صورة الآخر في تراثنا

فرغتُ مؤخراً من قراءة كتاب "صورة الآخر في التراث العربي"، وهو كتاب ثري المضمون. قامت مؤلفته الدكتورة "ماجدة حمود" بتقسيمه إلى خمسة أبواب تحمل أسماء مفكرين مسلمين أثروا مكتبة التراث العربي. الباب الأول عن صورة الآخر لدى الجاحظ. والثاني عن صورة الآخر لدى ابن قتيبة. والثالث عن صورة الآخر لدى أبي حيّان التوحيدي. والباب الرابع عن صورة الآخر لدى أسامة بن منقذ. والخامس صورة الآخر في ألف ليلة وليلة.

أرادت المؤلفة التأكيد على أن العرب والمسلمين كانوا في عصور الإسلام الأولى لا ينبذون الآخرين. وكان المجتمع الإسلامي يعيش فيه المسلم بجانب المسيحي واليهودي. كما كانت فكرة تقبّل عقيدة الآخر سائدة مقارنة بالزمن الحاضر الذي طغت فيه الفتن والقلاقل. وحتّى إبان الحروب الصليبية كانت هناك مبادئ وقيم أخلاقيّة في تعامل الطرفين مع بعضهم بعضاً. وقد وضّحَتْ بالقرائن أن أغلبية المفكرين والمؤرخين العرب والمسلمين كانوا حياديين في رؤيتهم، ولم ينحازوا لعقيدتهم أو لعرقهم وهم يدونون التاريخ.

لفت انتباهي في باب ابن قتيبة واقعة ذكرها عن الخليفة معاوية. كيف كان لا يستطع النوم بسبب دقَّ النواقيس في كنائس دمشق، مما جعله يلجأ لحيلة تنقذه من أرقه، فأرسل رسولاً من طرفه إلى ملك الروم طالباً منه استفزاز القيصر بأن يقوم بالأذان على أرضه، فينال الرسول عقاباً على تصرفه مما سيُتيح للخليفة الرد بالمثل بإيقاف دق النواقيس في أرض الشام، لكن ملك الروم الذي كان لا يقلُّ دهاء عن معاوية فهم ما يرمي إليه الخليفة معاوية فردَّ الرسول بعد أن كساه وحمّله بالهدايا. لم يجرؤ الخليفة معاوية (المعروف بداهية العرب)، الذي كان حينها يُمثّل أعلى سلطة سياسيّة وروحيّة، على إلغاء طقس من طقوس المسيحيّة التي كانت تُزعجه، مع أنه كان يُقيم في بلاد الشام التي فتحها المسلمون وأخذوها من حكامها الرومان المسيحيين.

يتحدّث ابن قتيبة في موقع آخر عن الخليفة المأمون. هذا الحاكم المثقف الذي كان يُعطي المترجم وزن الكتاب الذي يقوم بترجمته ذهباً، فيحكي كيف كان المأمون يؤمن بأهمية الحوار بين الحاكم والمحكوم، وقيامه بمجادلة رجل قرر العودة إلى دينه الأصلي (النصرانية) بسؤال الرجل: "خبّرنا عن الشيء الذي أوحشك من ديننا بعد أنسك به..".لم يستشيط غضباً ويأمر بإقامة الحد عليه، بل يقف القارئ مندهشاً ومعجبا من اللغة الراقية التي خاطب بها الرجل رغم تباين المقامات!

لقد شعرتُ بالمرارة وأنا أقارن الوضع الذي كنّا عليه في الماضي، وما وصلنا إليه اليوم من تشرذم وتفرّق وعنصرية مقيتة! والحادثة الشنيعة التي وقعت في الأمس القريب على كنيسة "سيدة النجاة" في بغداد عشية عيد القديسين والتي أدّت إلى وقوع أعداد من القتلى والجرحى، لا تمتُّ بصلة لأي دين سماوي ولا لعقيدة! وقيام إعلان "القاعدة" في العراق بأن المسيحيين في كافة أنحاء العالم العربي أصبحوا أهدافاً مشروعة للمجاهدين إلى أن يتم الإفراج عن مسيحيتين مصريتين اعتنقتا الإسلام وما زالتا مأسورتين في أحد الأديرة في مصر، أمر يُثير الاستهجان ولا يُبرر العنف وإزهاق أرواح الأبرياء!

كم أتمنى أن يتم تعميم مثل هذه الكتب التنويريّة التي تُظهر كيف كان أسلافنا معتدلين في تصرفاتهم، على مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا بدلاً من حشو عقول النشء بفتاوى متعصّبة، حتّى تشب لدينا مستقبلًا أجيال واعية قادرة على التصدي للفكر المتطرف، الذي سيُدّمر مجتمعاتنا ويحولها إلى مبان خراب تنعق على أسقفها طيور البوم!