عدم الاستقرار وهموم الحياة تجعل الفنون رفاهية لا يقدر عليها المتلقي العربي

جولة بين اللون والتكوين والضوء مع الفنان التشكيلي فائق العبودي

لبنى ياسين
صور وفيديو

من الأرض الجريحة أتى، وفي جعبته ألوان وأحلام، تنقل بين أرض وأخرى باحثاً عما يشبه الوطن ليسكنه، بعد أن ودع غربته في أرض بابل حاملاً منها إرثاً غنياً من التراث والأساطير والحكايا والفن والتكوين والحروف، وعندما استقر به المقام أخيراً في سويسرا، أفرغ مقتنياته الحضارية في لوحات غنية باللون والشكل لفتت أنظار الغربيين، وشدتهم، فأقام ما يزيد عن عشرين معرضاً في ربوع الغرب والشرق المختلفة، هو فنان عراقي ينحت اللون بين أصابعه، ويرسمه قصائد وطن، وفي هذا الحوار تقترب عربيات من العوالم السحرية للفنان  فائق العبودي .


مدرس الرياضيات أمسكني متلبساً بالرسم فصفعني !

كيف اكتشفت تلك الجذوة الجميلة التي في داخلك، وذلك الشغف باللون؟
حينما كنت صغيراً كانت لدي مهارات فنية واضحة، كنت أصنع ألعابي بنفسي، وكنت مهتماً بالخط العربي، فكنت أقضي ساعات في تقليد الخطوط الصعبة، كالخط الكوفي، وخط الثلث، والديواني وغيرها، لا أنسى دهشتي وأنا أزور للمرة الأولى المتحف العراقي في بغداد، كنت في التاسعة من عمري عندما اصطحبني إليه والدي برفقة أخي, كنت أقف مذهولاً أمام المنحوتات التاريخية القديمة، وكانت تلك الزيارة للمتحف قصيرة ولم أرغب يومها بالخروج من ذلك المكان. وبعدها بدأت أجمع مصروفي البسيط الذي يصلني من والدي واذهب إلى ذلك المتحف سراً رغم بعده عن مكان سكننا، في المتحف صاروا يمنحوني بطاقة دخول مجانية تشجيعاً لي، وكانت سعادتي كبيرة بهذه المنحة التي مكنتني من تكرار الزيارة مرات ومرات، كنت أقضي أوقات طويلة فيه مذهولاً بعبقرية الإنسان القديم، وبانجازه الفني المتميز، وكنت أخزن صور تلك القطع الأثرية في مخيلتي، حاولت وقتها أن أقلدها بواسطة الطين الذي أعجنه بيدي مشكلاً منه تكوينات فطرية، أعلقها على جدران البيت، كما أنني كنت أرسم كل شيء أمامي في المدرسة، كنت أرسم الطلاب بحركاتهم المختلفة، و كم من مرة عوقبت على اقتراف الرسم أثناء الحصص.
حتى أنني منيت بخلل وصفير في أذني لازمني طويلاً، بسبب صفعة مؤلمة من أستاذ الرياضيات في المرحلة الابتدائية، لأنه أمسكني متلبساً بالرسم بينما كان يشرح الدرس، كل هذه التفاصيل كانت بمثابة البذرة الأولى.

