الأميرة عفت الثنيان

رانية سليمان سلامة

اقرأ في هذا القسم:
>> تمهيد

>> (1) نشأتها وحياتها

>> (2) شخصيتها وإنجازاتها

    >> علاقتها بالآخرين

    >> شعاراتها

    >> دعمها للثقافة

    >> دعمها لعمل المرأة

    >> دعمها للحركة التعليمية النسائية في المملكة

    >> علاقتها بالإعلام

>> (3) رحيلها

>> (4) رسائل رثاء

<< عودة للكتاب

تمهيد

لم يكن بوسعي أن أكتب عن الأميرة عفت الثنيان دون الاعتماد على المشافهة كوسيلة لرصد مسيرة رائدة التعليم النسائي في المملكة العربية السعودية، وقصة تكوين شخصيتها، وملامح الحقبة التي عاصرتها، وطبيعة العقبات التي واجهتها.

مكان المشافهة كان مجلس الأميرة لولوة، حيث التقيتُ بالأميرة لطيفة وبها، فكان حوار اجتثت مضيفتي وشقيقتها الكبرى رهبته من اللحظة الأولى؛ لينساب السرد، وتتوالى شلالات الذكريات دون أن يقطع تلقائيتها جهاز التسجيل الذي يقع في منتصف المسافة بيننا، ودون أن يفرض علينا التكلّف.

وحدي كنت أتنبّه من حين لآخر لوجود ذلك الجهاز، وأخشى أن يلتقط ما لا يصلح للنشر؛ حتى أدركت أنني أجلس بين سيدتين تحترف كل منهما الصدق.

لم يكن المجلس الذي جمعنا سوى نموذج مصغر لمجلس قديم عرفه أهالي المملكة العربية السعودية، وأهالي منطقة مكة تحديداً، هو مجلس الأميرة عفت الثنيان، الذي كانت سيدته تضفي عليه ملامح روحها العذبة، فتذوب فيه الفوارق، وينساب الحديث بين جنباته.

في هذا الفصل سنقرأ السيرة على لسان شخصيتين، الأولى هي الأميرة لطيفة الفيصل التي أسرني وصفها المختصر لوالدتها بـ(الأم)، معتبرة أنها أم كل فتاة وامرأة سعودية، فكان ذلك الوصف مكملاً للانطباع الذي تركته الأميرة لطيفة لديَّ منذ الوهلة الأولى بكلماتها المفعمة بمشاعر الأمومة، وبذاكرتها التي تلتقط وتستعرض مشاهد متميزة لوالدتها الأم، والزوجة، والإنسانة، والصديقة، والقريبة التي أرادت أن تشكل الصورة النموذجية للمرأة المسلمة. لم يكن بوسعي أن أستمع للأميرة لطيفة دون أن أنشغل بالتلقائية والثقافة والأصالة، فهي تمثل نموذج الأجيال الأولى من النساء السعوديات اللواتي عاصرن بدايات التعليم في المنازل والمدارس. وبالرغم من المصاعب التي واجهت نَيْلهنّ.. للعلم فهي اليوم المرأة المثقفة المطّلعة التي تجيد 3 لغات (العربية والإنجليزية والتركية). في كنف والدها ووالدتها اشتهرت بلقب وزيرة المالية، في إشارة إلى تميّزها في إدارة الأمور المالية، وهي مهارة امتلكتها كذلك أغلب نساء ذلك الجيل لإدارة منازلهن بحكمة تتناسب مع الوضع الاقتصادي للأسرة، والمرتبط بالأوضاع الاقتصادية للبلد.

