العلامة الفارقة بين موسيقى اليوم والأمس

الموسيقار العالمي عمر خيرت: نشأتي الدينية أضفت بعداً روحانياً على أعمالي

أحمد الجمال - القاهرة
صور وفيديو

في بهو الاستقبال انتظرت مؤلف موسيقى أشهر الأفلام المصرية مثل "البحث عن توت عنخ آمون"، "سكوت ح نصور"، "السفارة في العمارة"، "الإمبراطور"، "المسافر"، وغيرها من المؤلفات الموسيقية التي حصدت الجوائز في محافل عِدة، دقائق قليلة مرت وأنا أتابع بعيني هذا الذوق الفريد في اختيار قطع الأثاث والديكور ذي الملامح الشرقية الذي يعكس الذوق والحس الفني لصاحب المكان  قبل أن يدخل الموسيقار العالمي عمر خيرت ويصافحني بابتسامة هادئة وترحاب شديد أحسست معه كأن صداقة قوية جمعت بيننا وأنها ليست المرة الأولى التي نلتقي فيها.

لحظات وانطلق حواره مع "عربيات"، تسأله فيجيب بتلقائية وثقة وصراحة يغلفها تواضع شديد، كانت لغته القريبة إلى الفصحى الرصينة أكثر دليل على أنه مبدع من زمن الفن الجميل، يتكلم فيعود إلى سنوات الطفولة والصبا ليسير الحوار في تدفق جميل متنقلاً بين مراحل مختلفة من مشواره الفني وهو جالس أمامي في شموخ لا يوصف به سوى العظماء، وبين الحين والآخر تصاحب كلماته حركات إيقاعية خفيفة من يده على طريقة مايسترو في حفل أوبرالي ضخم فتشعر أن أصابعه تعزف في الهواء مقطوعة رومانسية جميلة.

نبدأ من عائلة خيرت التي تضم مبدعين في مجالات عدة، هل أنت مبدع بالوراثة؟
بالفعل يبدو أنها مسألة جينية لها علاقة بالجينات الوراثية، فقد نشأت في عائلة تهتم بالفنون والثقافة بدرجة كبيرة، وتميز الكثيرون فيها بالنبوغ، جدي محمود خيرت كان محامياً وكان مهتماً جداً بالفنون وشاعراً وأديباً ومترجماً ورساماً وموسيقياً، وقد ألف رواية "الفتاة الريفية" عام 1905م (أُعيد نشرها عام 2009 ضمن إصدارات المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة)، وإلى جانب هذا له كان سكرتيراً لمجلس الشيوخ أيام سعد زغلول، وكان بيته في "شارع خيرت" الذي سُمي باسم جده هو، ولايزال هذا الشارع موجوداً ويحمل هذا الاسم حتى الآن. وقد أنجب جدي أربعة أبناء هم أبوبكر وعمر وعثمان وعليّ، تيمناً بأسماء الخلفاء الراشدين (رضوان الله عليهم أجمعين)،  وكان لدى جدي صالون دائم للفنون يجمع رموز الفن والثقافة في ذلك العصر أمثال فنان الشعب سيد درويش والمثَّال محمود مختار والأديب المنفلوطي، ومما يُذكر في هذا الشأن ولا يعرفه الكثيرون أن أول لقاء بين محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وهما في مرحلة الشباب كان في منزل جدي هذا وبحضور سيد درويش وغنوا معاً أوبريت "العشرة الطيبة".

