عندما تكون مضطراً للإعجاب بــ «عزازيل»

مراوغات كاتب وغموض وقائع

خالد الحويطى
صور وفيديو

قليلة هي الأعمال التي تحتل مكانة متميزة تستحقها في الأدب باللغة المكتوبة بها، بل إنها أصبحت نادرة خاصة في ظل المدارس الأدبية التي تفترض في المتلقي أن يكون أستاذاً في الفلسفة وناقداً أدبياً أفنى عمره بين كتب النقد، متناسية أن كل الإبداعات سواء في الآداب أو الفنون تقدم للناس وليس كل الناس فلاسفة ونقاداً.
ألزمني يوسف زيدان بتلك المقدمة عندما أتحدث عن روايته الرائعة «عزازيل» التي تستحق بلا شك تلك المكانة المتميزة التي سبق وأشرت إليها، وألزمت نفسي باعتذار لكاتبها بسبب شيء لا يعرفه، عندما وقعت في يدي الرواية أغراني اسمها وكذلك الأجواء الفلسفية التي تدور خلالها الأحداث بالتوجس منها خيفة، فأنا لا أحب نوعية الروايات التي تحتاج مترجما وكتبا لشرحها وظللت أنظر إليها كثيراً حتى واتتني الشجاعة لقراءتها، وحسناً فعلت، فكأن «نداهة» يوسف إدريس أغرتني بالسعي وراءها، أخذتني رواية «عزازيل» حتى صرت كأني ألتهمها فتنبهت للفخ الذي نصبه كاتبها للبسطاء أمثالي الذين يلتهمون ما كتب التهاماً دون تذوق ما به من متعة فاستمهلت نفسي وقرأتها بروية وللمرة الثانية حسناً فعلت، فأسلوب زيدان لا يستحق أن تمر عليه مرور الكرام بل لابد من التمعن فيه، والتحليق به ومعه لآفاق من المتع في أسلوبه الأدبي ودمجه للفلسفة والتأريخ في صياغة أدبية لا أقول متوازنة بل أقول إنها كانت بميزان الذهب فلا ملل بل تشويق دائم ورغبة من القارئ في استكشاف أسرار أظهر الكاتب منها طرفاً ليربط به القارئ فلا يملك فكاكاً وكان ذلك أحد فخاخ يوسف زيدان وما أكثرها، وما أحلاها.