أما الأميرة لولوة الفيصل فكانت تبهرني بقدرتها على قراءة ما يدور في ذهني قبل أن أطرحه، هي سيدة من ذكاء يقرؤك ويحاورك بدبلوماسية، تساعدك على أن تقترب منها. وهي نموذج للجيل الثاني الذي تهيأت له فرصة استكمال الدراسة العليا في الخارج. تلك المراحل التعليمية التي مرت بها، وسّعت من نطاق معرفتها وآفاق رؤيتها، فكان لتجربة الاحتكاك أثر واضح على شخصيتها التي استمتعت بتسليمها دفة الحوار كلّما لامس نقطة تتطلب التحليل أو التفسير أو الربط بين الماضي والحاضر. كانت تسرد التاريخ متجرداً، ثم تُسقِط عليه برؤيتها رداء الواقع، وتكشف النقاب عن انعكاسه على الحاضر ودوره في بناء المستقبل. ذكاء الفيصل، وحكمة عفت، وشفافية تتلألأ بطابع خاص ـ كل ذلك ـ وربما أكثر ـ أهدته بسخاء لقرّاء هذا الكتاب.     

 للأعلى


(1) نشأتها وحياتها

هي عفت منيرة بنت محمد بن عبدالله بن ثنيان آل سعود. غادر جدها (عبدالله بن ثنيان) الجزيرة العربية، وانتهى به المطاف في اسطنبول، حيث تزوّج من سيدة شركسية هي (تازروح هانم) فأنجبت له (محمداً، وأحمد، وسليمان، وجوهران). ثم تزوج محمد من السيدة (آسيا هانم) التي أنجبت له (عفت) في عام 1916م، و(زكي). (1)

في ذاكرة ابنتها الأميرة لولوة الفيصل أبحرت، وسفينتي تتجه صوب الزمان والمكان والأجواء التي نشأت فيها الأميرة عفت. أردت أن أفتح المحارة لأقرأ ما تحمله (اللؤلؤة) من أسرار عن والدتها، فوجدتها تصحبني إلى النقطة التي أريد، قائلة:

"كانت حياة والدتي في تركيا صعبة للغاية، فعندما تُوفي والدها - جندي في الجيش التركي - في حرب البلقان قبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى، خلف وراءه زوجته (آسيا هانم)، وابنته (عفت)، وابنه الصغير (زكي)، وشقيقته المشلولة (جوهران)؛ ليتقاسموا من بعده الفقر تحت سقف المنزل الصغير الذي جمعهم، ويواجهوا الحياة معتمدين على معاش بسيط. كان عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم، فبدأت جدتي (آسيا هانم) تبحث عن عمل لتوفير الحياة الكريمة لأفراد الأسرة، وكانت تجيد الحياكة، فاستنجدت بتلك الحرفة لتحيك الملابس لجيرانها ومعارفها، غير أن العائد من عملها مجتمعاً مع معاش الزوج الفقيد لم يكن قابلاً للقسمة على أربعة أشخاص، ليغطي أساسيات الحياة من مأكل ومشرب وملبس وعلاج، بالإضافة إلى التعليم، فاضطرت جدتي أن تتزوج من رجل آخر، وتسافر معه لمقر إقامته مصطحبة معها ابنها الصغير (زكي). ولقد أنجبت من زواجها الثاني كلاً من (مظفر أدهم) و(كمال أدهم)".

ظلت الأميرة عفت مع عمتها جوهران، إحداهما ترعى الأخرى، وكلتاهما تعتمدان على معاش والدها البسيط.. ولم تكن مصاعب الحياة التي مرت على الأميرة عفت بعيدة عن الأجواء العامة والحروب التي ألقت بظلالها على تركيا والعالم الإسلامي بشكل عام.. فشعرت مبكراً بمرارة فقدان مَن تحب، وبالاستقرار الذي تدفعه الشعوب من حياتها ثمناً للحرب، كما لاحت أمامها حقيقة أن على النساء أن يكن مؤهلات للاعتماد على أنفسهن، وشاهدت في والدتها نموذجاً لذلك عندما اضطرتها ظروفها القاسية أن تستنجد بحرفة تتقنها لتعول أسرتها بدلاً من أن تستجدي العون من الآخرين.