هل حرص جدك على غرس بذور الفن في أبنائه (أعمامك)؟
بالتأكيد، أراد أن يغرس فيهم حب الفن منذ صغر سنهم، فكان يعلمهم الموسيقى في المنزل وكان هذا أمراً غريباً في ذلك الوقت لأنهم كانوا لا يزالون أطفالاً صغاراً، وبعد فترة ظهر نبوغ أبوبكر في الموسيقى وكانت أولى مؤلفاته في عمر 10 سنوات مقطوعة بيانو استخدم فيها العلوم الموسيقية حتى أن صحيفة "المصري" – التي كانت تصدر وقتذاك – نشرت عنه مقالاً موسعاً تحت عنوان"مولد موتسارت عربي جديد"، كما أنه كان نابغة أيضاً في الهندسة المعمارية وكان الأول بمرتبة الشرف الأولى في جامعة الملك فاروق الأول (جامعة القاهرة حالياً) وأرسل في بعثة دراسية إلى فرنسا وهناك حصل أيضاً على الترتيب الأول، وأثناء وجوده في فرنسا كان يدرس الموسيقى أيضاً إلى أن أصبح مؤلفاً موسيقياً عظيماً وهو رائد الموسيقى السيمفونية في مصر، وكذلك نبغ عمي الدكتور عمر خيرت في مجال التصوير الفوتوغرافي وكان من ضمن العشرة فنانين الدائمين في "صالون لندن" ونال جوائز كثيرة في هذا السياق، علاوة على نبوغه في مجال الطب حيث اكتشف بعض الميكروبات من خلال أبحاث علمية مسجلة باسمه في التاريخ الطبي العالمي وكان يعمل في لندن مع فليمنج وهو العالم الشهير الذي اخترع البنسلين.

ماذا عن  والدك؟
والدي كان مهندساً معمارياً متخصصاً في العِمارة الإسلامية وبناء المساجد، وكان أيضاً عازفاً للبيانو وظل مواظباً على العزف عليه حتى وفاته.

وهل قام والدك بالدور الذي بدأه الجد؟
أتذكر وأنا في الخامسة من عمري كان والدي يأخذني مع إخوتي إلى دار الأوبرا (يقصد الأوبرا القديمة التي احترقت في 28 أكتوبر 1971)، وهناك كنت أري عمي وهو يعزف على المسرح، كنت أستمتع تماماً بصوت الموسيقى.

تأليف الموسيقى أصعب من تلحين الكلمات، وصدق موسيقاي وراء متابعة الجمهور لي

حفلاتك دائماً كاملة العدد والملاحظ حضور كم كبير من الشباب فما دلالة ذلك في رأيك؟
يدل ذلك على صدق الموسيقى التي منحني الله موهبة تأليفها، فقد كان لديّ هدف منذ اخترت هذا الطريق وهو الارتقاء بالموسيقى والحس الفني وبخاصة أننا في بلاد تستمع إلى الأغنية وليس الموسيقى الخالصة، وحتى الأغنية لدينا تُغنى بدون شكل علمي، العالم كله مليئ بالقوالب الموسيقية المختلفة، ويجب أن يكون لدينا نفس الشيء لأننا أصحاب حضارة وعرفنا الموسيقى مبكراً جداً، وهذه الرسالة أخذت استكمالها على عاتقي بعد الرائد عمر خيرت الذي أسس الكونسيرفتوار وكان أول عميد له.

لقد درست الموسيقى في لندن في جامعة ""Trinity College كما أنني كنت ضمن أول دفعة تخرجت في معهد الموسيقى في القاهرة عام 1959 وكان هدفي أن يستمع الناس إلى موسيقى موزعة بأسلوب علمي موسيقي، والحمد لله أشعر بأنني نجحت في هذا الهدف والدليل هو الكم الرهيب من الجمهور المتذوق لأعمالي حتى من جيل الشباب.

قدمت أعمالاً رائعة مع مطربين كبار مثل محمد منير وعلى الحجار وأنغام وغيرهم لماذا لا تكرر التجربة كثيراً؟
لم أترك الأغنية، لكنني ركزت اهتمامي على تأليف الموسيقى، فهذا في حقيقة الأمر أصعب بكثير من تلحين الكلمة المُغناة.