"عزازيل" شجاعة وحكمة، أم استفزاز لقارئ


اختيار عنوان لأي شيء عملية محفوفة بالمخاطر وتحتاج حرفية عالية ليأتي العنوان معبراً عن مضمون ما يجيء تحته، وفى الروايات تكون تلك العملية أصعب لأسباب عدة منها تشعب المضمون واحتمال احتوائه على أكثر من اتجاه، كاتبنا الكبير اختار «عزازيل» اسما وعنوانا لروايته، اختياره هذا يمثل شجاعة كبيرة فمن الوارد جداً أن ينفر الاسم البعض، فينعكس ذلك على الرواية بالتالي، كما أنه من الوارد أن يستفز البعض على صورتين إحداهما تدفع المُستفز لقراءة الرواية لمعرفة ما علاقة «عزازيل» بها، والأخرى تدفعه للهجوم على الكاتب حتى دون أن يقرأ متصورا أنه يحتفي بــ «عزازيل»، و«عزازيل» لمن لا يعلم هو أحد أسماء الشيطان ــ لعنه الله ــ وهو هنا أحد أبطال الرواية بل لعله المحرك الرئيسي للأحداث، فهو الذي اقترح على بطلنا الراهب المصري "هيبا" أن يسجل كل ما مر به من يوم خروجه من بلدته "أخميم" في صعيد مصر حتى اللحظة الآنية، السؤال الذي يفرض نفسه: هل المحرك للأحداث هو عزازيل نفسه؟ بالطبع لا ففيما يبدو أن الإنسان في كل زمان وعلى كل هيئة ارتاح لأن يعلق كل أمر يبدو له إثماً في رقبة عزازيل، ولكن "هيبا" لم يرتكب إثماً، بل فعل ما يجب عليه فعله، وأيضاً عزازيل لا يهدى إلى خير فالنتيجة الحتمية أن عزازيل هنا ليس شيطاناً بل هو عقل الراهب الباطن فتجده في أحد المواضع يقول للراهب: «عزازيل الذي يأتيك منك وفيك»، بل إنه عندما يسأله: «عزازيل، ألا تنام؟» يرد عليه: «كيف أنام وأنت مستيقظ».
أما سعى عزازيل الدائم لأن يركز الراهب "هيبا" جهوده في تدوين ما مر به دون توانٍ أو خروج عن هذه المهمة فواضح في أكثر من موضع لا تخطئه عين القارئ، بل إنه جعل من نفسه رقيبا يحاسب الراهب إذا أراد إخفاء شيء ذي بال يقول له: «أكتب يا هيبا، أكتب باسم الحق المختزن فيك، اكتب ولا تجبن، فالذي رأيته بعينك لن يكتبه أحد غيرك ولن يعرفه أحد لو أخفيته» يقول هيبا: «حكيته لنسطور في أورشليم، قبل سنين»، يجيبه عزازيل الرقيب على ما يكتب: «يا هيبا، حكيت يومها بعضا منه؛ فاكتبه اليوم كاملاً، أكتبه الآن كله».
هل هذا شيطان؟، لا يمكن أن يكون شيطاناً ويحرض آدميا على فعل شيء نافع، بل ويرده عندما يجدف ويقول كلاما تشتم منه رائحة الكفر.
عزازيل الأصلي بريء من تحريض هيبا على الكتابة ولكن وجوده كان ضروريا كعادة بنى آدم في البحث عن أحدهم لتعليق كل شيء في رقبته، يقول: «يا هيبا كن عاقلاً، أنا مبرر الشرور.. هي التي تسببني».
زيدان وضع عناوين لثلاثين فصلاً هي فصول الرواية لم تحمل في معظمها دلالات خاصة، وكان من الممكن الاستغناء عنها لكنها لم تمثل عبئا على إبداع الرواية.

مرواغات كاتب وغموض وقائع

بدأ يوسف زيدان مراوغاته مع القارئ مبكراً، عندما وضع لروايته مقدمة سماها «مقدمة المترجم» فكأن ما ينشره هو مجرد ترجمة فحسب لنصوص قديمة عثر عليها قرب مدينة حلب السورية بل إنه في أول سطوره يؤكد أنه «المترجم» أوصى بنشرها بعد وفاته، وإمعاناً في الغموض اخترع الكاتب شيئاً غير مسبوق في الكتابة الروائية وهو الهامش أسفل الصفحة الذي يوحى أن المكتوب مجرد ترجمة، وفى بعض الأحيان توجد تعليقات لراهب عربي وجد الرقوق ثم أعادها مكانها مرة أخرى، الهامش استفاد منه الكاتب في شرح ما أغلق على القارئ فهمه من فلسفات وكلمات قديمة وفسر من خلاله وقائع تاريخية، والحقيقة أنه فعل ذلك بمهارة لا تشعرك وأنت تقرأ بأي ملل أو خروج عن نسق الرواية.