طردت من برنامج تلفزيوني لإرتدائي جاكت أكبر من مقاسي


كطفل في مراحل الاكتشاف الأولى، ما الحافز الحقيقي الذي دفعك للرسم؟
كما أسلفت منذ الطفولة كنت مهتماً بالفنون ومنها الرسم، والوحيد الذي شجعني معلم التربية الفنية الذي كان يتعامل معي بعناية، ويجلب لي بعض الرسومات ويطلب مني تقليدها, وفي سن العاشرة بعثت برسالة لبرنامج الورشة الذي كانت تعده وتقدمه الفنانة الكبيرة شذى سالم والذي كان يعرض على تلفزيون العراق، أستطيع أن أقول أن مخرج البرنامج الذي لن أذكر أسمه صنع مني فناناً بمعاملته السيئة لي، إذ عندما وصلت رسالتي للبرنامج الذي كنت أتابعه كل يوم أربعاء تحدثت الفنانة شذى سالم وقالت وصلتنا رسالة جميلة من الصديق فائق، وندعوه أن يصطحب رسوماته إلى مبنى التلفزيون في يوم السبت للمشاركة في حلقة البرنامج، كنت في غاية السعادة وأنا أسمع اسمي بالتلفزيون، ويا سعادة والدي الذي قرر أن يشتري لي ما احتاجه لكي ارسم للمشاركة في البرنامج وفعلاً وفر لي مواد الرسم
وأنجزت عدداً من اللوحات، المشكلة أنني في تلك السن الصغيرة كنت اعتقد أن الظهور على التلفزيون مشروط بارتداء طقم رسمي، وربطة عنق، فطلبت من والدي أن يشتري لي طقماً رغم درجات الحرارة القاتلة التي تتجاوز الخمسين درجة في الظل، لكنه لم يوافق، وبقيت على إصراري.
في تلك الأثناء طلبت من عمي طقم زواجه والذي ارتداه في عرسه، حاول وقتها إقناعي أنها لا تناسب قياسي لكن دون جدوى، فأعطاني الجاكت فقط، وقررت أن أكوي جاكت عمي وإذا بالمكواة تخرج أحشائه لشدة حرارتها، فقمت بخلط لون من صبغ الأبواب مشابه للون القماش وتلوين المكان المحروق، وذهبت إلى موعد البرنامج بجاكت أكبر من حجمي بعشر مقاسات تقريباً، ومعي رسومي وكلي فرح أنني سأظهر في التلفزيون،دخلت الأستوديو للتصوير مع عدد من الأطفال الموهوبين، وإذا بالمخرج يطلب مني أن أغادر الأستوديو بدون أي سبب، حاولت البقاء وإذا به يجرني من يدي بقوة ليخرجني، حينها لمحت الفنان المرحوم راسم الجميلي وطلبت مساعدته ليرجعني، وحاول الرجل لكن دون جدوى، بعد أيام وأنا أشاهد الحلقة وإذا برسومي تعرض على الشاشة بتعليق جميل من الفنانة شذى سالم وهي تقول وصلتنا رسوم من الصديق فائق جميلة ورائعة بألوانها، وأنا على ثقة أنه سيصبح فناناً كبيراً . هذه الكلمة كانت خير دعم لي، وما فعله المخرج كان تحدٍ كبير لنفسي، فقلت عليّ أن أثبت لهذا المخرج أنني فنان، فكما يقال رب ضارة نافعة.

 


هناك مراحل في لوحات الفنان العبودي من الحارات إلى الوجوه إلى التجريد، كيف تنتقل من مدرسة إلى أخرى؟
البداية كانت الحروفيات كوني خطاط ، ومن ثم المدرسة الواقعية التي عملت فيها كثيرا على بغداد القديمة بأزقتها وجدرانها العتيقة، في هذه المرحلة بدأت باختزال اللون، ومن ثم صار يختزل عندي الشكل أيضا، وعملي مر بمراحل كثيرة من ناحية اللون والخامة والشكل إلى أن وصل إلى ما هو عليه اليوم، بالتأكيد التجربة والبحث لهما الدور الأكبر في خصوصية تجربتي، أما الوجوه فقد رسمتها في فترة الحصار الاقتصادي الذي مر على الشعب العراقي بمرارة وقسوة لا توصف، وكوني عشت هذه المرحلة الصعبة جداً فقد قمت بترجمتها على شكل لوحات.

 

الحوار الذي ينشأ بيني وبين اللوحة يحرضني على مشاركتها قرار إنتهاء الرسم


كيف تولد الفكرة لتصبح لوحة؟
الفكرة تولد صغيرة من خلال حالة خاصة أعيشها عندما أكون ممتلئاً بالمشاعر والأحاسيس، هذه الحالة تعطيني رغبة قوية جدا بالرسم.
فأجهز خامتي وألواني واسترخي بصفاء وهدوء عميق قبل أن أرسم، وأتخيل فكرتي على اللوحة، وأدخل في تلك الحالة بشكل عميق يجعلني أشاهد ملامحها, لحظات الاسترخاء والتأمل هذه بمثابة الإلهام. وعندما أشرع بعملي على أساس تلك الفكرة الصغيرة، أرى أن فكرتي تطورت أو تبددت لتولد مكانها أفكار جديدة تجعلني مجبراً للانصياع لها كونها أثارت حساسية الإعجاب لدي. هذه الأفكار تتطور وتتطور على الخامة باللون والحركة والحساسية، وكأنها سيمفونية تبدأ بهدوء وتتصاعد إلى حد الانفعال الجميل والممتع للروح والحس، ومن خلال كل لوحة تتولد عندي أفكار لمشاريع لوحات جديدة بإحساس جديد.


