التاريخ الحقيقي لا يكتبه أحد

الملك فاروق

رانية سليمان سلامة

لم يسبق لي زيارة مصر ولكنني زرت تاريخها على صفحات الكتب منذ أن كنت في الرابعة عشر من عمري، أذكر أنني كنت آنذاك أقرأ الروايات بنهم وأتجاوز سريعاً الصفحات التي تتضمن أحداثاً سياسية لأنها كانت تصيبني بالملل حتى وقعت بين يدي رواية “رد قلبي” ونجح كاتبها الراحل يوسف السباعي في أن يجعلني أقرأ عن ثورة يوليو ولحظات مغادرة الملك فاروق لمنفاه، شدني ذلك المشهد للحد الذي جعلني أضع الرواية جانباً وأستغل وجودي في لندن لمسح أرفف مكتباتها العربية من الكتب التي تتناول تلك الحقبة والغريب أنني كنت أزداد تعاطفاً مع الملك فاروق بالرغم من أن أغلب الكتب التي قرأتها كانت تكيل له الاتهامات! كما يبدو أن قراءتي لذلك الانقلاب السياسي نتج عنها انقلاب في سياسة اختياري للكتب فكانت آخر رواية قرأتها في حياتي هي “رد قلبي” ربما لأنني أدركت أن الواقع هو أصدق وأجمل رواية تستحق القراءة للتمعن لا لمجرد التسلية.

قصة الملك فاروق هي دراما جاهزة للعرض، والنجاح مكفول لها بغض النظر عن الجانب الذي سيتم تناوله منها، أما عندما يتم عرضها اليوم فالمتوقع لها نجاح كاسح، وقد يتساءل القارئ لماذا اليوم؟ والإجابة ببساطة ربما يعرفها من عاصر مرحلة الخطابات الرنانة التي تبعت رحيل الملك فاروق فجيشت مشاعر الجماهير العطشى إلى البطولات والانتصارات لتدفع لهم ثمن حجرة في زنزانة الإحباط مدى الحياة، والإجابة كذلك يعرفها جيل آخر عاش اليوم أحداث مشابهة فسمع القسم القاعدي الذي أزبد وأرعد وتوعد بتدمير أمن أمريكا وتحرير القدس، لتسقط أفغانستان... وانتظر وعد انتحار قوى التحالف على أسوار بغداد، لتسقط العراق... وحاول أن يصدق مغامرة حزب الله فسقطت لبنان في بحر الخلافات وأصبحت مؤهلة للغرق في أعماق الحرب الأهلية من جديد.

ما أشبه اليوم بالبارحة ومن لم يعد يصدق المتلاعبين بمشاعره وأحلامه أصبح مهيأ اليوم لإعادة تقييم تجارب أخرى والحكم عليها بحيادية، فقصة كقصة الملك فاروق لو تم عرضها قبل أحداث سبتمبر وماتبعها من “رصاصات خطابية فاسدة” لم يكن ليتفاعل معها أحد بهذا القدر.

أقول ذلك وأنا أتفق مع كل من يرى أن تنصيب فاروق ملكاً كان خطأ، ولكنه قبل أن يكون خطأ بحق شعبه كانت جريمة بحق مراهقته.

ربما لم يكن سياسياً محنكاً، ولكنه لم يفقد عقله أو ينتحر في مراهقته وهو يتولى الحكم أثناء مباراة بين سفارات الدول العظمى على ملعبه، وأخرى بين الأحزاب، وغيرها في أسرته. أؤمن بأن تنازله عن الحكم كان قرارا صائبا بكل المقاييس غير أنه قرار من الظلم تجييره لغيره، فهو في الواقع قد اتخذ هذا القرار قبل ثورة يوليو غير أن خبرته لم تسعفه بعد حرب 48 على إعلان “تنحيه عن الحكم وعودته إلى صفوف الجماهير” اعتذارا عن تسليم الثقة لغير أهلها وتحملاً لمسؤولية سوء الاختيار والتقدير، لم يفعلها وإن كان عملياً قد انضم بالفعل إلى صفوف الجماهير المحبطة فاقداً الثقة في الجميع وراقصاً على أنغام “هي خاربة خاربة خلونا نعميها”.
 
لم يكن فاروق بالتأكيد يجيد إدارة الأزمات “نفسياً” فأصبح أخيراً جزءا من دائرة الفساد التي ظلت تحيط به، كما أحاطت لاحقاً بالرئيس جمال عبدالناصر ليشهد عصره “كوكتيل” النكسة بنكهة فساد الوزراء. من الظلم عند تقييم التجربتين أن نغفل عامل السن والخبرة، فالملك فاروق كان مؤهلاً للوقوع تحت تأثير الآخرين وإساءة اختيار حاشيته غير أن الضباط الأحرار لم تكن هناك مبررات مماثلة لوقوع نفس الأخطاء الفاروقية في بداية عهدهم.

مسلسل الملك فاروق هذا العام لم ينجح في تصحيح بعض الأفكار المغلوطة عنه فحسب بل تعجبت عند متابعة أصدائه أن الأجيال التي لم تعاصر تلك الحقبة بدأت تبحث بعد المسلسل على الإنترنت عن المزيد من الحقائق المغيبة والمزيد عن الشخصيات التي ظهرت في المسلسل أو ورد ذكرها بمن فيهم هتلر لاكتشاف ماوراء التاريخ الذي كتبه المنتصرون. خروج القصة من أدراج الإنتاج اليوم دليل على أن التاريخ الحقيقي لايكتبه ولاينشره أحد بل هو يفرض نفسه علينا في الوقت المناسب.

والجميل أن المسلسل كذلك حقق وحدة عربية فالإنتاج لقناة لشركة والإخراج والبطولة سورية وكاتبة النص مصرية، ويحسب للمسلسل حتى الآن تركيزه على الأحداث الهامة دون الاعتماد على الإثارة أو على جذب المشاهد بواسطة لقطات الحفلات والسهرات التي بوسع مخرج فاشل وكاتبة سطحية أن يجعلانها محور المسلسل بدلاً من الاكتفاء بالإشارة إليها ليعلم المشاهد أنها كانت موجودة.


أتوقع أن يكون تنازل الملك عن عرشه ورفضه التدخل الإنجليزي لحمايته وقمع الثورة ورحيله عن بلده سيكون أقوى مشاهد المسلسل، فقد كانت مرحلة انتقالية هامة لمصر، وصورة للقوى العظمى أثناء “تبديل المراكز” حيث احتفى السفير الإنجليزي بتنصيبه ملكاً بينما كان في وداعه السفير الأمريكي.

 

رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