجاب عقيدة دينية بقدر ما أصبح وسيلة للوصول إلى هدف ما أو تحكمه دوافع أخرى  كالعوز المادي الذي لا يساعد الفتاة على إرتياد صالونات التجميل فتجد عزائها في الحجاب، ويتحكم هاجس الظفر بزوج في أقل فترة ممكنة وبسرعة فائقة في أن تضفي على نفسها صفة المحافظة والطهر، وكي لا يعدم الحجاب الحيز الفيزيقي لجسدها ويلغي عنه الوجود الإستيتيقي الأنثوي،  فإنه إتخذ طابعاً وشكلاً جديداً حتى لا يحرم المرأة من أسلحتها الأنثوية الإغرائية لأجل إسقاط وإستقطاب الجنس الذكوري إلى شباكها، دون أن يكون الحجاب في حد ذاته عائقا أمام إلتقاء الجنسين الذكر والأنثى لأجل تحقيق اللذة.
وهذا الأسلوب الجديد في نمط اللباس يعد مسألة طبيعية نظراً للإكراهات والضغوطات التى تعيشها العلاقة بين الجنسين الذكر والأنثى أمام تراجع القيم في مجتمع معولم يدفع الفتاة للتمويه والمناورة على هذه الإكراهات المثمثلة في الأوامر والنواهي من جهة، ولتلافي إنتقادات الناس ورقابة المجتمع حتى تكتسب تقة الأسرة أولا والحي ثانيا.

 العقيدة الذكورية أفرزت فقهاً ذكورياً، وبعض الساسة وراء التطرف الديني

 إلى ما ترجعون هذه الشِيزُوفْرِينيا، هل هي محاولة للفكاك من أسر الفكر الديني أم إرتداد محتشم على الفكر الذي يعتبر المرأة مصدر غواية وإغراء وسبب رئيسي لإنحراف المجتمع؟
هذا تصور خاطىء فحتى الرجل يفتن ويغري الآخر،  فكيف نلوم  المرأة لما قد يثيره جمال مفاتن جسدها ومحاسن وجهها، ولا نلوم الرجل الوسيم على ذلك،  إن جاذبية الإغراء يشترك فيها الطرفان، وأدل على ذلك بإمرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسها، وعليه فالمنطق الأصولي ينم على عقلية ذكورية  تسقط مكبوتاتها على المرأة وتتخذها  ذريعة لتصريف خطاباتها المتنافية مع روح الإسلام.
وللإشارة فقد سبق وأن قمت من خلال كتابي "الدين والأسرة" بدراسة سوسيولوجية عبرالمقارنة بين ثلاث أديان وضعية وهي البوذية والأنكلوستونية والهندوسية وكذلك الأديان السماوية الثلاثة فى تصورها للجنس، فوجدت أن الإسلام في نصوصه المقدسة يعطي قيمة إنسانية للمرأة بتكريس حقها الجنسي والبيولوجي، وهذا ما لا تعترف به الأديان الأخرى خصوصا المسيحية التى تعتبر الجنس دنسا وزينة إذا لم يكن يهدف إلى الإنجاب، عكس الإسلام الذي أعطى حق الجنس للمرأة، ويخاطب الله  تعالى فيه المؤمنات بأن لا يتزوجن بمشرك ولو أعجبهن، فعملية الإعجاب والرغبة الجنسية حاضرة عند المرأة والإسلام يقر بها.
فلا عيب أن تعجب إمرأة برجل وتفتن بجماله أو خصاله الحميدة كما هو حال  السيدة خديجة رضي الله عنها التى بادرت الرسول صلى الله عليه وسلم بطلب الزواج لما إتصف به من أمانة وصدق وهو الذي كان يشرف على تجارتها.
الإسلام اعترف أيضا بذكاء المرأة وذلك حينما قال عز وجل إن كيدهن عظيم، وهذا دليل على ذكاء المرأة وقدرتها على العمل، فقد شاركت في الحرب والجهاد كما يشهد لها التاريخ بذلك، فلماذا يقفز الأصوليون على هذه الحقائق ويكتفون بما يصدرعنهم دون إستناد صحيح إلى الأصول الدينية في الكتاب والسنة والتى تكرم المرأة، باختصار وكما قلت هذا يرجع الى عقلية ذكورية متحجرة أفرزت فقها ذكورياً يختزل المرأة  في كيان جنسي معدوم الإرداة والحقوق والرغبات كما أنه فاقد لإنسانيته.

 لكن ألا تعد مظاهر الدعارة في بلادنا عاملاً من عوامل إنتعاش التطرف الديني باعتبارها رد فعل على الإنحلال الأخلاقي الذي طال معظم فئات المجتمع؟
لا يمكن ربط نشوء التطرف بمظاهر الإنحلال والانحراف داخل المجتمع، فهناك دوافع متعددة متشابكة ومعقدة داخلية وخارجية تسهم في تشكيله، فالتطرف الديني له بعد سياسي بالدرجة الأولى قبل أن يكون له بعد أخلاقي، بمعنى آخر السياسي حينما ينشر دعوته يبحث لها عن مصوغ لترجمتها إلى ممارسة قد تصل حد إلغاء ونفي الآخر بالتكفير والعنف، وفي هذا السياق يتخذ من الإنحرافات السائدة بالمجتمع مطية للوصول إلى أهدافه.