مصالح مشتركة ورأي عام منقسم

نحن وأمريكا.. علاقة وقراءة

رانية سليمان سلامة

نشرت صحيفة "النيويورك تايمز" الأمريكية تقريراً هاماً بتاريخ 7/أغسطس/ 2005م تحت عنوان "لماذا أمريكا أكثر اعتماداً على السعودية من أي وقت مضى؟" أبرز التقرير المساعي الأمريكية الرامية إلى توطيد العلاقة الأمريكية- السعودية التي تعرضت للاضطراب بعد أحداث 11/9 وكشف عن الواقع الذي بدد الآمال الأمريكية العريضة لإيجاد مصادر نفطية خلال السنوات الثلاث الماضية عن طريق العراق أو غيرها، مشيراً إلى تصريحات نائب الرئيس "ديك تشيني" عندما وضعت القوات الأمريكية أقدامها في بغداد حيث أعلن أنه ستكون لدى العراق القدرة على توفير إمدادات نفطية تقدر بـ3 ملايين برميل في اليوم مع نهاية العام الأول من الاحتلال... أما بعض التوقعات المفرطة في التفاؤل فقد توقعت آنذاك أن ترتفع هذه الإمدادات إلى 6 ملايين برميل يومياً خلال 5 سنوات... إلى أن أثبتت كل تلك التكهنات أنها خاطئة... وانتقل التقرير إلى التركيز على دور المملكة الإيجابي والكبير في التحكم بأسعار النفط وفي إنتاجها النفطي الذي يقدر بـ9 ملايين برميل يومياً أو ما يعادل 11% من الإنتاج العالمي للنفط, منها 1,5 مليون برميل للولايات المتحدة أو ما يعادل 15% من احتياجاتها النفطية.

لم أتمكن من مقاومة فضولي لمعرفة ردة فعل المواطن الأمريكي على هذا التقرير... فاستخرجت من محرك بحث "جوجل" حوالى 8000 نتيجة بحث محددة حول عنوان التقرير وبالطبع لم أطلع إلا على اليسير منها.

كان هناك تحفظ من قبل البعض على عنوان التقرير الذي ركز على الاعتماد الأمريكي على النفط السعودي بالرغم من أن أمريكا لا تشتري النفط مباشرة من السعودية حيث إن هناك سوقاً نفطياً واحداً يؤثر على العالم بأسره.. والمملكة إذ بوسعها زيادة أو خفض الإنتاج بمقدار 2 إلى 3 ملايين برميل يومياً فهذا يعني قدرتها على التأثير على العالم وليس فقط على أمريكا, بالتالي عنوان الموضوع لم يكن موضوعياً بقدر ما كان مثيراً.

رأي آخر يرى أن المملكة ليست أكبر مصدر للنفط فحسب ولكن أهميتها تكمن في أنها أصغر المصدرين حجماً كتعداد سكاني وأقلهم استهلاكا له في الصناعات الوطنية, فروسيا على سبيل المثال التي يتساوى تقريباً انتاجها النفطي مع المملكة بحوالى 9 ملايين برميل يومياً تحتل المرتبة الثانية نظراً لاستهلاكها نسبة من نفطها في صناعاتها المحلية كما أن تعدادها السكاني أكبر من التعداد السكاني للسعودية التي تظل المصدر رقم واحد للنفط.. هذا التقرير إيجابي بالتأكيد للدول التي تستورد النفط ليزداد اعتمادها على النفط السعودي ولكن عند قراءته بعيون سعودية لابد أن ينبهنا إلى ضرورة تحقيق استفادة أكبر من النفط في قطاعات الصناعات المحلية!!

رد آخر لأحد الخبراء الأمريكيين يؤكد فيه تعليقاً على التقرير أن الخيبة لم تكن فقط للآمال المعقودة على النفط العراقي ولكن كذلك في البحث عن مصادر أخرى للطاقة حيث ثبت أن الطاقة الشمسية على سبيل المثال تكلف 10 أضعاف الطاقة النفطية... والمدهش حقاً أنه لا مفر! فالأراضي العربية تعتبر مجدداً أغنى مناطق العالم بالطاقة الشمسية, وستبقى المصالح متشابكة.

