نماذج (البطولة والشهرة والثراء)

نجوم لامعة تنافس النجوم الآفلة

رانية سليمان سلامة

تلقيت سيلاً من رسائل المعلمين تعليقاً على المقال السابق بعنوان (كي لا يدخل التلميذ المدرسة طالباً ويتخرج منها مطلوباً) حملت لي تلك الرسائل بشرى تؤكد أن مدارسنا بخير مادامت تلك النماذج المشرّفة فيها, فهم نخبة تستحق التكريم حقاً من إدارات المدارس على الاجتهاد والرغبة الصادقة بأداء الواجب على أكمل وجه نحو أرقى مهنة منوطة بهم ألا وهي صناعة الإنسان.... لم يكن أبرز ما في تلك الرسائل الثناء ولا الإشادة ولا الإعجاب ولكن البشارة هي أن جلها كانت من المعلمين الذين قاموا بطباعة الأسئلة التي وردت في المقال لتكون نقطة انطلاق لحوارهم مع الطلبة ورصد نتائج هذه التجربة لمعرفة توجهات الطلاب وتطلعاتهم وأهدافهم والنماذج التي يقتدون بها... وسأكون أكثر سعادة إذا زودتني هذه النخبة المتفاعلة من معلمينا الأفاضل بنتائج التجربة على أمل أن تكون نموذجاً محفزاً لتبنيها على نطاق أوسع.

بالرغم من أن الأسئلة كانت مرتبطة ببعضها البعض إلا أنني أود أن أتوقف عند سؤال (من هو/ هي قدوتك؟ ولماذا؟) حيث لفتت انتباهي إحدى الرسائل إلى أن هذا السؤال كخطوة أولى لا بد أن يُطلب من الطلبة والطالبات الإجابة عليه على ورق دون اشتراط تسجيل أسمائهم ليتمكنوا من الإجابة بشكل صريح مهما كانت الشخصية التي سيقع عليها اختيارهم أو أسباب الاختيار محل تحفظات... يبدو ذلك منطقياً خاصة إذا كانت نتائج بعض الاستطلاعات السابقة التي أجرتها قنوات فضائية أو مواقع انترنت عربية تشير إلى أن النماذج التي ينظر لها بعض الشباب الواعد بعين الإعجاب هي مع الأسف تتراوح بين بعض النجوم الآفلة في سماء السياسية والارهاب والفن والرياضة -مع فارق التشبيه وعدم التسرع بالحكم, على أن هذه ستكون اختيارات الطالب لتعكس أقصى ما يحلم بأن يصل إليه- لكننا على كل حال نود أن نعرف كيف يفكر الطالب في هذه المرحلة.

بالتأكيد هناك من يتساءل عن علاقة المدرسة بذلك وهناك من يستنكر على اعتبار أن تعريف المدرسة من وجهة نظره ينحصر في حشو المناهج في عقول الطلبة حرفياً والسلام..

فما هي علاقة المدرسة بشخصية الطالب وفكره وميوله وقراءته للأحداث الاجتماعية والسياسية التي تحيط به؟ الإجابة باختصار: كم من الوقت والمال والتخطيط لمكافحة التطرف والإرهاب كنا سنوفر لو أن المدارس كان يضم جدولها حصة حوار بين الطلبة والمشرف الاجتماعي أو المعنيين من الأساتذة ليتداركوا معاً أثر الخطابات التي أذاعها الإعلام لمن مهّدت خطاباتهم لعملية استهداف وغسل أدمغة الشباب إبان أحداث سبتمبر حتى يسهل استدراجهم نحو سفارة الموت التي تمنح فيزا ذهاب بلا أمل عودة للحياة?..

وكم من الوقت والمال المهدرين كنا سنوفر لو أن هذه الحصص نجحت في أن يصبح لدى الطالب أهداف واضحة في الحياة مع امتلاك آليات تحقيقها بدلاً من أن يكون فارغاً ومتفرغاً للتصويت لبرامج الواقع المغيب عن الواقع؟... هذا بالتأكيد دور يمكن للمدرسة أن تقوم به, كما يجب على الأسرة الإسهام فيه باستمرار... ولكن إذا حاولنا أن ننظر للمشكلة وحلولها بشمولية فلا بد أن نتطرق إلى وسائل الإعلام ودورها في صناعة النجوم التي تخطف أنظار وألباب الشباب.