التعليم كان أمراً أساسياً في المجتمع التركي بشكل عام، كما كان ضرورياً لها بشكل خاص من أجل حياة أفضل.. وهو الآخر ترك في تكوينها الثقافي بصمة خاصة تؤكد أنها كانت شاهدة عن قرب على إحدى أهم المراحل الانتقالية التي شهدها العالم الإسلامي، وعن تعليمها تقول الأميرة لولوة: "التحقت والدتي بالمدرسة في العهد العثماني، حيث كان نظام التعليم التركي القديم يعتمد على الأحرف العربية في كتابة اللغة التركية، ولكن عندما جاء مصطفى كمال أتاتورك أجرى تغييرات عديدة، كان من بينها استخدام الأبجدية اللاتينية في كتابة اللغة التركية بدلاً من الأبجدية العربية، وبهذا تعلمت والدتي في المدرستين". 

وقد واصلت الأميرة عفت تعليمها الأولي والثانوي حتى حصلت على دبلوم معلمات.. هذه المعلومة التي تم اكتشافها بعد وفاتها جعلتني أبادر بالسؤال: 

"هل كانت طموحاتها إذن أن تكون معلمة؟".

وبذكاء شديد التقطت الأميرة لولوة سؤالي وأجابت:

" إذا أردت الربط بين تعليمها وبين اهتمامها لاحقاً بالتعليم في المملكة فهذا أمر مبالغ فيه من وجهة نظري.. لقد كانت صغيرة، وثمة فارق بين الطموحات والخيارات التي تفرضها علينا الحياة".

شعرت بأن الأميرة لولوة كانت تعيد خيالي المفرط في التحليق إلى أرض الواقع؛ لتؤكد أنها بسرد سيرة والدتها لا ترمي إلى تصويرها بهيئة أبطال الأساطير. كانت تتحدث عن الواقع، والواقع أعمق من الخيال. فعفت الثنيان قد مّرت بتجربة إنسانية كشفت لها عن أهمية التعليم بالنسبة للمرأة، ووضعتها في مواجهة خيار واحد - شاءت أم لم تشأ - كانت ستصبح معلمة لتساعد أهلها، أمّا خطواتها اللاحقة بتأسيس المدارس في المملكة فقد كانت نتاج قراءتها لتجربتها عندما وصلت إلى مرحلة من النضج تؤهلها للتخطيط من أجل مستقبل النساء في بلدها؛ لتوفر لهنَّ فرص الحياة الكريمة سواءً اخترن أن يكنَّ ربات منزل، أو يعملن بمحض إرادتهن.

عدتُ مع الأميرة لولوة إلى أرض الواقع التي تقف عليها بثبات، وتسترجع منها التاريخ وقلت:

"لقد كانت التجربة إذن؟".

قاطعتني بقولها:

"بل هي مشيئة الله التي تضع الإنسان في اختبارات، إذا نجح فيها يتأهل لتوظيف خبراته في خدمة الآخرين، كما أنها مشيئة الله الذي سخّر لوالدتي أن تعود بتجربتها إلى أرض الوطن".

العودة كانت بلا شك رغبة تراود الأميرة عفت التي باتت تعرف مكان أسرتها في شبه الجزيرة العربية، عندما ذاعت أنباء عن شروع الملك عبدالعزيز ـ طيب الله ثراه ـ بتوحيد المملكة، غير أن الرغبة بحاجة إلى معرفة الطريق لتحقيقها.. وذلك الطريق قد أضاءته أمامها عمتها (جوهران) التي اقترحت عليها أن يذهبا لأداء فريضة الحج، ويتعرفا على أسرتهما هناك ومن ثم تعودان إلى تركيا.. وبالفعل أرسلت برسالة للملك عبدالعزيز الذي كان يبحث آنذاك عن أفراد أسرته، فوجّه لهما الدعوة لزيارة المملكة مباشرة.

وعن تلك الدعوة تقول الأميرة لولوة:

"كان الملك عبدالعزيز يعرف عم والدتي (أحمد الثنيان) الذي فرَّ من تركيا، وعاد إلى المملكة، وأصبح مستشاراً للملك، كما أنه قد رافق والدي في رحلته الأولى لإنجلترا عام 1919م الموافق 1337هـ لأنه يجيد اللغات".