زيدان يعزف على وتر التشويق فخلق لحن المتعة

تبدأ أحداث الرواية بمناجاة الراهب "هيبا" لربه وطلبه مساعدته في التغلب على عزازيل الذي يلح عليه في تدوين ما مر به منذ خروجه من أخميم وهو في انتظار إشارة ليمتنع عن الاستجابة لذلك المطلب الملح من عزازيل، ولعل الإشارة لم تجئ فملأ "هيبا" ثلاثين رقاً تحمل قصة حياة مضطربة تلحظها من أولى كلماته التي تعبر عن حيرة شديدة وتخبط واضح.
ويبدأ يوسف زيدان من أولى صفحات روايته ممارسة مراوغاته مع القارئ، والحق أقول كانت مراوغات ممتعة لعب التشويق فيها دور البطولة وكان يستخدمه بحيث لا تشعر أنه أفرط في استخدامه مع أنه لم يكن قليلاً طوال أحداث الرواية، فمثلا يتحدث في أول الرواية عن «مرتا» التي لا يعرف عنها القارئ شيئاً وطوال أحداث الرواية ينتظر ظهورها الذي تأخر حتى الربع الأخير من الرواية، ولكنك عزيزي القارئ طوال الثلاثة الأرباع الأولى تصادف حديثا تشويقياً عن «مرتا» يجعلك متلهفا ومنتظرا ظهورها، وكذلك عن أحداث أخرى كان حدوثها أقرب من ظهور «مرتا».

استخدم زيدان نفس طريقته التشويقية في التمهيد لها مثل أحداث الإسكندرية، واليوم المشئوم الذي عاشه هناك وكان سببا في هروبه منها، وكذلك ما حدث مع الأسقف "نسطور" في المجمع المقدس، فحتى في الوقائع التاريخية التي يعرفها البعض مهد لها الكاتب بطريقته التشويقية الماتعة.
التشويق عموما حتى وإن كان متوازنا إلا أنه قد يسبب استعجالا يدفع القارئ لمحاولة التعجل في القراءة للوصول لنشوة المعرفة التي يصل إليها مع وصوله للحدث الذي ينتظره، الكاتب هنا عالج هذه الإشكالية بحرفية عالية اعتمدت على جناحين بهما حلق مع القارئ لآفاق من المتع أولهما: أنه اعتمد مبدأ التشويق في كثير من أحداث الرواية فصرت كلما مضيت في القراءة تتحقق لك متعة تلو أخرى فأحداثها كثيرة تمتد سنين ومعظمها راوغ الكاتب قارئه كثيراً فشوقه لها وها هي تأتيه على مهل.
الجناح الثاني الذي استخدمه الكاتب: هو لغة أدبية راقية ممتعة ساحرة خلابة وأرجو المعذرة في هذه الأوصاف فهي تستحقها، فكل صفحة تقرؤها في هذه الرواية تحب أن تحفظها من سهولة الألفاظ ــ رغم ما تعبر عنه من فلسفة في كثير من الأحيان ــ وإمتاع الصور، هناك كثير من الأجزاء في هذا العمل الإبداعي الشيق تستحق أن تدرس في المدارس كنصوص أدبية راقية، لو حاولت أن أعرض لبعض منها لاحتجت أن أنقل الرواية بنصها دون تصرف، "هيبا" البطل الذي يكتب هذه الرقوق هو في الأصل شاعر فلا غرابة في أن ما يكتبه كله يبدو وكأنه شعر، ولكني اخترت جملة واحدة تظهر فيها صور زيدان الأدبية يقول: «ها هو حارس الدير نائم في أمان حارس الكون الذي لا ينام».


