هل يتطلب التقدير والعزاء شهود عيان؟

حمِّلوا النسمة سلام

رانية سليمان سلامة

 «كل ما نسنس من الغربي هبوب حمل النسمة سلام».
كلمات من أجمل ما كتب الأمير خالد الفيصل، تذكرتها وأنا أقرأ توجيهه بمنع لوحات الترحيب وحفلات التكريم وإعلانات الصحف المحلية التي عهدنا استخدامها كوسيلة للتعبير عن التقدير والاحتفاء بالمسؤول، والواقع أن لغة التعبير الاجتماعي عن المشاعر حرفت مطلع القصيدة حتى كادت أن تتحول بين أيدينا "كل مانسنس من الغربي هبوب حمل اللوحة والصفحة إعلان"، ليس للمسؤول فحسب بل تكاد الإعلانات الصاخبة عن المشاعر أن تصبح الوسيلة الأمثل حتى للتعبير عن العزاء والمواساة، ولازلت أعجز عن استيعاب الحكمة في تحويل كلمات يفترض أن تكون متبادلة بين طرفين يواجه كل منهما الآخر إلى إعلانات واحتفاليات وكأن الأمر بحاجة إلى شهود عيان للتصديق على المشاعر.


لقد سن الأمير خالد الفيصل سنة حسنة ومن قبله ومن بعده العديد من المسؤولين وكذلك الأسر الكريمة التي تلتمس التبرع بتكاليف الإعلان عن التعازي والمواساة فترفع عن الآخرين وزر التبذير بلا مبرر ذلك أن علاقات البشر وأدوات تعبيرهم عن مشاعرهم أسمى من المادة، ولأن التقدير لايمكن أن يكون عبارة عن مساحات تباع وتشترى، كما أن صدق المشاعر لايمكن قياسه بحجم الإنفاق، فقد يكون أكثر الناس تقديراً للمسؤول رجل فقير لايملك سوى الدعاء بظهر الغيب، وقد يكون أكثر الناس تأثراً بوفاة أحدهم رجل يدرك أن الفقيد انقطع عمله إلا من ثلاث ليس من بينها ثمن الإعلانات التي ستذهب إلى رصيد وسائل الإعلام لا إلى ميزان حسنات المعلِن ولا المعلَن عنه.


أجزم أن كلنا نعلم ذلك علم اليقين غير أن العادة - قاتلها الله وغفر لمن سنها - تغلب الوعي وتطمس الإدراك في أحيان كثيرة، والمؤسف أن العادات تتطور نحو الأسوأ حتى أصبحت بعض سرادق العزاء تنافس صالات الأفراح والليالي الملاح وتُستدعَى لإحيائها الفنادق لتنصب الطاولات ذات المفارش الحمراء المطرزة بالذبائح والأرز الذي ننعي ارتفاع أسعاره ليل نهار بينما مصيره غالباً بعد أن ينفض الجمع صندوق النفايات (رحمة ونور) على روح الفقيد.


لابد أن الزمن الذي كتب فيه الأمير خالد الفيصل تلك القصيدة كان مختلفاً، أو أن تقدير الشاعر للمشاعر يختلف، فعندها كانت المشاعر تطير بهدوء مع النسمات أو تصل إلى هدفها وتؤدي غرضها بالسلام والكلمات وربما النظرات، وكان الناس يعرفون بمواقفهم التي لاتتطلب بالضرورة الإعلان لكسب شهود إثبات على صدقها ونبلها.


تقدير الآخرين واجب ولكل منا أسلوبه وطريقته في التعبير عن مشاعره، وللكلمة كذلك من يقدرها فيحسن أن يضعها في موضعها، ولكل منا أسلوبه ولغته في إيصال رسالته. مالفت انتباهي في هذا السياق هي الكلمة التي ألقاها أيضاً الأمير خالد الفيصل في (مؤتمر الاقتصاد المعرفي) فلم تتميز بفحواها فحسب بل تجلى تقدير من يلقيها للغة واستمعنا إلى خطاب فصيح بليغ لم يغفل (التشكيل)، وكان الأبرز أن الأمير قد وظف نبرة الصوت ليضع بعض الكلمات بين قوسين للمستمع في القاعة وليس لقارئ النص فحسب فأدركنا –على سبيل المثال لا الحصر- مدى اهتمام خادم الحرمين الشريفين (شخصياً) بدعم مجتمع المعرفة وتطوير آليات الاقتصاد المعرفي، وتنبهنا إلى أن الانتساب للنظام العالمي الجديد يتطلب التأثر به (والتأثير فيه)، وبنبرة الفرح والحماس استشعرنا مدى سعادته بحضور (الشباب) للمؤتمر.


فن توظيف الكلمة واستخدامها كلغة تعبير وتواصل يبدو أنه يتراجع في ثقافتنا لتحل محله الماديات، غير أنه فن قابل للإحياء شريطة أن لانكتفي بالتصفيق والإعجاب بتلك المبادرات، فالمطلوب من كل من صفق وهلل لقرار منع مظاهر الاحتفاء وقبلها المناشدة بقبض تكاليف العزاء وبعدها الإعجاب بلغة التعبير في أقوى صورها وأبلغها أن يكون مساهماً ومشاركاً في نبذ عادة وإحياء أصل وأصول التواصل من أجل صورة أكثر تحضراً وعلاقات أكثر إنسانية لاينقصها سوى تنقيتها من الماديات.

 رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية 
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