لماذا لا نجد أوبرا عربية خالصة تعبر عن هويتنا؟
هذا غير صحيح، لأن عزيز الشوان قدم عملاً أوبرالياً خالصاً تماماً من قبل، وأيضاً أبوبكر خيرت كان قد بدأ في تأليف أوبرا جديدة بالعربية وكتب قصتها وأشعارها جدي (رحمه الله) إلا أن هذه التجربة لم تكتمل.

المستمع إلى مؤلفاتك الموسيقية يتلمس حساً روحياً فما السر وراء ذلك؟
يرجع ذلك إلى التربية والنشأة في أجواء متدينة والتجارب الدنيوية والإنسانية وتلك هي موهبة من عند الله للتعبير عما بداخلي وأخرج بهذا الشكل الروحاني، عموماً حينما أشرع في تأليف عمل جديد لا أقصد هذا البعد الروحاني بل إنه يخرج بشكل عفوي معبراً عن شخصيتي الحقيقية.

 هذا الفرق بين موسيقى اليوم والأمس، وجائزة "الميوزيك أوورد" خطوة مهمة في تاريخي الفني

برأيك ما الفرق بين أغنية الأمس وأغنية اليوم؟
فرق كبير، الأغنية القديمة كانت ثرية والدليل أنها مستمرة في الوجدان حتى يومنا هذا، أما الآن فما نسمعه هو أغنيات تجارية هدفها تحقيق الربح، لذا قلما تجد أغنية تعيش بين الناس فترة طويلة.

كيف يمكن أن تترجم الموسيقى التصويرية أجواء العمل الفني؟
من خلال تطويع الموسيقى لتتحدث بلغتها الخاصة عن المشهد والصورة، فتكون الإيقاعات الموسيقية بمثابة المعادل السمعي أو الصوتي للقصة أو الموقف أو الموضوع الذي يتناوله العمل الفني، أستطيع أن أقدم عملاً فنياً موسيقياً عن أي شيء، مثلما قدمت من قبل موسيقى مصاحبة لفيلم توثيقي مدته ثلث ساعة عن البحر الأحمر تم تصويره في شرم الشيخ تحت الماء، فكانت الموسيقى تحكي قصة الماء والأسماك والشعاب المرجانية..إلخ، وحينما قدمت موسيقى افتتاح دورة الألعاب الأسيوية في قطر 2006 وكذلك دورة الألعاب العربية عام 2007 عبرت بالموسيقى عن تاريخ العرب وحضارتهم، وبالتالي فإن الموسيقى تختلف حسب الموضوع سواء كان حدثاً رياضياً أو فيلماً سينمائياً أو مسلسلاً.. وهكذا.

حصلت على جائزة عالمية مهمة "ميدل إيست ميوزيك أوورد". ماذا تمثل لك بعد هذا المشوار من العطاء الفني؟
التكريم بالنسبة إلى الفنان مهم جداً، بالنسبة لي شعرت أن مجهودي وصل إلى الجمهور ومنحني شحنة إضافية لمزيد من العمل والعطاء، وهذه الجائزة الكبرى كانت خطوة مهمة في تاريخي الفني، إلى جانب حصولي على جوائز كثيرة عن أعمالي الموسيقية في العديد من الأفلام السينمائية، ودروع تكريم من كل محافظات مصر.

 خالد حمَّاد و تامر كروان وعمرو أبو ذكرى، ما رأيك في هذا الجيل الجديد على مستوى الموسيقى التصويرية للأعمال الدرامية؟
أكون سعيد جداً حينما أسمع أعمالاً فيها تأليف موسيقي، وأغلب هذا الجيل درسوا وتخرجوا في الكونسيرفتوار، فلدينا شباب جُدد لديهم نفس الرؤية وتصل أعمالهم إلى الناس.

