كان الطب معدوماً فأحياه جالينوس، وكان متفرقا فجمعه الرازى

الرازى، أبو الطب العربي ونابغة الكيمياء

حجة الطب فى أوربا حتى القرن السابع عشر الميلادي، عده معاصروه طبيب المسلمين، ويعتبر فى نظر المؤرخين أعظم أطباء القرون الوسطى، كما اعتبروه أبو الطب العربى.

هو أبو بكر الرازى، ولد فى "الري" من أعمال فارس سنة 864م وتوفى فى بغداد سنة 932م. اهتم منذ صغره بالعلوم الأدبية وقرض الشعر وكان مولعا بالموسيقى. بعد أن صار شابا عكف على دراسة كتب الطب، حتى تمكن منها وبدأ يمارس الطب ونبغ فيه وذاع صيته.

يقال أن الخليفة العباسى المعتضد، حين استشاره بخصوص المكان الذى يجب أن يبنى فيه بيمارستان (مستشفى) كانت للرازى طريقة مبتكرة، إذ وضع قطعا من اللحم فى أماكن متفرقة من المدينة بغداد، وراح يلاحظ تعفن قطع اللحم تباعا، وفى المكان الذى تعفنت فيه آخر قطعة من اللحم اختار أن يبنى البيمارستان، والذى اختير كأول مدير له من بين مائة طبيب تقدموا للعرض على الخليفة المعتضد.

كان الرازى شديد الاهتمام بالطب والترحال في طلبه، وعن مثابرته على تحصيل المعرفة، يقول الرازى عن نفسه فى مقدمة أحدى كتبه:

"وبلغ من صبرى واجتهادى أنى كتبت فى عام واحد أكثر من عشرين ألف ورقة، وبقيت فى عمل الجامع الكبير (كتاب فى الطب) خمس عشرة سنة أعمل ليلاً ونهاراً حتى ضعف بصرى، وحدث لى فسخ فى عضل يدى يمنعانى فى وقتى هذا من القراءة والكتابة، وأنا على حالى لا أدعهما بقدر جهدى فأستعين دائما بمن يقرأ ويكتب لي".

وكما قرأ الرازى فى الطب، قرأ أيضا فى الفلسفة، فقرأ جميع الكتب اليونانية والهندية والفارسية، وعندما زاول الطب انفرد بطريقته التى ميزته عن سائر الأطباء  فتجاوزت شهرته البلاد وكان يأتيه المرضى من الهند والسند والصين وبلاد الأفرنج يلتمسون عنده الشفاء.

والرازى تجلت شهرته فى الطب من كونه كان مبتكرا لأشياء لم يسبقه أحد إليها، من ذلك مثلا أنه استخدم الموسيقى لونا من ألوان العلاج. كذلك كان أول من عرف تأثير الضوء فى حدقة العين، وقد استغل هذا الكشف الذى لم يكن معروفا فى مداواة مرض الحصبة.

كان الرازى أيضا صاحب الفضل فى طب الأطفال إذ جعله فرعا فى الطب قائما بذاته، وكان يسلك فى علاج المرضى مسلكا علميا يشهد له بالعبقرية فلم يكن يسمح لمرضاه بتناول دواء إلا إذا قام بتجربته على الحيوان.

ومن بين الأسباب التى ساعدت على تفوقه فى الطب، أنه كان نابغا فى الكيمياء، فعاونه ذلك على إعداد الأدوية بنفسه، فكان يعمل طبيبا وصيدليا فى آن واحد.

والرازى كان أول من استخدم مركبات الرصاص فى صنع المراهم، وأول من توصل إلى استخدام الخيوط المصنوعة من أمعاء الحيوانات فى خياطة الجروح المفتوحة فى العمليات الجراحية. وكان الرازى أول من عالج الحمى بالماء البارد سابقا بذلك أطباء العصر الحديث . وهو أيضا أول من تنبهوا إلى العدوى الوراثية. وأول من وصفوا بدقة مرض الجدرى وميزه عن مرض الحصبة، وللرازى فضلا عن ذلك ابتكارات طبية تعد من أسس المعالجة الحديثة فى الأمراض التناسلية والولادة  وجراحة العيون، كما نبه الرازى إلى أثر العامل النفسى فى صحة المريض حيث قال جملته المشهورة : "إن مزاج الجسم تابع لأخلاق النفس".

كما أنه كان يرى أنه من الواجب على طبيب الجسم أن يكون أولا طبيبا للروح وكان ذلك مما حمله على وضع قانون للطب الروحانى الذى هو ضرب من التدبير النفسى .

وحين نستعرض التراث الطبى والفكرى الذى خلفه لنا الرازى فى مؤلفاته الكثيرة التى ذكر منها ابن النديم فى " الفهرست " ما يقرب من مائتى كتاب ورسالة . سنكتفى بالكلام الآن عن بعض منها:

ـ كتاب المنصورى: يصف فيه الرازى وصفا تشريحيا دقيقا لأعضاء الحسم كلها،  كما يحتوى الكتاب على عشرة مقالات فى جميع فروع الطب، وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية كما طبع مرات كثيرة فى أوربا، حيث كان مع "القانون" لابن سينا من أعظم المراجع التى يعتمد عليها فى تدريس الطب بالمدارس الطبية الأوربية حتى القرن السابع عشر.

رسالة فى الجدرى و الحصبة - كتاب منافع الأغذية - كتاب سر الأسرار، ويأتى على رأس كل تلك الكتب و الرسائل أهم كتاب للرازى وهو كتاب "الحاوى" فى الطب الذى يعتبر موسوعة طبية كما وصفه كثير من المؤرخين. وقد سمى الرازى كتابه "الحاوى" لأنه يحتوى على جميع كتب وأقاويل القدماء من أهل صناعة الطب.

وقد فاقت شهرة هذا الكتاب غيره من الكتب الطبية ولقيمته العالية العظيمة، اختصره كثير من الأطباء منهم على بن داوود حوالى سنة 1130م، كما ترجم إلى اللاتينية سنة 1486م، ثم طبع بعدها فى إيطاليا وكان أضخم كتاب يطبع بها بعد اختراع المطبعة مباشرة، ثم أعيد طبعه مرارا فى القرن السادس عشر الميلادي.

وليس هناك دليل على شهرة كتاب الحاوى أكثر من قصة هذا الرجل الثرى الذى استدانت منه جامعة باريس فى القرن الرابع عشر مبلغا كبيرا من المال وذلك لبناء بعض الأبنية التى تهدمت، ولم يجد الرجل ضمانا تملكه الجامعة للمال الذى دفعه أكثر من كتاب الحاوى الذى تمتلكه الجامعة فى مكتبتها الضخمة.

وهو دليلا على إجلال الأوربيين فى العصور الوسطى لهذا الكتاب والذى كانوا يعدونه أعظم مرجع فى الطب لهم فى ذلك الوقت.