أسلوب زيدان الأدبي رائع ولكن طريقته في السرد أكثر من رائعة، فقد اعتمد أسلوب الحكي في روايته وكان ذلك بطبيعة الحال ضروريا، فالبطل يكتب أحداثا مر بها عبر عدة سنوات تمتد لعشرين سنة، والحوار قليل لأنه من غير الوارد أن يتذكر حواراً دار بحذافيره ولكنه عندما يفعل فلا غرابة في ذلك فالناس في ذلك الوقت كانوا يفعلونه فذاكرتهم كانت حديدية ثم إن له معينا يذكره إذا نسى «عزازيل».
انتقال زيدان من الحوار للحكي والعكس انتقال رائع حتى لو حدث بطريقة مفاجئة، فالكلمات في الجمل الحوارية معبرة حتى كأنك تسمع أصحابها ينطقون بها.
وكنموذج لذلك اختار من ما جاء في الرواية تجسيد الحدث الذي أخبر هيبا أوكتافيا أنه راهب مسيحي: «سادت لحظة صمت طويلة ممزوجة بالذهول، وبعد إطراقة مقلقة، نظرت أوكتافيا نحوى، وقد اكتسى وجهها بحمرة الحنق، واحتقنت عيناها بحزن كظيم،، فجأة انتفضت واقفة وقد صارت لها هيئة كتلك التي تكسو التماثيل الضخمة القديمة وبكل ما فيها من عنفوان وثنى، ومن مرارة موروثة، مدت ذراعها اليمنى نحو الباب، وزعقت فيّ بصوت هائل مثل هزيم رعد سكندري، أو صرير ريح وثنية عاتية:
- أخرج من بيتي يا حقير، أخرج يا سافل».
وكنموذج آخر لتداخل السرد مع الحوار كان بين هيبا ونسطور سأله: «... بمناسبة الإسكندرية، هل كنت حاضراً بها يا هيبا، يوم مقتل الفيلسوفة هيباتيا؟
وقع سؤاله في جوفي كسائل حارق بدد نسمات الغروب التي كان هبوبها اللطيف قد ابتدأ، وطوحني سؤاله المفاجئ نحو ماضٍ كنت أظنه قد انطوى.. يومها أخذني الصمت.......
- هون عليك يا هيبا....»
 

