هل أصبحت العيادات النفسية مراكز تجارية؟

العلاج النفسي بالإدمان !!

رانية سليمان سلامة

للأثرياء فقط، يبدو أن هذا هو الشعار الذي ترفعه أغلب العيادات النفسية بعد أن أصبح الإقبال عليها واسعاً خاصة في أوساط الشباب والنساء. والعلاج بالعقاقير فقط، شعار آخر يرفعه أغلب الأطباء في مواجهة مجتمع أصبح مؤخراً أكثر استيعاباً لأهمية الاستشارة النفسية والعلاج النفسي. والنتيجة هي الخروج من عنق زجاجة الألم النفسي إلى مستنقع الإدمان.

ظلت إحدى السيدات تعاني من حالة قلق وخوف شديد وأرق، مشكلتها الرئيسية كانت حساسيتها المفرطة تجاه أي خبر أو حدث عارض يمر بحياتها لأنها ببساطة اعتادت على الاستقرار والحياة كانت دائماً متشحة أمامها باللون الوردي قبل أن يتلطخ الثوب بخطوط سوداء ونقاط داكنة انعكست على وضعها المادي والصحي وعلاقتها بزوجها وعجزت عن التكيف مع وضع جديد أو عن تحمل افتقاد وضع ألفته، فدخلت في دوامة العيادات النفسية وظلت تدور في دائرتها المفرغة لمدة عامين تفاقمت خلالهما الحالة، أما القاسم المشترك بين جميع الأطباء الذين استعانت بهم في المرحلة الأولى فكان انشغالهم، حيث تدخل إلى الطبيب بعد طول انتظار وقبل أن تسرد مشكلتها ودون أن يستمع إليها ليفهم أو يحلل يبادر بكتابة الروشتة فتخرج من العيادة بدواء في الوقت الذي تكون بحاجة إلى تفسير ومساعدة ونصيحة تساعد إرادتها على النهوض لمواجهة المشاكل، دواء بعد الآخر تحولت معها الى حقل تجارب لجميع العقاقير المهدئة والمنومة حتى لم تعد تجدي معها واستمر مشوارها من طبيب لآخر تشتكي من مشكلتها الرئيسية بالإضافة الى الأعراض الجانبية للعقاقير التي تناولتها فكان أقصى ما يقوم به الطبيب أن يغير الدواء. وأخيراً تبشرني بأنها وجدت طبيباً مختلفاً وشهيراً ميزته أنه يستمع إليها من لحظة دخولها إلى العيادة حتى تغادرها دون أن يفتح فمه بكلمة أما ثمن الكشفية فهو حوالى 1000 ريال كانت كفيلة بأن أفتح أنا فمي وأصرخ للتأكيد بأن بوسعي أن استمع إليها بهدوء لمدة أطول في مقابل نصف هذا المبلغ إن كان هذا هو الحل المنشود!!

لا أدري إن كنت وغيري قد اخطأنا في مقالات سابقة بنشر فكرة اللجوء للعيادات النفسية فالمؤكد أننا لم نكن ندرك أن اغلبها قد أصبح مراكز تجارية لمن يعانون من الرفاهية فيمضون فيها أوقات فراغهم برسوم مرتفعة ويتحول الطبيب الى نادل محترف في تقديم وتسويق عقاقير باهظة الثمن قد يؤدي تعاطيها إلى حالة من إدمان المريض عليها. الإنسان كائن مدمن، أو على الأقل لديه قابلية كبيرة للإدمان... قد يدمن تناول مادة وقد يدمن فكرة أو نمط حياة أو عادة أو عملاً أو حتى وجود شخص آخر في حياته، غير أن هذه القابلية تتفاوت من شخص لآخر وتصل إلى أعلى معدلاتها عندما يعاني الانسان من الوحدة أو القلق أو الخوف أو الفراغ فتتحول الصفة التي تساعده على الارتباط الصحي بالحياة وبالآخرين وبالأدوات الى مرض هو اليوم أكثر امراض العصر شيوعاً أو أعنفها بأعراضه الجانبية رغم أن التعريف الدقيق للإدمان لايزال محل اختلاف بين مدرستين إحداهما تتمسك بأن الإدمان أمر فيزيائي يرتبط بتناول الإنسان مواد معينة يعجز عن الاستغناء عنها ويمر عند العلاج منها بمراحل انسحاب المادة من جسده، والأخرى تعرف الإدمان بأنه حالة مزمنة لها أسباب جينية أو كيميائية أو اجتماعية تدفع الإنسان إلى إدمان مادة أو عادة أو أشخاص وهو تعريف يطول ولكنه أقرب للصحة خاصة أنه لا يوجد فارق بين اعراض انسحاب مادة ضارة من جسد الإنسان وبين أعراض انسحاب اشخاص أدمن على وجودهم في حياته أو عادات ارتبط بها لسنوات أو حتى نمط معين للحياة تجبره الظروف على تغييره. تتعدد أوجه الإدمان وتتشعب تعريفاته وقد يصعب التفريق بين الاعتياد والإدمان كما يصعب علينا في الكثير من الأحيان مشاهدة الخط الرفيع بين الحب والإدمان بالعين المجردة وتستعصي محاولة الحد من صور جديدة للإدمان مثل إدمان الأدوات كالانترنت والتلفزيون أو عادات كالتسوق وغيرها، ويعتقد الباحثون أن تسارع وتيرة التغيرات التي باتت تطرأ على حياة الانسان بالاضافة الى الخلل الذي اصاب طبيعة العلاقات الاجتماعية بمقتل جعلا ظاهرة الإدمان تطفو على السطح أكثر من أي وقت مضى.

كل تلك التعريفات والتفسيرات لابد أن تضعها العيادات النفسية بعين الاعتبار لأسباب عديدة أولها أن تراعي أن أغلب الحالات تعاني بشكل أو بآخر من الإدمان وتتلخص معاناتها في صعوبة التكيف مع حال جديد أو مواجهة خطر قد يسلب منها العنصر الذي أدمنت على وجوده في حياتها ولعل اكتشاف تلك المشكلة وتوضيحها للمريض يساعده على معرفة ما يودّ علاجه بدلاً من أن يظل يعاني من خوف وقلق من مجهول لسبب مجهول.. وثانيها حتى لا تزيد (الطين بلة) بوصفات طبية لمريض هو في أضعف حالات المقاومة لإدمانها.


رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