كيف تقرر إنهاء لوحتك؟
بسبب الخبرة والتجربة صارت هنالك لغة بيني وبين لوحتي، وهنالك حوار خفي بيني وبينها منذ بدايتها حتى نهايتها، اسمحي لي أن اشرح لك ببساطة، لوحتي تمتاز بعدة طبقات لونية, واحدة تغطي الأخرى تصل غالبا إلى 10 طبقات بدرجات لونية متفاوتة، وبلمسة وحركة حسية متناغمة، عندما تكتمل اللوحة أشعر بها تهمس لي :"اكتفيت"؟. وبما أنني واللوحة نتشارك الحوار يبقى قرارنا النهائي مشترك، عادة أترك لوحتي معلقة على جدران مرسمي وأغادر المكان، وفي اليوم التالي عندما أعود نواصل حوارنا من جديد، من النظرة الأولى أعرف إذا كانت اللوحة مكتملة أم بحاجة إلى شيء آخر. عندما تكون مكتملة تكون في غاية الأناقة، وعندما تكون غير مكتملة أو بحاجة إلى لمسة أخرى، يأتيني ضوء من المكان الذي يحتاج إلى لمسات أخرى، فأعود إليه بريشتي ثانية بغرض معالجته أو تكملته بالشكل المطلوب، بعدها أمنح اللوحة توقيعي لأؤكد لها إعجابي بها . ولقناعتي أنها قادرة أن تقيم حواراً ممتعاً مع المتلقي، وحواراً طويلا ًوممتعاً أيضا مع المقتني، فتجعله كل يوم يكتشف سراً جميلاً فيها دون ملل .


أتدخل كيميائياً لأصنع لوني الخاص، والغربة لم تطفئ حرارة الشرق في اختياراتي

بين الضوء واللون من يشاهد لوحاتك يرى انك تتبني الألوان الحارة أكثر من غيرها، هل لازمتك تلك الألوان طيلة مشوارك الفني؟ وما سر تعلقك بها؟
نعم ملاحظة صائبة تماماً، أحب الألوان الحارة وألواني المفضلة الأحمر والبرتقالي، لكني استخدمت كل الألوان في لوحاتي، خاصة وأنني أمزج بين ألواني حتى أجد غايتي في خصوصية الدرجة التي أحتاجها للوحتي، وكوني أتدخل على مكوناتها كيميائيا ليكون عندي لون خاص بي، وهذا طبعا جاء بالتجربة والبحث الدائم، وهذا يجعل من معارضي ولوحاتي مهرجاناً للألوان .
سر تعلقي بهذه الألوان ببساطة كوني عربي وشرقي تحديدا، أحمل في داخلي حرارة الشرق التي لم تستطع سنين الغربة أن تطفئها .

متى تقرر أن عليك تغيير لونك أو أسلوبك، هل هو قرار فعلا أم إحساس يفرض تغييرا غير إرادي؟
الأمر ليس بهذه السهولة، أولا أن يجد الفنان لونه الخاص وأسلوبه الذي يميزه عن غيره و يشتهر به، أمر ليس سهل إطلاقا وبحاجة إلى جهد وتجربة كبيرة للوصول للخصوصية في التقنية والحبكة واللون وطريقة المعالجة، وهنا يحدث قرار التغيير فقط في حالة اكتشاف خامة، أو مادة تتناسب مع مشروعي الفني وتضيف إليه شيئاً جديداً و تطوره.
ولا أخفيك دائماً يعيش داخلي قلق كبير على عملي، وهو قلق مشروع كونه ينصب في جانب الحرص على تقديم الجميل والجيد الذي يصل بسهولة إلى المتلقي، ويلامس مشاعره.