الوصف السينمائي وخرافة التجسيد

زهرة أخرى في دوحة زيدان نقترب منها نشم رحيقها ونستمتع بأدائه من خلال وصفه الرائع الذي يجعلك كأنك ترى ما يصفه سواء كان يصف أشخاصا أو أماكن أو في وصفه حالات ومواقف يصورها بطريقة سينمائية ليصبح القارئ مطالباً بتخصيص جزء من تركيزه لاستيعاب صورة رسمها الكاتب بمهارة.
يبدأ الوصف مع بداية تدوين "هيبا" في صومعته التي اعتزل فيها ويصف "هيبا" الصومعة التي يحيا فيها وصفا دقيقا بطولها وعرضها وبنائها وأثاثها وما تحتويه ثم ينتقل من صومعته إلى خارجها وغرف الرهبان والدير الذي يحتوى كل هذه الغرف، ينتقل بين الأماكن التي يصفها في مشاهد تبدو كأنها شريط سينما يمر أمام عيني القارئ وليس مجرد كلمات مكتوبة.
سلاسة وصف الكاتب لا توصف إنما تشاهدها على صفحات روايته، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أن الرواية تصور رحلة راهب خرج من عمق صعيد مصر إلى شمالها حيث حاضرة الدنيا الإسكندرية، ثم يخرج منها في اتجاه الشرق إلى بيت المقدس ثم شمالا حتى يصل في بعض أسفاره إلى أنطاكية، الراهب لم يترك شيئاً مما مر به لم يصفه حتى أنه أعطانا صورة سينمائية رائعة لمدينة الإسكندرية وشوارعها وبحرها وشاطئها وبيوت أثريائها، فأبدع في وصف بيت التاجر الصقلي الذي عاش به ثلاثة أيام، وعلى الرغم من أن هذه الرواية تجرى أحداثها في فترة زمنية غير مطروقة في الأدب العربي، ولا حتى في الأعمال الدرامية، إلا أن زيدان استطاع بحساسية شديدة تركيب صورة تلو أخرى من خلال وصفه، لتشاهد عزيزي القارئ ما يصفه، تشاهده بعين خيالك دون جهد منك فقد كفاك الكاتب مشقة ذلك.
ثم إذا انتقلنا لوصف الأشخاص فلابد أن نؤكد على شيء وهو أن هذا النص الذي بين أيدينا عبارة عن مذكرات راهب عاش في زمن قديم، أي أن ما يصفه هو ما يراه بعينه هو، وليس لازما أن يكون هو الحقيقة، بل يمكننا القول أنه يصف ما يراه بعيني قلبه.
فمثلاً نحن لا نعرف وصفا دقيقا للراهب ولكننا رسمنا له صورة من بعض المعلومات التي يوردها عن نفسه، وذلك طبيعي ألا يصف أحد نفسه في مذكراته، ولكنه عندما التقى "أوكتافيا" لم يصف لها ملامح بعينها ولكنه أمعن في وصف جسدها فقد كان في تلك الأثناء مندفعا وراء شهواته، مستسلما لغوايتها فوصف ما أهتم به حينها، وعندما وصف" هيباتيا"الأستاذة التي تركت في نفسه أثراً عظيماً ــ حتى إنه اتخذ لنفسه اسما مشتقا من اسمها ــ وصفها على هيئة الملائكة رائعة الجمال والجلال شامخة متواضعة فيها صفات رآها هو بعيني قلبه كما قلت، كذلك عندما وصف الأسقف "كيرلس" ورهبان الإسكندرية غلاظ القلب وصفهم كما رآهم وعندما وصف الأسقف "نسطور" وصفه بمحبة شديدة، لكن هناك شخصين وصفهما الراهب يبدو من خلالهما مذهب الكاتب في الوصف أولهما الراهب الفريسي الذي يصفه زيدان بقوله: «... أكثر الرهبان شبها برئيس الدير، إلا أنه أصغر منه بعشرين عاماً، وأكثر بدانة وأكثف لحية، هو قصير على نحو لافت وبطنه كبير، حتى يكاد يبدو في مشيته المتعجلة دوما، كأنه كرة تتدحرج، قدماه ويداه صغيرتان كما لو كانتا لصبى صغير..... عيناه واسعتان وفيهما ذكاء وشغف وفى قلبه طيبة تغيب عن عين الغرباء ويعرفها الذي يقترب منه».
يبدو من ذلك الوصف أنه يصف هيئة أكثر من وصفه إنساناً، ويبدو من الوصف المشاعر التي يكنها له غير أنك لا تستطيع أن تمنع نفسك مع هذا الوصف من تخيل صورة هذا الراهب كما وصفها الكاتب.
الشخص الآخر هو "مرتا" ووصفه لها لا يوصف ولا تستطيع أن تحدده وأنت تقرأ، فهو يصف حالته هو عندما يراها أكثر مما يصفها هي، عندما يصف عينيها فكأنه سقط في بئر سحيق وغاص في بحر بلا شطآن، أبدع الكاتب في وصف "مرتا" وفى وصف المشاهد التي تحتلها من الرواية بحيث أصبح ظهورها يمثل واحة خضراء وجدها مسافر عبر الصحراء أجهده العطش والسفر، وهذا ما كانت تمثله "مرتا" لـ"هيبا"،وصفها بقلبه الذي أخذته معها يوم رحيلها فقرر تدوين ما مر به واستعان بعزازيل ليعلق الأمر في رقبته ثم انطلق مودعا أوهامه القديمة ليرحل حراً مع شروق شمس يوم جديد.
وصف الأحداث لم يكن أقل جمالا من وصفه الأماكن ولا الأشخاص، فمثلا وصف الكاتب ما حدث بين الراهب و "أوكتافيا" في ثلاثة أيام، ثم ما حدث مع "مرتا" من علاقات حميمية، زيدان  صاغ حتى العلاقات الحميمة بمهارة فلم يغوص في مشاهد جنسية مقززة.
وما يستحق أن يقرأ هو ما لعب الكاتب لعبة التشويق في التمهيد له من أحداث مأساة الإسكندرية التي سببت رحيل الراهب عن تلك المدينة خاصة عندما قتلوا "هيباتيا" وبالسكين الصدئة.