وعندما وصلت عفت وعمتها جوهران إلى المملكة، لم يكن الفيصل ـ نائب الملك عبدالعزيز آنذاك ـ في البلاد، ولكنه التقى بها بعد عودته، وعن ذلك اللقاء تقول:

(التقيت بالملك فيصل بحكم القرابة التي بيننا، وشعر كلانا بالانسجام التام مع الآخر.. جذبتني شخصيته، وظللنا لفترة نتحدث سوياً من خلال "ترجمان" لأنني عشت في تركيا كل عمري.. ولكن شيئاً فشيئاً تعلّمت اللغة العربية)

عفت الثنيان (2)

تبشّر رحلة الحج مَن يؤديها بميلاد جديد، ولقد كان لعفت من هناك أن تفتح صفحة جديدة من حياتها، حيث تم زواجها المبارك بالأمير فيصل. ويقرأ ابنها الأمير تركي الفيصل أول أسطر تلك الصفحة، قائلاً:

"لم تخشَ الحياة، فلقد واجهتها يوماً بيوم. وعندما تزوجت ابن عمها لم تنكفئ في غرفتها، ولم تبكِ ابتعادها عن أمها وإخوانها إلى بلد غريب لا تعرف لغته.. ولكنها عانقت حياتها الجديدة، وعلّمت نفسها أن تتعايش مع محيطها، وتكون عضداً لزوجها في أحلامه وطموحاته". (3)

وقد أنجبت من البنين والبنات الأميرة سارة، الأمير محمد، الأميرة لطيفة، الأمير سعود، الأمير عبدالرحمن، الأمير بندر، الأمير تركي، الأميرة لولوة، الأميرة هيفاء.

الأحلام بعضها سراب، والبعض الآخر يعبّر عن الطموحات، ويصبح نقطة انطلاق لصناعة الإنجازات.

 فوق أعلى قمم جبال الطائف كانت تنتهي الرحلة التي ظل الأمير فيصل يصطحب إليها أسرته. وبعد مشقة كبيرة كان الجميع يصل لتلك النقطة من جبل الهدا، حيث يختار أن يقف ليرسم صورة بريشة الخيال تشكّل معالم الطريق الذي يحلم بأن يراه معّبداً ليربط بين الطائف ومكة عن طريق جبل كرا.

هكذا أرادت الأميرة لولوة أن تُقرّبَ لذهني آلية الملك فيصل للتخطيط لمشاريعه. 

وتسهب في وصف الصورة فتقول:

"كنا نقطع المسافة بين الطائف ومكة في حوالى 7 ساعات، وكان الطريق موحشاً ووعراً ومحفوفاً بالمخاطر، وعندما فكّر والدي في شق هذا الطريق أراد أن يعيش حلمه ويرى تفاصيله قبل أن يشرع بتنفيذه فجعلنا جميعاً نعيش الحلم معه".

كانت هذه القصة الرد على محاولتي التقاط مشهد للأميرة عفت وهي تخطط لتأسيس مدارس البنات، أو وهي تناقش الفكرة مع زوجها وبناتها. وتضيف:

"عملية البناء والتأسيس ليست مجرد حديث أو حوار بين اثنين، بل لابد أن تتكون الرؤية الواضحة أولاً، وهكذا دائماً كان التخطيط يبدأ بين زوجين يفهم كل منهما تفكير الآخر، في علاقة بناء الثقة والمساندة، فهما وحدة متكاملة. وكنت ألمس أنهما شركاء في التخطيط لعدد من المشاريع التي تشغلهم على طريق البناء بنفس الآلية".

لمحت نظرة التوكيد تملأ وجه الأميرة لطيفة الفيصل، التي دخلت للتو إلى المكان، وبدأت تترجم النظرة التي تخفي وراءها صورة تحتفظ بها في برواز ذاكرتها إلى كلمات، قائلة:

"كانت والدتي بجوار والدي نعم الرفيق، تمارس دورها كزوجة وأم، وتعرف ما يريده زوجها، تماماً كما كان هو كذلك يعرف ما تريده، ويثق أنها لن تُقدم على خطوة ما لم تكن مدروسة، وتهدف إلى فائدة الجميع في مرحلة البناء التي تتطلب المساهمة الفعّالة من كافة أفراد المجتمع لتحقيق النهضة المنشودة.. وعندما يسير الطرفان على مسار واحد من الطبيعي أن يتجاوزا مرحلة النقاش إلى القرار والعمل مباشرة".

