القضايا المحلية خلعت رداء الخصوصية

عولمة الإعلام

رانية سليمان سلامة

يبدو أن أول النجاحات التي حققتها العولمة كان على الصعيد الإعلامي الذي خرج بالقضايا المحلية لكل دولة لينشرها على حبل غسيل أو يرمي بها في أوحال الجدل العقيم. بعيداً عن القضايا الكبرى التي من الطبيعي أن نتأثر بها ونتفاعل معها توجد أمور غارقة في المحلية لدول أخرى أصبحت من حيث لاندري تشغلنا وتجذبنا وهو أمر أعجز عن تفسيره كما أعجز -على سبيل المثال- عن مقاومة متابعة برنامج مثل (القاهرة اليوم) على قناة الأوربت فأعيش مع أحداث تغيير الدستور المصري أو قضية رئيس سابق لنادٍ رياضي مصري وغيرها من القضايا البعيدة عن مجال اهتمامي ونطاق حياتي دون أن تنقطع تلك المتابعة بسؤال وجيه جداً هو (أنا مالي؟) ذلك أن أداء المذيع وآلية تقديم المادة تتفوق في أغلب الأحيان على رغبتي في الانسحاب وإن كانت تتحقق تلك الرغبة بمجرد أن ترتفع الأصوات وتتربع الانفعالات.

أعتقد أن العالم العربي بأسره يعيش نفس الحالة وهو يتابع غزو القضايا المحلية السعودية لبرامج الحوار الفضائية وقد يكون بعضها على قدر من الأهمية فيستحق المتابعة والتدويل بينما البعض الآخر يعاني من الإفلاس فيختلق المشكلة ويرميها في حلبة محترفين (مصارعة حوارية حرة) ليخسر الجميع بينما يعوض البرنامج إفلاسه عن طريق معلن لايملك القدرة على الموازنة بين أهداف الربح المشروع والمسؤولية تجاه محصلة هذا الإنتاج. ومن النطاق العربي للنطاق العالمي ألغت وسائل الإعلام الحديثة بمختلف صورها كل مايمكن أن نطلق عليه (بالقضايا المحلية) لأي دولة فالجريمة وإن وقعت في جامعة أمريكية تدخل مباشرة إلى أجهزة الاستقبال في منازلنا والفضائح تصل إلى جوالاتنا وأجهزة الكمبيوتر تلتقط ماهو أدق من مشاكل قد لاتكون فقط محلية ولكنها كذلك شخصية للغاية.

لا أدري إن كانت قدراتنا العقلية والعصبية مؤهلة لتحمل كل هذا القدر من المشاكل والهموم والجدل الشخصي والمحلي والعربي والدولي، ولا أدري إن كانت العولمة الإعلامية بشقيها (عولمة الهم والغم) و (عولمة الهز والرقص) قد تحققت وفقاً لمخطط مدروس ضمن برنامج العولمة أم أنها مجرد تطور تلقائي بريء من نظريات المؤامرة...لا أحد يستطيع أن يدعي حق ملكية الإجابة الصحيحة فقد نصل إلى تفسيرات وقراءات عديدة للأمر الواقع الذي نعيشه، المهم أن ندرك أن هذه الظاهرة قد تكون صحية للكشف عن المشكلة وقد تكون مهلكة للوقت ومضيعة للحل فتفتح جراح المريض في حجرة عمليات غير معقمة وتفشل في علاجه لتزداد حالته المرضية سوءًا.

كما علينا أن ندرك أن الأبواب والنوافذ والشاشات التي فتحها الإعلام الحديث لم يعد بالإمكان إغلاقها ولكن ماهو متاح لنا حتى الآن أن نقتبس تجربة إعادة النظر في مخرجات التعليم وملاءمتها لسوق العمل فندرس مبكراً مخرجات وسائل إعلامنا لنعرف إن كانت تلائم احتياجاتنا... فمن الخطر أن تنحصر المخرجات على زيادة التطرف ذات اليمين أو اليسار بين التشدد أو الانحراف لدى شريحة الشباب أو تصل بالكبار إلى حالة اللامبالاة واليأس التي تتبع الصدمات الثقافية والأزمات الاجتماعية المتتالية. عولمة الإعلام لابد من أن تكون مصحوبة بوعي شامل يبدأ بالقائمين على وسائل الإعلام ليدركوا أن للإعلام التجاري (مسؤولية اجتماعية) ووطنية لاتختلف عن المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات التجارية التي يحاكمها الإعلام على منابره ولا تختلف عن المسؤولية التربوية التي تتم مطالبة المدارس بها في برامج الحوار التي تتبنى قضايا التعليم.

كما تتطلب هذه العولمة وعي المعلن الذي لم يعد من المقبول أن يكتفي بدعم أي قناة أو برنامج لمجرد أنه يحمل صبغة التخصص بالقضايا المحلية المثيرة أو الترفيهية الواسعة الرواج دون أن يساهم في إخراج هذا التوجه من الصندوق الصغير إلى آفاق أوسع تتوفر فيها عناصر المذيع الجيد والإعداد المحكم والهدف الواضح والنتيجة الإيجابية الملموسة، أو دون أن تسهم ميزانيته الإعلانية في توسيع نطاق المجالات التي انحصر تركيز الإعلام عليها ليمتلك جسارة الإقدام على إنتاج برامج تفريخ مواهب اقتصادية وثقافية وسياسية بعد أن أصبح لدينا مايكفي من البلابل الغنائية، التي أوكل إليها البعض حتى بالأمل في توحيد الأطراف المتناحرة في العراق ولا عجب فقد أصبحت مع الأسف برامج الواقع الفنية هي أمل الشباب المنشود والوهم الذي حاصر الكبار لتحقيق مافشلت بتحقيقه سياسات السلم والحرب والحوار.

صناعة الإعلام يحكمها اليوم رأس المال بينما يصنع الإعلام بتأثيره النجوم وأحياناً التوجهات، أما غداً فسيصنع هؤلاء النجوم الإعلام الحديث الذي لم تعد صناعته تتطلب رأس مال بقدر ما تتطلب فكرة وإرادة وإيمان بالهدف فإذا أردنا أن نعرف مستقبل إعلامنا غداً وتوجهات رموزه علينا أن نشاهد مخرجات إعلام اليوم.

 


رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]

المصدر: صحيفة عكاظ