الاستقرار في المجتمعات الغربية وراء تذوقها للفن


كيف يمكنك أن ترى العلاقة بين المتلقي واللوحة، كيف تراها؟ وهل هي مرضية بالنسبة لك؟
بحكم إقامتي في أوربا هنا الموضوع مختلف تماماً، والفنون لها أهمية كبيرة لدى المجتمع الأوروبي، هنالك اهتمام بزيارة المعارض، ومشاهدة آخر الأفلام، وحضور الأمسيات الموسيقية، وغيرها من الفنون، ربما أيضا كل ذلك نتيجة لحالة الاستقرار لدى الشعوب الأوروبية، بالتأكيد هذه العلاقة مرضية بالنسبة لي، أما إن كنا نتحدث عن المتلقي العربي فالحالة تختلف تماماً، متاعب العيش وعدم الاستقرار وهموم الحياة الكبيرة تجعل الفنون رفاهية لا يقدر عليها المتلقي العربي، وهو معذور في ذلك، كونه بعيد عن اللوحة وغيرها من الفنون بسبب الظروف والضغوط التي يعيشها يومياً، وهذا بالتأكيد له تأثير سلبي على الفنان ومنتجه الإبداعي.
 


الجمهور العالمي حررني من السجن في منطقتي الجغرافية


كفنان عراقي، أين العراق وحضاراتها في لوحاتك؟ وهل يمكن رؤيتها؟
بصراحة لا أود أن أكون سجين إقليمي ومنطقتي الجغرافية، مع حبي واحترامي الكبير لهما،فأنا أخاطب اليوم جمهوراً عالمياً وعليّ مخاطبته باللغة التي يفهمها، لن أستطيع الوصول إليه أو ملامسة دواخله لو خاطبته فقط بلغتي العراقية، بل علي إن أخاطبه باللغة التي يفهمها لأحدثه عن عراقي وحضاراته القديمة، وكي أستطيع أن أتبادل معه حواراً ثقافياً وحضارياً عبر لوحة بإمكانها أن تصل إلى عمقه وتترك فيه أثراً.
أما هل يمكن رؤية شيء من الحضارات القديمة في لوحاتي؟، نعم أعتقد ذلك، فهنالك الرموز والإشارات واضحة جداً على أنها من حضارات بلاد ما بين النهرين القديمة، ومن خلال تجربتي وجدت المتلقي الغربي مهتماً جداً بالتاريخ القديم، وما ينبع منه .

يشعر المتلقي أن بعض لوحاتك تذكره بتكوينات الكتابات المسمارية القديمة،هل تتعمد الاقتراب منها،أم أنها محفورة في ذاكرة الانتماء لديك؟
نعم هذا صحيح جدا أتعمد الاقتراب من هذه التكوينات القديمة بطريقة المعالجة والتكنيك، وحبكة اللون، والحركة، وطبقات الصباغة المستخدمة، أحرص بكل ذلك على أن أعطي للوحه عتق وقدم ينسجم بشكل جميل مع الرموز والكتابة المستخدمة، والتي أحصل عليها من المصادر التاريخية، ومن متحفي الخاص المختبئ في ذاكرتي، والذي جمعت فيه الكثير من هذه الصور والرموز الجميلة منذ نعومة أظافري، لا أبالغ لو قلت أحيانا أن المتلقي يستطيع أن يشم راحة العراقة والعتق في أغلب لوحاتي.


العراق بوتقة صهرتني فنياً، وغربتي كانت على أرضه


بين المحلية والعالمية كيف يمكن أن تلخص لنا تجربتك الإبداعية؟
في رأيي أن التجربة المحلية مهمة جداً كانت بالنسبة لي، وخاصة وأن العراق فيه حركة فنية متفردة، وتجارب تشكيلية مهمة. استفدت كثيراً منها، حيث أعطتني القوة للدخول إلى الساحة العالمية بدون تردد أو خوف، وكوني عراقياً دائماً أنظر للعراق على أنه بوتقة حقيقية صهرت في داخلها الكثير من الفنون والإبداع، تلك البوتقة أعطتني المقومات اللازمة لعرض تجربتي في محافل فنية عالمية وبنجاح بفضل الله، فاستطعت من خلال لوحاتي أن أحاور المتلقي الغربي بسهولة.