شئنا أم أبينا عندما نغفو ونفيق على أخبار شخصيات معينة في الفضائيات والمطبوعات والإنترنت ستصبح هذه الشخصيات محل اهتمام وحديث الجميع كباراً وصغاراً... وشئنا أم أبينا ستبقى الشخصيات المثيرة للجدل بممارساتها غير المألوفة هي الأكثر شهرة ولفتاً للأنظار. وهذه مشكلة لا نعاني منها وحدنا ولكنها مشكلة اختلال مقاييس الشهرة والنجومية في العالم بأسره. ولا شك أن كل إنسان في مرحلة الشباب يتطلع إلى أن يكون (بطلاً، شهيراً، ثرياً) وقد يرى البطولة تتخذ صورة الإرهاب دون أن يجد من بوسعه أن يضع له الحد الفاصل بين البطولة والإجرام... وقد ينبهر بشهرة لاعب كرة عالمي فاشل في دراسته ومدمن للمخدرات، أو تنبهر أخرى بنجومية فنانة سلعتها رخيصة فتلقى الرواج...

سيبقى كل ذلك وارداً ما لم يجد الشاب في مرحلة تكوين توجهاته الفكرية وتحديد طموحاته قنوات لفلترة ما يحيط به من مشاهد... وعلى الإعلام في العالم العربي اليوم مسؤولية أكبر من المسؤولية المناطة بالإعلام في بقية بقاع العالم, لأننا نمر بمرحلة نحن بأمس الحاجة فيها لتوجيه الجيل الجديد نحو الابتكار والإنتاج والصناعة والعلوم... فإن كان لا مفر لنا من أن نتابع أخبار النجوم التي ستأفل سريعاً قبل أن ينعكس ضوؤها ليبرز نهضة تحسب لنا بين الأمم, فعلى الأقل ليكن لدينا برنامج لصناعة العلماء والمبدعين في مقابل كل برنامج لصناعة نجوم الغناء والجمال لنتابع واقعاً آخر عن حياة علماء صغار يخطون خطواتهم الأولى في طريق التفوق والاكتشاف والاختراع... ولنحلم في أن تقابل كل صفحة عن الرياضة ونجومها وصفقاتها صفحات عن أخبار العلماء العرب يوماً بيوم, وعن تسابق المؤسسات المعنية ومراكز الأبحاث لعقد صفقات انتقال العلماء إليها لترعاهم وتسجل انجازاتهم...

أحلم بيوم نشعر فيه بالملل لكثرة ما تطالعنا به وسائل الإعلام من تفاصيل دقيقة عن مشوار نجاح الشباب الذين قرروا بناء مستقبلهم وشركاتهم الصغيرة بأنفسهم من نقطة الصفر، وعن بطولاتهم في تجاوز كل العقبات وسقطات الفشل والإحباط... ونلاحق أخباراً ساخنة عن محاولات احتكار المصانع الكبرى لمهارات أصحاب المواهب بهدف تحويل انتاجهم إلى سلع رائجة تغرق السوق المحلي والعالمي.

علينا أن نعترف بأن النجوم يصنعهم الإعلام, وإن كان الإعلام قد نجح في صناعة نجوم آفلة فسينجح بالتأكيد في إزاحة السحب عن نجوم لامعة لتبرق معها طموحات الشباب وتصبح أمامهم نماذج أخرى عصرية ناجحة تؤكد أن بوسعك أن تحقق حلم ثلاثية (البطولة والشهرة والثراء) عبر طريق آخر... وأن هناك فارقاً كبيراً بين نجومية مقوماتها سريعة الزوال كالقوة والإبهار والجمال وأخرى عندما يحين وقت غياب نجومها يخلفون وراءهم قناديل تضيء دروب الحضارة... فشيء ما من الإنسان الذي يفنى كتب الله له الخلود, هو ببساطة انجاز لا غنى لنا عنه لتحقيق النهضة وبصمة فريدة لا يمحوها الزمان.

 

* رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