تقرير متعلق وجدته في سياق بحثي يشير إلى مساعي المملكة لاستعادة 360 بليون دولار من الاستثمارات السعودية في الخارج بالإضافة إلى استقطاب الاستثمارات الأجنبية... وقد اعتبرت إحدى الدراسات أن 60% من الاستثمارات السعودية في الخارج موجودة في أمريكا وهي مؤثرة بالتأكيد على الاقتصاد الأمريكي, إلا أن المؤسف حقاً هو أن التقرير قد كشف أنها استثمارات "غير ذكية"... فأغلب رؤوس الأموال السعودية المهاجرة تجدها في البنوك وأسواق المال وغيرها من المجالات التي قد تحقق لأصحابها ربحاً وافراً إلا أنه قصير المدى... وما لم يطرحه التقرير من تساؤلات لا تعنيه يحق لنا أن نطرحه على أنفسنا, لماذا لم يتجه المستثمر في الخارج إلى مجالات الصناعة والتكنولوجيا والإعلام والبحث العلمي وغيرها من المجالات التي تحقق أرباحاً بعيدة المدى وتمنح أصحابها مفاتيح النهضة والتقدم؟!... قد تعود تلك الأموال المهاجرة إلى أرض الوطن ولكن بعد أن اعتادت على الربح السريع والمريح هل ستعود وفي جعبتها تجربة وخبرة يمكن نقلها للوطن الأم؟ هل ستعود ويكون خيارها الطريق الأسهل والاتجاه نحو أسواق المال والعقار. أو إغراق سوقنا بالمنتجات المستوردة والوكالات الأجنبية؟ أم ستتجه نحو الإنتاج والصناعة الوطنية بمختلف أشكالها؟ ثمة فارق بين أن تكون مستهلكاً تعتمد عليك الدول الأخرى لتسويق منتجاتها, وأن تكون مُنتجاً ذكياً يربح على المدى القصير والبعيد ويضع نصب عينيه أهدافاً تتضمن خدمة مجتمعه.. وإذا أردنا أن نعرف ماهية "الاستثمارات الذكية" فعلينا أن ننظر إلى المجالات التي اتجهت لها رؤوس الأموال الصهيونية في الغرب فهي وإن هاجرت ونجحت, فخيرها يعم على دولتها المزعومة وقضاياها الجائرة... الأمر إذن يتجاوز نقل الأموال من هنا وهناك إلى رؤى استثمارية شاملة لها أبعادها. وهناك إشارة أخرى من أحد مراكز الدراسات إلى أهمية السعودية بالنسبة لأمريكا كأهم الأسواق التي تستورد منها البضائع حيث إن الوظائف التي توفرها عمليات التصدير للسعودية كانت تقدر بإجمالي 124,000 في عام 2004م ووفقاً للدراسة من المتوقع أن تصل إلى 177,000 في عام 2012م... أما في حال تحول السعودية لاستيراد ما نسبته 66% من النسبة الحالية من دول أخرى غير أمريكا يفقد الأمريكان 81,000 وظيفة في عام 2004م مؤهلة للتصاعد إلى 117,000 وظيفة في عام 2013م... لعل هذا أيضاً يضعنا أمام حلول لمشاكل البطالة فوجود مصانع وطنية تنتج منتجات ذات جودة عالية تؤهلها للتصدير للخارج سيوفر عدد كبير من الوظائف محلياً.

وتقارير أخرى نشرتها مراكز للدراسات الاستراتيجية تكشف حجم الخسائر التي تكبدتها الولايات المتحدة الأمريكية من جرّاء المواقف التي جانبت فيها الحكمة إزاءنا.. كان من بينها خسارة 4,7 بلايين دولار بسبب العقبات التي وضعتها في طريق الحصول على الفيزا للطالب ورجل الأعمال والسائح السعودي... كما خسرت الشركات الأمريكية وفقاً لدراسة أعدتها مجموعة "سانت أنجيلو" منذ شهر يوليو 2002م إلى مارس 2004م حوالى 30,7 بليون دولار بسبب رفض أو تأخير الفيزا.. وخسر القطاع الصحي بين 750 مليونا و1,25 بليون من عائدات علاج مرضى السعودية والإمارات سنوياً في أمريكا... ويفيد التقرير بأن العالم يتنافس على استقطاب الاستثمارات السعودية مما يجعل بالضرورة على الولايات المتحدة أن تعمل على إزالة العقبات غير العادلة والمخيفة للمستثمر السعودي.. كل ذلك يعكس أهمية التسهيلات التي يتطلب تحديداً من الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية وضعها بعين الاعتبار لتكون حدودها مؤمنة دون أن تغلقها... ويكون شعبها متفهماً للآخر ومرحباً به حتى لا يخسره.

