تفخيخ عقول المبتعثين بفتاوى الزواج

اليوبيل الفضي لمفاهيم الزواج العصري

رانية سليمان سلامة

مصادفة جميلة أن يوافق اليوم (عيد ميلاد) مقال كتبته العام الماضي بعنوان (زواج مسيار وفرند لأسرة بارت تايم) على إثر الترخيص المفتوح الذي أصدره مجمع الفقه الإسلامي آنذاك بخصوص عقود الزواج المستحدثة، كما يوافق مرور عامين تقريباً على مقال (ميلاد جديد لزواج غريب) الذي أشرت فيه إلى عودة انتشار ظاهرة المسيار على يد الإنترنت والمواقع التي تخصصت بالترويج لهذا الزواج... وخلال عامين لو قمنا بإحصاء عدد الفتاوى والمقالات والتحقيقات والبرامج الفضائية التي تناولت هذه القضية قد نكتشف تسجيل رقم قياسي جديد. القضية أصبحت مستهلكة وفي بعض الأحيان مقززة، كما أنها كلما طرحت تنطلق معها صافرة الإعلام للإعلان عن بداية مباراة تزداد فيها الفتاوى شططاً لأغراض أعجز عن استيعاب بعضها وإن كان غرض الاستفزاز يبدو فيها واضحاً... ولعل المتابع لتلك المباريات يشعر بتطور أسلوب النقاش والطرح إلى حد كبير فلم تعد المسألة (سمعنا وأطعنا) ولا مجرد (خالف تعرف) ولاتقتصر على نظرية (شوفوني لاتنسوني) ولكن الحجة أصبحت تقارع الحجة والمبشٍّر أن الأقلام والآراء النسائية حضرت أخيراً وبقوة لتسجل كلمتها، وأرى أنها قالت كل مايمكن أن يقال في الأسابيع الماضية التي تلت فتوى (الزواج بنية الطلاق)، ولعل أبرزها مقالات الدكتورة نورة السعد والدكتورة حسناء القنيعير والدكتورة حنان عطاالله والدكتورة شروق الفواز والأستاذة جهير المساعد والدكتورة عزيزة المانع والأستاذة أمل الحسين وغيرهن كثيرات ممن أتمنى جمع مقالاتهن حول هذا الموضوع في كتاب دون إغفال رأي الرجال  الذين تفوقت بين صفوفهم الحكمة على الشهوة. أمنيتي أن يكون هذا الكتاب للتاريخ فيبدو لي أننا سنقرأه بتمعن بعد ربع قرن ونحن نحتفل باليوبيل الفضي لانتعاش فتاوى عقود الزواج المستحدثة... سنكون بأمس الحاجة لقراءة ذلك الكتاب إما لندرك أننا نجحنا في معالجة ظاهرة خطيرة كادت أن تعصف بالمجتمع وإما لندفع ثمن إعلان نعي نظام الأسرة في الإسلام وهذا هو الخطر الذي أشرت إليه قبل عام، أما الجديد اليوم فهو أنني أزعم تحديد التاريخ الذي سنجني فيه ثمرة هذه الظاهرة بعد قراءتي لنتاج ظاهرة أخرى.

ففي مطلع الثمانينات الميلادية انتعشت سوق الفتاوى التكفيرية وتقدمت الأصوات المتشددة بحد السكين الذي يقطع التواصل مع بقية الآراء الفقهية، في مقابل فئة وسطية وأخرى مثقفة وغيرها سلبية كان صوتها خفيضاً أو آثرت الصمت و اختارت الاستسلام حفاظاً على استقرار هددته بتطرفها الحركة (الجهيمانية)، ولعلنا حتى مطلع الألفية الثانية كنا نعتقد بأننا تجاوزنا العاصفة بسلام حتى أدركنا بعد ربع قرن من الزمان أنها قد اقتلعت في طريقها أشجار السماحة وحرية الاختلاف وقدراً كبيراً من حقنا في الانفتاح فبدأنا منذ الحادي عشر من سبتمبر نرصد نتاج فتاوى لست معترضة على صدورها أو نشرها أو انتشارها بقدر اعتقادي بأن مشكلتها كانت أنها لم تحظ بفرصة كافية للنقاش في أجواء صحية، ولم تقابل الحجة بالحجة أمام من يتلقى الفتوى لتتيح له تلك المناظرة مساحة لإعمال العقل واختيار المسار.

اليوم وقد تجاوزنا تلك التجربة بعد عناء بنجاح أصبحنا نقرأها والقراءة مفيدة ومنها أشتق القياس... فهاهي كل الفتاوى منشغلة بقضية الزواج ومستندة إلى قاسم وهاجس مشترك هو خشية المجتمع من انتشار الرذيلة والانحراف وضرورة التحصين في مواجهة الأخطار، غير أنها تقع في فخ الإقصاء فتقصي حق المرأة وتتجاهل أساس المشكلة ليخرج الحل مبتوراً على هيئة مسكنات قابلة للإدمان ومؤدية إلى الهلاك. فتاوى إجازة عقود الزواج المستحدثة بلاقيود ولا حدود بوسعنا مسبقاً أن نهنئ أصحابها على نجاحها اليوم وغداً وحتى إشعار آخر ستظل خلاله خلايا الخطر نائمة في جسد المجتمع حتى تنفجر في وجهنا بتجاوز استغلال الرجل لها أو بتمرد المرأة على الأطر الدينية بعد تحريفها لتجريدها من حقها الإنساني والشرعي أو بانهيار نظام الأسرة واستبداله بنظرية سد الشهوات... وربما قبل أن نعي كل ذلك سنستيقظ على واقع ممارسات شاذة خرجت من فئات محسوبة علينا ليتضرر منها كل العالم ونواجه عندها مرحلة جديدة من مراحل رأب الصدع وتحسين الصورة. ثمة فارق هام بين الماضي والحاضر وهو هذا الكتاب الذي أتمنى أن يصدر ويدخل إلى كل بيت وعقل، فمساحة الحوار والقدرة على استشراف المستقبل بوسعها أن تكون الحصانة الحقيقية لوعي المجتمع وقدرة الإنسان على اتخاذ قرار يتحمل مسؤوليته على المدى البعيد أمام نفسه وأسرته ومجتمعه وأمام العالم... كما أتمنى أن نتمسك بحقنا في تحصين مجتمعنا من المخاطر المستوردة دون أن نقوم بتصدير الخطر للمجتمعات الأخرى فـ(نفخخ) مفاهيم المبتعثين بقنابل التغرير بالنساء في الخارج.


رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