التاريخ هو البطل في حياتنا لأنه يمثل ذاكرة الإنسانية، ونستخلص منه دروساً تعيننا في حياتنا الحاضرة، فمن لا يعرف ما حدث قبل أن يولد فقد حكم على نفسه أن يعيش طفلاً طوال حياته كما يقول الكاتب الكبير حسنين هيكل، والرواية تعتمد على التاريخ اعتمادا كبيرا فهي تطرق مرحلة من مراحل التاريخ غير مطروقة في الأدب العربي وتمثل هذه المرحلة بداية الصراع المذهبي بين الطوائف المسيحية بما تحويه هذه المرحلة من فظائع وخلافات يبدو كثير منها غير مفهوم بالنسبة لنا لاختلاط آراء كل فريق بفلسفات مستمدة من الديانات الوثنية، هذه الفلسفات لعب بها زيدان بمهارة وطرح أسئلة عديدة اخترع لها أشخاصا آخرين يسألونها أو طرحها على لسان عزازيل، مثل الرجل الذي سأل هيبا في طريقه إلى أسيوط: «كيف جاءت العذراء إلى هنا هاربة بوليدها الذي تزعمون أنه كان يقتل أطفال اليهود؟ ولماذا عادت به إلى البلاد القاحلة الصفراء بعدما جاءت إلى وادي مصر الأخضر؟».
وعزازيل الذي علق عليه زيدان كثيرا مما لا يستطيع تحمله غيره مثل قوله: التجسد خرافة.
ومن المعروف أن التجسد درة العقيدة النصرانية، وكذلك حوار عزازيل مع هيبا عن حقيقة قتل اليهود للمسيح حيث يقول له:
«- وكيف مات أصلا.. كيف لك أن تصدق يا هيبا أن الحاكم الروماني بيلاطس وهو الإنسان قادر على قتل المسيح الذي هو الإله.
- كان ذلك هو السبيل الوحيد لخلاص الإنسان.
- بل كان السبيل الوحيد لتخليص المسيحية من اليهودية».
استطاع زيدان أن يبحر بمهارة بين أمواج الفلسفة والآراء التي تستغلق على فهم الكثير بمهارة لا تشعرك بطلسمة هذا الكلام، مثل الرأي في أم الإله أو الحبلى بالإله وغير ذلك، أبحر خلالها مستعرضا تاريخا وفلسفات يكتشف القارئ بعد قراءته الرواية أنه كان يحصل علوما عدة دون أن يدرى.

 

حقيقة عزازيل


«لم أشأ أن أسمع من عزازيل المزيد لكنه ظل يهمس في أذني أثناء نومي، برأي عجيب.. كان يقول أشياء كثيرة، منها أن اليهود أهانوا فكرة الألوهية التي اجتهدت الإنسانية طويلا كي تصوغها، حضارات الإنسان القديمة علت بالإله، واليهود جعلوه في توراتهم منهمكا مع البشر، فكان لابد من إعادته إلى السماء ثانية.. وهكذا جاءت المسيحية لتؤكد وجود الله مع الإنسان فى الأرض، في شخص المسيح، ثم ترفعه مستعينة بالأساطير المصرية القديمة، إلى موضعه السماوي الأول، بعدما ضحى (الإله) بنفسه، على ما يزعمون، من أجل خلاص البشر من خطية أبيهم آدم!، فهل انمحت الخطايا بعد المسيح، وهل صعب على الله أن يعفو عن البشر بأمر منه، من غير معاناة موهومة، وصلب مهين، وموت غير مجيد، وقيامة مجيدة».
صاغ الكاتب هذا الكلام على لسان عزازيل وهو على كل حال ملعون في كل الأديان وكلامه غير ملزم، لعلك عرفت عزيزي القارئ من الذي استحضر عزازيل، وهل كان موجودا داخل هيبا أم داخل يوسف زيدان؟ وهل هو موجود ليحمل أوزار بنى آدم التي لا يستطيعون حملها؟! على كل حال لابد أن نسجل إعجابنا واستمتاعنا بــ «عزازيل» يوسف زيدان.

استمتعت وأنا أقرأ هذه الرواية كذلك استمتعت وأنا أصوغ انطباعاتي عنها ولكن ثار داخلي تساؤل: متى يفوز أديب عربي آخر بجائزة نوبل في الآداب؟ وإذا لم يفز أديب مثل يوسف زيدان الذي خط بيده هذا الإبداع فمن يستحق الفوز.؟؟