هل حقاً عندما نعيش أحلامنا تتحقق؟

الواقع يجيب عن سؤالي ب(نعم)، ففي عام 1385هـ الموافق 1965م افتتح الملك فيصل الطريق الذي ظل يحلم به ليربط بين مكة والطائف عبر جبل كرا.

أمّا الأميرة عفت فقد كان شغلها الشاغل التعليم، ولم يقع اهتمامها على هذا المجال عشوائياً، بل كان استجابة لنداء وطن ناشئ ثروته الوحيدة أبناؤه، وهذا ما توضحه الأميرة لولوة بقولها:

"عندما تزوجت والدتي من والدي كانت المملكة في مرحلة بناء، وميزانيتها قائمة على ميزانية الحج قبل اكتشاف الثروة النفطية، ومن الطبيعي أن يكون أساس البناء هو التعليم حتى ينهض المجتمع بعلم أبنائه. وقد كان هذا توجه الملك عبدالعزيز منذ بداية عهده، حيث انطلقت مسيرة ابتعاث المتعلمين للخارج لاستكمال تعليمهم العالي ومن ثم توظيفهم في الدوائر الحكومية".

توجهت إلى الأميرة لطيفة بقولي: 

"لقد عاصرتم كأبناء وبنات للأميرة عفت المراحل الأولى لتأسيس المدارس".

فقاطعتني بقولها:

" لا، بل عاصرنا تكوين البلد الذي كان التعليم حجر الأساس لبنائه،  هكذا كانت مرحلة حكم الملك عبدالعزيز كما يعرفها كل من عاصرها".

الخطوة الأولى على طريق التعليم استهلت الأميرة لولوة الحديث عنها بقولها:" للتاريخ، لابد من توضيح نقطة. فلقد كانت هناك مدارس عديدة في المملكة، إلاَّ أنها كانت أقرب إلى الكتاتيب في منهجها، أو خاصة في المنازل، حيث يأتي بعض الأهالي بالمعلمين لأبنائهم وأبناء أقاربهم، أو خاصة لأبناء المدينة الواحدة. أمَّا ما أرادته والدتي فقد كان نشر العلم، وإتاحة فرص التعليم للجميع".

وقد كانت هذه هي العلامة الفارقة التي أكدت عليها الأميرة لطيفة قائلة:

"كان بوسع والدتي أن توفر التعليم لنا فقط. ولكنها لم تشأ أن يقتصر التعليم علينا، فكانت مدرسة الطائف النموذجية أول مدرسة خططت مع والدي لافتتاحها في الأربعينيات الميلادية حيث التحق بها أبناؤها مع عامة الناس، وكان التعليم فيها نظامياً".

تداخلت مع الأميرة لطيفة عند هذه النقطة أطلب المزيد من التوضيح عن الفارق بين مدرسة الطائف النموذجية وغيرها من المدارس التي سبق افتتاحها فقالت:

"كانت مدرسة داخلية أو ما يطلق عليه اليوم بـ boarding school، وذلك ليتمكن الأهالي من إرسال أبنائهم إليها من مختلف أنحاء المملكة دون أن تضطر الأسرة بأكملها إلى الانتقال من مدينة لأخرى لتعليم أبنائها".

ولابد أن القارئ قد يتصور مع تلك الخطوة أن الأميرة عفت قد بدأت بتعليم البنين وفي خاطرها فكرة تعليم البنات، غير أن الأمر لم يكن كذلك، وهذا ما تؤكده الأميرة لطيفة إذ تقول:

"كانت المدرسة للبنين والبنات، حيث ألحقت بها والدتي منذ افتتاحها قسماً لتعليم بناتها، ومن ثم أخريات. وقد درست فيها أنا ـ آنذاك ـ وكنت في المرحلة الابتدائية".