من الغربة في الوطن إلى الغربة خارج حدوده، أين كانت غربتك الحقيقية؟ وأين تجد نفسك كفنان وكانسان؟
غربتي الحقيقية كانت في وطني للأسف، وتلك برأيي أصعب وأقسى أنواع الغربة، بينما وجدت نفسي كإنسان في بلاد الغُرب، هنا للإنسان قيمة، وله الحق في العيش بسلام وأمان وكرامة، ووجدت نفسي كفنان ففي بلاد الغرب هنالك قيمة خاصة وحقيقية للفنان، وفي غربتي هذه تعلمت الكثير وطورت نفسي وفني كثيراً، وساعدتني غربتي بالانطلاق إلى العالم المفتوح دون حواجز وعراقيل .


نحن مسئولون عن الصورة السيئة للإسلام، والعراق أثرت على جميع الحضارات


في الحضارة الإسلامية تتواجد الرمز والإشكال الزخرفة والمنمنمات، هل هناك مسؤولية تقع على الفنان العربي والمسلم بتعريف العالم بالفن الإسلامي، خاصة في ظل ظروف سياسية يتهم فيها الإسلام بالإرهاب؟
أعتقد أن العالم يعرف جيداً أهمية الفن الإسلامي وتأثيراته واضحة جداً على الحضارات الغربية، ولا زال الغرب يحتفظ بالكثير من التحف الإسلامية، فلا يخلو متحف كبيراً كان أم صغير من وجود الفن الإسلامي ضمن معروضاته، أما عن المسؤولية التي تقع على الفنان أرى أن المسؤولية تقع علينا جميعاً وليس على الفنان وحده أن يتحملها، فهذا الإرث الحضاري يخصنا جميعاً، وعلى كل واحد منا من موقعه خدمة هذا الإرث ونشره بشكل حضاري مشرف لتغيير الصورة النمطية عن العرب عموماً والمسلمين خصوصاً, فنحن بطريقة أو بأخرى نتحمل المسؤولية – وأن كانت جزئيةً- عن هذه الصورة السيئة الموسومة لنا كعرب ومسلمين والتي جاءت وللأسف نتيجة لأفعال البعض ممن يحسبون على المسلمين، أسألك بالله هل ديننا ونبينا عليه الصلاة والسلام حثنا على قتل الناس، وهو الدين الذي يوصينا بالرفق بالحيوان فكيف الإنسان؟


العراق بلد معروف بتعاقب الحضارات القديمة على أراضيه، كيف أثرت تلك الحضارات في تكوين الفنان لديك، وفي رسوماته؟
بالتأكيد الحضارات القديمة أثرت بي كثيرا، وإن لم يكن بشكل مباشر فتأثيراتها نحملها في جينات الوراثة الجماعية التي تحمل تراث الأمة وحضارتها وشكلها ومميزاتها وتاريخها، و ربما في حالتي كانت التأثيرات وراثية ومباشرة في آن واحد.
وكما أسلفت عن زيارتي للمرة الأولى للمتحف العراقي وتأثيرها بي وأنا طفل صغير، بالتأكيد للفنان حساسية خاصة جداً، وطريقة مميزة للإحساس بالجمال وقراءته، وأسلوب في التعامل مع الفنون.
وما كنت أطلع عليه أو أشاهده من القطع الأثرية والرقم الطينية والمنحوتات التي خلفها لنا أجدادنا القدماء، والتي توقفت أمامها مذهولا بعبقرية السومريين والبابليين والآشوريين، وما أنتجته أناملهم من جمال أوصلني حد البكاء أحيانا، كيوم وقفت أمام بوابة عشتار التي تشمخ في إحدى متاحف برلين. وليس خفياً أن حضارات بلاد ما بين النهرين استطاعت أن تؤثر على الحضارات الأخرى، وقدمت الكثير للإنسانية، وكوني حفيد هؤلاء العظام لي الفخر والحق في أن أغترف الكثير والكثير من هذا التاريخ العراقي القديم الحافل بالسحر والتمائم والرموز، وأقدمه بطريقة معاصرة .