ما الفرق بين الإعداد الموسيقي والتأليف؟
بالطبع هناك فرق كبير، في الإعداد الموسيقي يتم اختيار موسيقى جاهزة مُؤلفة من قبل ويقوم المخرج بوضعها في الأماكن المطلوب استخدام موسيقى فيها بحيث تتوافق وتتلاءم الموسيقى مع المشهد. المنتجون يلجأن إلى هذه الفكرة نظراً إلى كِبَر حجم المسلسل (30 حلقة مثلاً) حتى يوفرون الأجر الذي قد يدفعونه للمؤلف الموسيقى طوال كل هذه الحلقات، أما المؤلف الموسيقي فيؤلف أجزاء معينة بأحاسيس ما أو دراما موسيقية بأطوال معينة ويضعها في الأماكن المطلوبة بالعمل الدرامي، وبالنسبة لي حينما يُعرض عليَّ تأليف موسيقى تصويرية لفيلم أو مسلسل أقرأ السيناريو أولاً أو أجلس مع المخرج لأتعرف على الأجواء العامة للعمل أو شاأشاهد أجزاء تم تصويرها بالفعل من العمل الفني حتى أتمكن من ترجمة هذا الأحاسيس إلى موسيقى.

هذا أصعب موقف مر بحياتي، وأتابع ردود افعال الشباب على أعمالي عبر الإنترنت

ما أصعب موقف حدث لك على المسرح؟
هو أصعب موقف مر عليّ في حياتي، حينما شعرت بتعب شديد وألم في القلب في إحدى حفلاتي على خشبة المسرح الكبير بالأوبرا عام 2005م، خشيت على الحفل وخفت أن أقع فجأة على البيانو أمام الجمهور، لكنني تمالكت نفسي ولم يشعر أحد من الجمهور بأي شيء، وعلى الفور اتصل مدير أعمالي بالطبيب د.أحمد الغليض الذي نصحني بأخذ "حبة" من دواء معين وضعتها تحت لساني و أصريّت على استكمال الحفل، بعدها أجرى لي الدكتور طارق حلمي جراحة كبيرة في القلب ركبت فيها خمسة دُعامات.

هل كنت تخاف الموت؟
إطلاقاً، أنا لا أخاف إلا من الله عز وجل، كل خوفي في هذا الموقف هو ألا أكون قادراً على تحقيق حلمي مع الموسيقى والوصول إلى العالم أجمع.

جروب "عمر خيرت" على الفيس بوك يضم 46413 عضواً وهو رقم رهيب لجزء من عشاقك الإلكترونيين، فهل تحرص على متابعة تعليقاتهم حول إبداعك الموسيقي؟
بكل تأكيد، فغالبية أعمالي وأخباري متاحة على شبكة الإنترنت ويتم تبادلها بين الشباب العاشق للموسيقى، ومهم جداً أن أرصد مشاعر حب الناس لي، من خلال تعليقاتهم التي تشيد بمؤلفاتي القديم منها والحديث، فحب الجمهور لا يوازيه أي شيء في الدنيا.

أين تقضي وقت فراغك؟
ليس لديّ وقت فراع محدد، لكن حينما يتوفر لديّ وقت للراحة أسافر إلى الإسكندرية أو البحر الأحمر أو الغردقة أو أذهب لمقابلة أصدقائي.

حدثني عن أبنائك، وهل وصل حب الفن والموسيقى إليهم عبر الجينات الوراثية؟
لدي ولد وبنت، عمر يدرس الإخراج السينمائي في أستراليا، وشيرين تعيش في أميركا فقد تخرجت من الجامعة الأميركية وتزوجت وتعمل هناك في مجال التدريس وعندي حفيد واحد هو آدم (ابن شيرين)، وعموماً أشعر أنهم ذواقين للفنون، ولكن ليس بالضرورة أن يكونوا محترفين.

أخيراً ما هي أمنيات عمر خيرت؟
على المستوى الشخصي أتمنى أن يمنحني الله الصحة حتى أكون قادراً على العطاء الفني، وعلى المستوى المهني أتمنى مزيد من الخطوات نحو العالمية فالموسيقى الجيدة ليس لها حدود بل تصل إلى كل الناس في أي مكان في الدنيا.