سقف مطالب منخفض لتعود الحياة إلى مجراها بعيداً عن ذكرى مجرى السيل

مرآة سيل جدة تعكس خبايا وأسرار أحياءها المتضررة وسكانها

عربيات
صور وفيديو

عربيات - خاص:- يقال أن (البيوت أسرار)، ولكن السيل الذي أصاب مدينة جدة أذاع سرها وجرف أبواب منازل بعض الأحياء مخلفاً (أموات)، أو مر مروراً خانقاً اضطر معه السكان إلى خلع الأبواب والنوافذ للخروج من المنازل والسيارات. جدة الآمنة شعرت بالهزيمة دون أن تخوض حرب، غير أن السيل بكل ماخلفه من خسائر كان وجهه كالمرآة الكاشفة للعيوب، (عربيات) حاولت أن تقرأ حروف الألم المكتوبة على سطح المرآة، وفي القصص التالية نقرأ معكم فصول من الألم تتضارب فيها أخطاء التخطيط وتختلط أحياناً بالخوف من مغادرة المنزل المتضرر إلى المساكن المؤقتة خشية من فقدان السكن الدائم أو إزالته، وتتقاطع مع وعي غائب لدى أسر مطحونة لم تراعي ظروف نفسها فكانت النتيجة التكاثر بعشوائية تثقل كاهل رب الأسرة، وتتوقف الكلمات في أغلب القصص عندما تتقاطع مع وصف لحظة فقدان الأحبة أو موت الأمل.


إمكانيات بسيطة وآمال محدودة
 السيدة آمنة الكيلاني التي لاتود أن تغادر منزلها بقويزة إلى شقق الإيواء المؤقت تقول:
"انفصلت عن زوجي وأسكن مع أمي وأختي وابنتاي في منزل بقويزة، وعندما بدأت الأمطار بالهطول قبل السيل اعتقدت أنها أمطار خفيفة سرعان ماتتوقف، لكن مع زيادة انهمارها وتسرب الماء إلى منزلنا أدركت أننا أصبحنا في خطر فأيقظت شقيقتي وبناتي واقترحت أن أقوم مع البنات بإخراج الماء في الوقت الذي طلبت فيه من شقيقتي أن تلازم والدتي ولا تغلق باب حجرتها، وفي ظل الموقف الصعب أخطأت شقيقتي وأوصدت الباب فحال الباب والماء بيننا، مما دفعني إلى الاستغاثة بأحد الجيران لمساعدتي على فتح الباب، وبالفعل اضطر إلى كسره لتباغته مياه السيول والمجاري التي وصلت إلى منتصف ارتفاع الحجرة، واستطعت بعدها بمساعدته أن أحمل والدتي المريضة إلى الدور العلوي، وفي هذا الوقت وصل أخي وطلب منا مغادرة المنزل إلى منزله، لكن أمي رفضت بإصرار أن تترك منزلها، فآثرت البقاء معها بينما انتقلت أختي وبناتي إلى منزل أخي، حتى هدد الخطر حياتنا فوافقت أمي على نحملها خارج منزلها".
وتضيف: "عدت لمنزلنا الذي نملكه ونعيش فيه منذ أكثر من 20 سنة بعد أن هدأت العاصفة فوجدت المنزل حطام، والطين وبقايا الماء تغطي كل شيء مما جعلنا نستنفر لتنظيف حجرة واحدة حتى نتمكن من البقاء في البيت".
وعن الإعانات تقول: "ذهبت إلى مركز التوزيع للحصول على المؤن الغذائية لكنهم أفادوني أن الإعانات ستصلني إلى المنزل ومر اليوم دون أن يصلني شيء، فطرقت باب إحدى جاراتي لتعطني مما تجود به نفسها".
وعن حياتها في قويزة قبل السيل تقول:
"تنقلنا بين أحياء (السبيل)  و(كيلو10) و(كيلو11) وأخيرا (كيلو14)، قبل أن نختار السكن في حي قويزة الذي نعتبره مريح بالنسبة لنا، وبالرغم من وجود بعض المخاطر فيه إلا أننا كنا نغلق الباب على أنفسنا مساءًا ونطمئن، لذلك لم ننتقل إلى مساكن الإيواء فنحن متمسكين بمنزلنا ولا نطلب إلا إصلاحه وتنظيفه لتعود حياتنا إلى مجراها".
وإن كنا لا نعرف إن كانت تقصد أن تعود الحياة إلى مجراها أو إلى مجرى السيل الذي تقع فيه قويزة، إلا أنها تستدرك الحديث عن الآلية التي ستدير بها حياتها قائلة:
"بناتي يشملهن الضمان الإجتماعي الذي بالكاد يغطي تكاليف الدراسة مما اضطرني إلى العمل في إحدى المشاغل بشهادة الثانوية العامة التي أحملها، وقد حاولت العمل في إحدى المستشفيات لكن لم يحالفني الحظ، وسأواصل البحث عن عمل لأتمكن من  من تغطية متطلبات المعيشة والعلاج لوالدتي المريضة".