أثناء معارضك، هل هناك موقف بقي في الذاكرة تحب مشاركتنا به؟
نعم هنالك مواقف حصلت، لكن أحدث هذه المواقف ما لامس قلبي وأفرحني كثيرا في معرضي الأخير في مدينة جنيف، جاء إلى المعرض كاتب سويسري بغية شراء لوحة من المعرض ليقدمها هدية لزوجته بعيد زواجهما الثلاثين, زوجته فنانة وأستاذة للموسيقى تحب عملي كثيراً، وعلى جدران منزلها علقت أكثر من 12 لوحة من لوحاتي.
كان ذلك الموقف مؤثراً جداً، وربما ملفتاً أيضا، فكم من الأزواج يفكر في إهداء لوحة لزوجته؟!، تلك لمسة في غاية الرقة، لا أستطيع نسيانها.


ما هي أهم المعارض التي أقمتها وشاركت فيها؟
قدمت أكثر من عشرين معرضاً شخصياً، توزعت في دول عربية وأوربية، وعدد كبير من المعارض الجماعية، ومنها العالمية توزعت بين أمريكا ولندن وايطاليا وفرنسا وسويسرا بلد الإقامة، واليابان وكوريا الجنوبية، ولوحاتي بفضل الله توزع في معظم دول العالم.


أعداء النجاح لم يتركوني، وهذه أسباب دخولي المحكمة


من الرسم إلى التصوير إلى الإخراج، كيف كانت حركة التنقل؟ وما هو الرابط بين الفنون المرئية الثلاثة؟
الرسم والتصوير هما تخصصان درستهما أكاديمياً، بالإضافة إلى شغفي بهما، أما الإخراج فهو هوايتي والرابط المشترك بين الثلاثة الحس والصورة المعبرة والتناغم البصري.

كيف انطلقت فكرة مركز فضاء الشرق الثقافي؟
فكرة فضاء الشرق الثقافي جاءت من خلال الأمسيات التي كنت أنظمها في مرسمي الخاص ومن ثم فكرت في تطويرها لإقامة أنشطة ثقافية متنوعة، فاقترحت الفكرة على أصدقائي المهندس نادر موسى والصديق المرحوم السينمائي نبيل نديم فرحبا بالفكرة وتعاونا معي، وعملنا كثيراً على تغيير ديكور المكان، وإعطائه مزيجاً متناغماً من الروح الشرقية حيث ننتمي، والروح الأوربية حيث نعيش.
كان عملاً ممتعاً ورائعاً، ويوم افتتاحه كان عرساً جميلاً حضره أكثر من مئة شخص بجنسيات مختلفة، لكن كالعادة هنالك من يقف لك بالمرصاد لأي نجاح ،تقدم شخص عربي أعرفه جيداً بشكوى إلى السلطات السويسرية مدعياً أن المركز ورائه جهات مشبوهة، مما أدخلني بإشكالات كبيرة ومتعبة جداً، خاصة أن العالم تلك الفترة يعاني تداعيات أحداث 11 سبتمبر، وأدخلني ذلك المحكمة واستمرت التحقيقات أكثر من ثلاث شهور وبعدها تبينت براءتي، و سبب لي هذا الأمر إحباطاً كبيراً، ولكنه لم يمنعني من عمل الكثير من الأنشطة الثقافية والمعارض الفنية في مرسمي.


ما الذي دفعك إلى ابتكار طريقة الفيديو في عرض الفنون المتنوعة من رسم وشعر وأدب؟
من طبيعتي أحب الفنون البصرية، ويعجبني العمل والإنتاج في مجال الفيديو، فاستثمرت فيه وقت فراغي وبدأت بعمل أشرطة للوحاتي مع إدخال أو مزج الموسيقى بالعرض، وبعدها ارتأيت أن يكون هذا الجهد من نشاط مركز فضاء الشرق الثقافي، وفعلاً قدمت عدداً من الفنانين والكتاب والشعراء من جنسيات عربية مختلفة، ووصلت الأفلام التي أنجزتها إلى أكثر من 60 فيلماً، بين الفن التشكيلي، والشعر، والقصة، والموسيقى، والغناء، و أستطيع أن أقول الدافع مشترك بين تقديم الجمال بطريقة بصرية معاصرة، وخدمة الآخرين، وتطوير مهاراتي الفنية .


