ثقافة الاستقصاء في العالم العربي

الاستسقاء والاستقصاء

رانية سليمان سلامة

الاستسقاء لغة هو طلب السقيا من الله، أو من الناس، وشرعاً نعرف صلاة الاستسقاء كسنة مؤكدة طلباً للمطر عند انقطاعه واستجداء لهطوله بعد الجدب. أما الاستقصاء فهو معرفة التوجهات ودراسة الاحتياجات والسلوكيات بالاعتماد على المسح الإحصائي الذي قد تستفيد منه وتستند إليه الجهات والهيئات الحكومية والتجارية والاجتماعية... وبين الاستسقاء والاستقصاء تشابه ليس في الحروف والنطق فحسب، ولكن كذلك في كون ثقافة الاستقصاء لدينا مفقودة والحصول على معلومات من الجمهور قد يتطلب استجداء المشاركة تلافياً لجدب المعلومات أو شحها.

الجمهور لا يحرص على تعبئة أي نوع من البيانات ولا يتحمس للمشاركة برأيه، ولقد استخرجت من أرشيفي وذاكرتي ثلاثة أمثلة ونماذج:
- أولها فاكس مرسل من السيدة بسمة العمير -قبل عام تقريباً- يشير إلى أنها قامت في بداية توليها لمنصب مديرة مركز السيدة خديجة بنت خويلد بإرسال استبيان عن الخدمات التي تود السيدات أن يقدمها المركز وقد كانت الفئة المستهدفة هي (سيدات الأعمال، المستثمرات الجدد، المرأة العاملة، مجتمع جدة)، بعد فترة من إرسال الاستبيان أرسلت فاكسا بالنتائج مرفقا بعتب يشير إلى أن 150 سيدة فقط قمن بتعبئة البيانات، وهي نسبة ضئيلة جداً بالطبع لا تساعد ولا تكفي لحصر الاحتياجات والارتقاء بالخدمات.
- ثانيها قيام الملتقى الثقافي النسائي بمدينة جدة بمناسبة مرور 10 أعوام على تأسيسه بتوزيع استبيان عن فعالياته لمعرفة ما تفضله السيدات من مواضيع وآليات طرح وما يتمنينه من الملتقى، وبعد فترة تلقيت اتصالاً من إحدى الأخوات تطلب مني أن أجيب على الأسئلة عبر الهاتف، وهو على ما يبدو الحل البديل بالسؤال المباشر بعد مواجهة مشكلة عدم التجاوب مع الورق.
- وآخرها تجربة خضناها قبل فترة قصيرة أنا والزملاء في لجنة تقنية المعلومات بغرفة جدة عندما قمنا بالتصويت على اقتراح إرسال استبيانات لجميع مديري التقنية في مدينة جدة لمعرفة حجم المنشآت القائمة في هذا القطاع وأنشطتها والمشاكل التي تواجهها وتطلعاتها وسبل التواصل معها... ولا يحضرني عدد الاستبيانات التي تم إرسالها ولكن الرقم كان بالآلاف بينما تلقى المسؤول في الغرفة 10 ردود فقط، وهذا يعني أن الحل إما إلغاء الفكرة أو استبدالها بتوزيع المهمة على فريق عمل يتواصل بشكل مباشر مع الجهات والأشخاص المستهدفين لجمع المعلومات اللازمة.

قد أكون في مقالات سابقة أشرت إلى أهمية إجراء الدراسات واستطلاعات الرأي قبل الإقدام على خطوات جديدة أو اتخاذ قرارات هامة ولكنني اليوم أشدّد على أن نجاح هذه العملية يعتمد على جانبين: الأول الجهة التي تطرح الأسئلة والثاني الجمهور الذي يتلقاها، وعلينا أن نضع بعين الاعتبار أن الجمهور لم يعتد على هذا الأسلوب بل البعض يعزف عن الإجابة باعتبار أنها اختراق للخصوصية فيقف في صف (إنت مالك؟)، ولا يقدم معلومات حتى ولو كانت عامة. والبعض الآخر قد يجيب ولكن مع الأسف نجده مُتحفظاً في إجابته أو مُتحرياً الإجابة المثالية والتي لا تعبر بالضرورة عنه، وذلك حفاظاً على (البريستيج) وادعاءً للكمال، كما أن هناك من يخشى من الإدلاء برأيه خاصة إذا كان في قرارة نفسه شاكياً أو معترضاً على أمر سلبي قائم، فيكتفي بالوقوف في صف (أنا مالي)، بالإضافة لمن يشكك في إمكانية استغلال هذه المعلومات أو الاستدلال بها بشكل خاطئ وهو احتمال وارد.. بعد كل ذلك، قلة فقط تحرص على تسجيل رأيها بدقة وصراحة، وأقل من هذه القلة يعرفون أهمية هذه الدراسات وأهمية رأيهم وصوتهم في صياغة أهداف وتوجهات الجهات الرسمية أو الخاصة.

مؤشرات عديدة اليوم تؤكد على أهمية الدراسات المسحية لتحقيق التنمية والتطور، فالمؤسسة الأمريكية للإحصاء -على سبيل المثال- اعتبرت أن الولايات المتحدة لم تعد مجتمعاً صناعياً وإنما (مجتمع معلومات) يتحدد ويتغير مساره وفقاً للإحصائيات التي تصدر على جهات متخصصة، وكما باتت الولايات المتحدة تنظر إلى نفسها من خلال المعلومات التي توفرها الدراسات عنها فإنها تنظر للعالم بنفس المنظار. فنجد أن بعض مؤسساتها البحثية الكبرى مثل Gallup تقدم على موقعها نتائج دراسات أجرتها في مختلف أنحاء العالم بما فيه العالم العربي والإسلامي لرصد آراء الشعوب ومعرفة توجهاتهم. وقد لفت انتباهي بعض تلك الدراسات وكدت أن اكتب عنها حتى تذكرت ثقافة الاستقصاء الشعبية في العالم العربي، والتي تجعلني أشك في دقة أي نتائج صادرة عن أي جهة حتى إشعار آخر تقوم فيه جهات محلية باستقصاء ضخم للرأي يتغير على ضوئه مسار هام في حياة الناس فيشعرون بعدها بأهمية رأيهم وبأن مشاركتهم أسهمت فعلاً في التغيير أو كانت لها فائدة ملموسة.


رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