دخلت سيارة من الحائط فخرجنا من منزلنا بملابسنا التي نرتديها
أحمد محمد الذي لم نتمكن من الدخول إلى منزله بعد أن فقد جزء من حائطه وفاضت مياه الصرف الصحي داخله، التقينا أولاً بابناءه لنتعرف على احتياجاتهم غير أن المفاجأة كانت أنهم بحاجة إلى كمامات فقط حتى يحتملوا الرائحة التي يختنق بها المكان، وتداخل والدهم واصفاً الأحداث التي أدت بهم إلى هذا الحال قائلاً:
"أثناء هطول الأمطار جرف السيل إلى منزلنا سيارة حطمت الحائط مما أصابنا بالذعر وكدنا أن نغرق في المياه التي غمرت الدورالأول لولا أن الله قد أعانني على إنقاذ عائلتي وحملها إلى السطح أما الأثاث فقط خرج أغلبه مع السيل من الفتحة التي دخلت منها السيارة. بعد ذلك تم نقلنا إلى إحدى الشقق المفروشة مؤقتاً وبالفعل أرسلت لنا الجمعيات الخيرية مواد غذائية وإعانات، لكني أعود كل يوم إلى منزلي في قويزة للبحث عن متعلقاتنا تحت الأنقاض، ولا أعرف إلي أين سأنتقل بعد ذلك خاصة وأن المنزل قد تحطم حائطه وفقد أثاثه وتلفت مواسيره وفاضت فيه المجاري".
وعن عدد أفراد أسرته وظروفهم المعيشية يقول: "أنا متزوج من زوجتين ولي من الأبناء 9 تتراوح أعمارهم بين 24 سنة و 5سنوات، وزوجتاي ترفضان السكن في مكان واحد لذلك كان منزلنا المستأجر من طابقين منفصلين والآن أنا بحاجة لمنزل منفصل لكل منهما أو سكن مماثل لمسكننا القديم".
ويعاني أبناء محمد من البطالة بالرغم من أن أحدهم يحمل شهادة الثانوية العامة، أما عن طبيعة عمل رب الأسرة، فيقول: "أعمل على سيارة مستأجرة (دباب) وقد غرق كذلك في السيل لكن بعد بحث طويل تم العثور عليه، أما مدخراتي فكانت عبارة عن 5000 ريال أضعها في حقيبة ذهبت مع السيل وبها (ذهب) زوجتاي، وأستطيع أن أقول في هذه اللحظة أن ممتلكاتنا هي عبارة عن الملابس التي نرتديها فقط".


سقف الأمنيات لايتجاوز المساعدة على إزالة مخلفات السيل
تقيم السيدة إيمان عبد الله (مطلقة) مع والدها ووالدتها وشقيقها وابنتيها في قويزة، كانت الحياة بسيطة حيث يقوم والدها وأخوها بالإنفاق على الأسرة، إلى أن جاء السيل الذي تصف أحوال البيت بعده قائلة: "المياه في منزلنا مازالت تصل إلى ارتفاع ربع متر تقريباً وقد تعرض الأثاث إلى تلف كامل واختلط بالطين وبمياه الصرف الصحي باستثناء حجرة واحدة مرتفعة تمكنا من تنظيفها ونسكن فيها جميعاً حالياً مع معاناة كبيرة في استخدام مياه الخزان الذي امتلأ بالطين فلم يعد لدينا للنظافة سوى هذه المياه الملوثة".
وتؤكد إيمان أن عائلتها لم تصلها توجيهات للانتقال إلى شقق الإيواء حتى الآن بعد مرور حوالي أسبوعين على السيل بالرغم من مغادرة أغلب سكان الحي، وعن الحلول المتاحة، تقول: "لانعرف أحد بوسعه أن يستضيف العائلة بالكامل لفترة غير محدودة لذلك لم نغادر منزلنا مما تسبب في تدهور حالتنا الصحية وإصابتنا بالبرد وارتفاع درجة الحرارة، وبالرغم من أن المعونات الغذائية تصلنا من الجمعيات الخيرية باستمرار كما أن الأطباء قد قاموا بزيارتنا وتزويدنا بالعلاج إلا أننا نتطلع إلى مساعدتنا على تنظيف المنزل لأن بقايا السيول بحاجة لمعدات تزيلها ولا يمكننا القيام بذلك".