بعد ساعات طويلة من البحث والتصفح لا يمكنني إلا أن أعترف بأنني قد توصلت لقناعة واحدة حيث أثبت الرأي الشعبي الأمريكي أنه لا يختلف مطلقاً عن رأي الشعوب العربية بانقساماته في مواجهة واقعه... فهناك صوت متعصب يرفض هذه الحقيقة ويراها مهينة ويطالب بالاعتماد على البدائل والاستقلالية التامة منساقاً وراء الرؤى التي تسعى إلى تصوير الآخر بصورة العدو المخيف الذي يهدد حياته وثقافته وهي في واقع الأمر رؤية ذوي الثقافة المهتزة التي تفتقد للرسوخ وبالتالي تخشى من الانهيار مع أول مواجهة للآخر... وصوت متعقل يرى أن تبادل المصالح يعد أمراً طبيعياً والاعتراف به لا يشكل خطورة لإدراكه بأن القوة عندما تتحد مع القوة تنتج أفضل ما يمكن أن تنتجه الحضارة, وهنا أيضاً تتجلى الحكمة الإلهية بتوزيع الثروات والقدرات ليتحقق التواصل والتكامل بين شعوب الأرض... وصوت أخير حائر ينتظر أن يحسم أحد الأصوات السابقة الأمر ليتبعه... ثمة فارق واحد رأيته بوضوح بين التعامل الرسمي للحكومتين إزاء الآراء الرامية إلى العداء, فبينما تضخم الحكومة الأمريكية من خطورة وجود أصوات سعودية أو عربية معادية لها وتصف ذلك بأنه من قبيل التحريض ومن مؤشرات شيوع الكراهية وترى أن التجاوز عن تلك الآراء يسهم في انتشار الإرهاب وربما لها علاقة باتساع ثقب الأوزون والحياة على كوكب بلوتو..!!.. فإننا نجد على الطرف الآخر أننا نتعامل مع الآراء الأمريكية المتطرفة دون تصعيد مبالغ فيه وإذا أبدينا استنكارنا عليها فإن الاستنكار غالباً يكون في إطار منطقي يتضمن إيضاحاً للحقائق ويستند إلى قناعة تضع حدا فاصلاً بين وجهة نظر الحكومة الأمريكية وبين حرية مواطنيها على التعبير... ولاشك أن العالم العربي قد اتخذ خطوات جادة في طريق مواجهة الآراء المتطرفة ومحاربة الجهل بالآخر وبالمصالح المشتركة بين الدول... أما بعد قراءة ردود الفعل الأمريكية وجدت خطوات أمريكية مماثلة مفقودة قد تؤدي مستقبلاً إلى الإضرار بمصالحها الدولية قبل أن يضع ضررها على أي طرف آخر... لقد تبين لي أن هناك في دولة العلم من يتمتع بجهل أجزم بأننا لو قسناه على أكثرنا جهلاً وأقلنا معرفة بالآخر فسيتفوق الجهل الأمريكي المتطرف.

ببساطة، لازال هناك في أمريكا من لا يعرف عن المملكة بل وعن العالم العربي والإسلامي سوى الصحراء والنفط والخيمة وصور مشوشة تنقلها له هوليوود, وبضع مفاهيم مريضة تجعله يعتقد أن مصدر الإرهاب هما رموز الإسلام أو الحرمان الشريفان أعزهما الله عن هكذا جهل من المفترض أن يكون للحكومة الأمريكية دور في معالجته.. فالواقع أن المصالح مشتركة والانجازات التي تخدم البشرية وتنهض بها لا تتحقق إلا بإرادة مشتركة من القادة والشعوب وقناعة بضرورة إيجاد صيغة حضارية يحترم كل طرف فيها الآخر وإمكاناته وثقافته وسيادته.

* رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