مجلة ألوان الثقافية، عملاً ممتعاً يراه البعض موجعاً


مجلة ألوان ثقافية،كيف بدأت فكرتها؟
بدأت الفكرة بإنشاء مجلة الكترونية متخصصة بالفن التشكيلي، لكنني وجدت أنها محصورة ومحدودة، خاصة أنه تربطني علاقات طيبة ومهمة مع عدد من المبدعين العرب من كتاب وشعراء وفنانين في مجالات مختلفة، ففكرت لماذا لا أشرك كل هؤلاء المبدعين بمشروع أكبر وأكثر شمولية؟ فكتبت لهم شارحاً فكرتي ورحبوا بها وتعهدوا بالوقوف معي لإنجاحها، وبإصرار كبير، وإمكانيات مادية متواضعة جداً، استثمرت فيها إمكانياتي الفنية والتقنية، وأعطيتها وقتاً كبيراً، وجهداً استثنائياً، وصارت ألوان رائعة بشكلها ومضمونها وجميلة ومهمة بكتابها وقرائِّها وحضورها، والجميل فيها أنها مجلة ثقافية اهتمت بكل المجالات الإبداعية والفنون بعيدة كل البعد عن التطرف والسياسة، وأنها تعتبر المجلة الأولى في أوروبا كمجلة ثقافية عربية، كما أن أسرة المجلة لا تنتمي إلى بلد عربي محدد بل من كل بلد عربي زهرة.
سُئلت مرة من أحد الكتاب الأردنيين عن المؤسسة التي تقف وراء مجلة ألوان ثقافية، كونه يراها بشكلها وإخراجها المتميز وكأنها من مؤسسة تمتلك ثروة، فأخبرته أنها جهدي أولاً، ومادياً أغطي تكاليفها من خلال ما أبيعه من لوحاتي، فاستغرب وقال: " هذا موجع.."!، لكنني أراه ممتعاً وليس موجعاً .

عملت مصوراً متجولاً في السادسة عشر، والدراسة الأكاديمية طورت هوايتي

تعرضت مجلة ألوان إلى تخريب متعمد، من كان برأيك وراء ذلك وما السبب؟
نعم بتاريخ 11/11/2010 وفي ساعات الصباح الأولى كنت ساهراً على إخراج وإصدار العدد السادس عشر منها، عندما تعرضت المجلة للتخريب، في حينها اعتقدت أنه مجرد خلل في شبكة الانترنت، لكن في اليوم الثاني تأكدت أنه تخريب متعمد للأسف، آلمني ذلك كثيراً، ولم أستطع أن أستوعب فكرة أن يقوم شخص بتدمير عمل وجهد الآخرين دون مبرر، ولكن لا أحد يستطيع إنكار وجود أعداء النجاح أصحاب العقد النفسية والأمراض المستعصية، وبالرغم من ذلك أعد من قام بتخريب المجلة بأنها ستعود أقوى من ذي قبل، وسأعيد أرشفة ما ذهب منها، ليبقى متعة لجمهورها الواسع.


أخيراً، هل تخبرنا عن علاقتك بالكاميرا وبالتصوير؟
لي عشق خاص بالكاميرا، في البداية تعلمت التصوير من الكتب والمعارف المتخصصة بالتصوير، وفي السادسة عشر من عمري كنت أعمل في فترة العطلة المدرسية مصوراً متجولاً، أدور في الإحياء، ويطلبني الناس لتصوير مناسباتهم. ومن ثم تطورت الموهبة بالدراسة الأكاديمية، وظل التصوير هواية أحبها كثيراً، فلم أسعَ إلى الاحتراف، غير أنني استفدت منها لتوثيق لوحاتي الفنية، ورغم أنني عضو في جمعية التصوير العراقية لكنني للأسف لم أستثمر هذه العضوية بالمشاركة بنشاطات الجمعية الهامة التي كانت تقيمها في بغداد، ولكن من يدري ربما أقمت معرضاً ضوئيا ذات يوم إن وجدت وقتاً ورغبة في ذلك.