وقوفاً على أطلال السيل
بالرغم من أن كافة القصص التي يمكن الاستماع إليها من الأشخاص الذين عايشت أحيائهم السيل هي قصص أليمة إلا أن الألم قد يتجاوز المشاعر إلى أن يلمس العقل الذي يحتاج إلى قدر هائل من الثبات والإيمان بالقضاء والقدر لاستيعاب النازلة، فالجولة على المنازل مع أحد السكان تعني أن تجده يشير طوال الوقت إلى منازل فقدت أهلها، فيذكر حي قويزة المساكن العشوائية التي اعتمدت على تمديدات كهرباء بشكل غير مشروع من منازل مرخصة سرعان ما انتشر فيها الماس الكهربائي ليلقى سكانها حتفهم.

ويذكر أهالي (كيلو14) أنه في هذا المنزل كانت تجلس إمرأة ووليدها بعد أن خرج الزوج وأغلق الباب من الخارج عليهما، ليغيب ويحضر السيل، دون أن يتمكن الجيران من كسر الباب لاخراجهما قبل أن يلفظا أنفاسهما الأخيرة غرقاً.


وفي الصواعد لن ينسى الأهالي فرحة عثورهم على أحد المفقودين جالساً فوق أكوام الطين قبل أن يواجهوا رفضه مغادرة المكان إلى السكن المؤقت ليعلموا لاحقاً أن أبناءه قد سقطوا في حفرة تقع أسفل البقعة التي يجلس عليها وتحتضن أجسادهم كمقبرة من مقابر السيل.


وإلى جانب قصص الموت، تبرز قصص البطولات لسكان الأحيان الذين بذلوا ما بوسعهم لإنقاذ بعضهم البعض، وقصص عن رجال الدفاع المدني الذين تفانوا ليحولوا بعد مشيئة الله دون إرتفاع عدد الضحايا إلى الآلاف.

نظرة على (كيلو14) بعيون سكانه

أردنا في (عربيات) أن نتعرف التركيبة السكانية لمنطقة (كيلو14) التي تعد أحد أكثر المناطق تضرراً من السيول، فأفاد سكانها بأنها تضم حوالي 2000 منزل،  ويبلغ متوسط عدد أفراد الأسرة بين 5 إلى 10 أفراد مع وجود منازل تضم أكثر من 25 فرداً.
ووفقاً لأحد السكان تبلغ نسبة السعوديين حوالي 25%، كما أن أغلب المقيمين تعتبر إقامتهم نظامية، وتتوفر في الحي معظم الخدمات الأساسية باستثناء المياه التي يتم ضخها إلى خزانات المنازل بواسطة (الوايتات) كما يفتقد الحي إلى وجود شبكات الصرف الصحي، بينما تتوفر فيه مستوصفات ومدارس ومراكز شرطة ودفاع مدني ويعتبر وفقاً لأقوال سكانه من الأحياء الآمنة.
تتنوع وظائف سكان الحي من السعوديين بين الخدمية والحرفية إلى الوظائف الخاصة والحكومية حيث يضم الحي عدد من رجال الشرطة والدفاع مدني. كما تقطن الحي أجناس مختلفة من دول الخليج وماليزيا ومصر وسوريا وفلسطين واليمن والأردن وبنغلاديش وبورما والهند وأثيوبيا وتشاد وغيرها، وتتركز أعمال الجنسيات الافريقية والآسيوية على الخدمة المنزلية وأعمال البناء والصيانة والحرف المختلفة. أما نسبة البطالة بين فئة الشباب في الحي فتصل وفقاً لتقديرات الأهالي إلى 80%.
ويؤكد بعض السكان أنه في السنوات الأخيرة أصبح هناك إقبال أكثر من ذي قبل على السكن في الحي بسبب انخفاض أسعار العقارات قياساً بالأحياء التي تقع في شمال مدينة جدة حيث يقدر متوسط أسعار الإيجار بحوالي 300-500 ريال شهرياً، ولايعد (كيلو14) الحي (المفضل) بالنسبة لهم للسكن، لكنه (الأنسب) لدخلهم المحدود.
أما عن طموحات السكان بعد حادثة السيل فانحصرت المطالب على سفلتة الشوارع، حيث أوضح أحدهم أن خطورة الأمطار على الحي تكمن في أن المنازل أصبحت منخفضة عن إرتفاع الشوارع الرئيسية بنصف متر إلى متر مما يجعل المياه تصب في المنازل كلما هطلت الأمطار.