احتضان العقول قبل أن تهاجر

علماء مع وقف التنفيذ

رانية سليمان سلامة

أردت أن أُنادي بضرورة استعادة العقول المهاجرة فوجدتُ أنه من الأولى أن نلتفت لاحتضان تلك العقول الموجودة بيننا قبل أن تُهاجر... واستعدتُ في ذاكرتي زيارة قمتُ بها في عام 2000م لمركز الملك فهد للبحوث الطبية في جدة للقاء بعض رموزه والاطلاع على انجازاته التي تعد بحق مفخرة للوطن... ففي معامله ومختبراته عكف علماؤنا وعالماتنا على أبحاث استطاعت تحقيق نقلة علمية وحضارية في مجالات مختلفة, ومن هناك خرجت العديد من النتائج والاكتشافات التي تجاوزت الاستفادة منها نطاق الوطن وذاع صيتها لتحصد اهتماماً وتقديراً عالميين... وبعد جولة تعريفية سريعة أدركتُ أن هناك أيضاً في نفس المكان كنوزاً حبيسة الأدراج والورق تقف وراءها ثروات وطنية معطلة وعقول نابغة يكاد أن يغتالها القهر.

أما الكنوز حبيسة الأدراج فقد اطلعت عليها وتصفحت الملف الضخم الذي تسكنه أوراقها مصنفة البحوث المقدمة للمركز بحسب تخصصاتها, واستعرضتُ من كل تخصص عناوين الأبحاث المتعثرة وأسماء الباحثين والعلماء والعالمات الذين يتطلعون إلى انجازها مع ملخص يوضح أهمية كل بحث وما يرمي إليه... وكان من أبرزها البحوث المتعلقة بالمجتمع والإنسان السعودي تحديداً وهي البحوث والحلول التي لا يمكننا أن نستوردها إذا لم تنتجها عقول علماء هذا الوطن... وأخيراً كنت أصل إلى العقبة التي تزين كل صفحة -ميزانية مشروع البحث- وتراوحت ما بين بضع آلاف من الريالات وقفزت إلى الملايين للأبحاث الهامة التي تستغرق سنوات من العمل والتجارب أو تتطلب تجهيزات معملية خاصة وكوادر متخصصة مساندة... فهمت عندها لماذا ترصد الولايات المتحدة الأمريكية 92 مليار دولار سنوياً على البحث العلمي وتنفق أوروبا 62 مليار دولار واليابان 42 ملياراً, فتلك الأرقام تعكس النهضة العلمية للدول المتقدمة التي أدركت أن آلاف الوثبات العلمية والتكنولوجية تبدأ بخطوة البحث العلمي.

وكما شاهدتُ الورق, أصغيت إلى المعاناة على لسان بعض القائمين على المركز... فعلماؤنا الأفاضل وعالماتنا الفضليات تواجه أبحاثهم أحد الاحتمالات التالية, إما أن يسعدهم الحظ بإمكانية توفير المركز لتمويل كامل لمشروع البحث وهذا نادر في ظل قلة الموارد المالية للمركز, أو يتكفل صاحب البحث بتمويله من مدخراته, أو يبحث عن تبرعات من القطاعات المختلفة أو الأفراد... يوجد بالطبع احتمال آخر بديهي وهو باختصار أن تتعثر كل تلك المحاولات فيكون مصير البحوث أن تبقى حبراً على ورق إلى إشعار آخر.

وقد لا يكون الإشعار الآخر بعيداً..!! في ظل وجود استراتيجية فعالة لدى الدول المتقدمة لاستثمار العقول والكفاءات المتميزة في المجالات العلمية والتكنولوجية وجذبها للهجرة من دول العالم الثالث إلى بيئة صحية حاضنة للعلماء... ولعلنا نفخر بأن الجامعات ومراكز البحوث العالميةتعرف علماءنا وتسعى لاستقطابهم بمغريات مادية ومعنوية كبيرة وبتأمين المستلزمات التكنولوجية المتعلقة بمجال بحوثهم, لكننا لابد في ذات الوقت أن نأسف لأننا نجهل حتى أسماء أغلب العلماء السعوديين والعالمات السعوديات العاكفين على الدراسات والبحوث العلمية الهامة ولا نعرفهم إلا بعد أن يذيع صيتهم ويحققوا انجازاتهم خارج أرض الوطن فنذكرهم بعد ما تركناهم يحملون همومهم وعلومهم في حقيبة السفر والغربة عن الوطن.

بقي أن أذكر أنني أغلقت ذلك الملف في مركز الملك فهد للبحوث الطبية قبل خمس سنوات بعد أن اطلعت على الكنوز العلمية التي يضمها ولا أدري إن كان قد تم استخراجها خلال تلك السنوات أو ظلت مدفونة, لكني تمنيت آنذاك أن يعاود فتح ذلك الملف من يدرك قيمة العلم والعلماء ويحرص على مستقبل وطنه ويملك أدوات وآليات تأمين المناخ الملائم لهم لتوظيف خبراتهم وطاقاتهم في تطوير واقعنا العلمي والتكنولوجي والحيلولة دون إهدار ثروة بشرية يصعب تعويضها.

 

* رئيسة تحرير مجلة (عربيات) الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