استمعت لتلك الإجابة وأنا أسترجع أول آية أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون فاتحة الوحي للمسلمين وللناس عامة (اقرأ)، فوجدت الأميرة عفت قد حفظتها، ووعتها، وطبقتها مدركة أن طلب العلم فريضة على النساء والرجال دون أن يتطلب تحقيق هذه الفريضة أن يسبق تعليم الرجل تعليم المرأة، فلم تغفل مبادرتها الأولى هذا الأمر. ولم يكن ذلك سهلاً بالتأكيد.

العقبة الأولى كانت عدم وجود معلّمات، حيث أوضحت الأميرة لطيفة أن قسم البنات بالمدرسة كان يعتمد على معلّمي البنين، واستطردت الأميرة لولوة موضحة:

"لم يكن أمام والدتي خيار آخر، ففي ذلك الوقت لم يكن من السهل استقدام معلمات من الدول العربية، بل كن في واقع الأمر يرفضن المجيء للمملكة ولمنطقتنا بشكل عام؛ لأنهن لا يعرفن الكثير عنها".

كانت الأميرة لولوة تشير بهذا الإيضاح إلى الحقبة التي سبقت توحيد المملكة، وتأسيس بنيتها التحتية، واكتشاف الثروة النفطية، وقد كان الملك عبدالعزيز ـ آنذاك ـ يحمل لقب سلطان نجد والحجاز وملحقاتها.

وإن كان استقطاب المعلمات أمراً صعباً، فإعداد المناهج لم يكن أقل صعوبة، حيث كان لابد من جمع المناهج من الدول العربية، واستقطاب أكاديميين متقاعدين من تلك الدول لتأسيس منهج خاص، فكانت مدارس الطائف النموذجية بتلك الخطوة من أوليات المدارس التي قدمت منهجاً معترفاً به من قِبل وزارة المعارف.

أمّا قسم البنات في مدرسة الطائف النموذجية فقد كان كذلك داخلياً، غير أن عدد الطالبات كان قليلاً جداً، تذكر الأميرة لطيفة من بينهن زميلتيها في المرحلة الابتدائية (بدرية بنت حمد السليمان)، والدكتورة (فاتنة شاكر)، وتقول: "لم يستمروا، ونحن كذلك لم نستمر سوى ثلاث أو أربع سنوات من المرحلة الابتدائية، ثم عدنا للدراسة في المنزل، وتمكنت والدتي من إحضار معلمتين لنا إحداهما بريطانية لتعلمنا اللغة الإنجليزية تُدعى (مسز ميلر)، والأخرى فلسطينية هي السيدة (مفيدة الدباغ) لتعلّمنا المواد العربية" .

وتعلق الأميرة لولوة على توقف قسم البنات في مدرسة الطائف قائلة:

"الأهالي لم يرسلوا بناتهم إلى المدرسة، ولم يشجعوا الخطوة، ووالدتي لم تكن ترغب بافتتاح مدرسة لبناتها فقط ".

تعثّر قسم البنات بالمدرسة إلى أن افتتحت الأميرة عفت مدارس دار الحنان في عام 1955م، أمّا قسم البنين فاستمر حتى انتقلت مدرسة الطائف النموذجية في عام 1960م إلى مدينة جدة لتحمل مسمى جديداً هو (مدارس الثغر النموذجية) والتي لا تزال قائمة إلى اليوم .

دار الحنان

 للأعلى


(2) شخصيتها وإنجازاتها

عقلها سبق زمنها، وقلبها أعطى الأمل لمن فقده..

قوة عزيمتها ألهمت الغير للتطلع إلى أفق أرحب للرقي بأنفسهم وبمجتمعهم..

شخصيتها كانت مثل الشمس تبعث الدفء في القلوب..

فرضت هيبتها الاحترام، وأعطته في المقابل.. 

ريم بنت سعود الفيصل (4)

 

علاقتها بالآخرين

" كانت قريبة من الناس، غير بعيدة عن مشاكلهم".

هكذا اختصرت الأميرة لطيفة سر نجاح والدتها في اكتساب ثقة مجتمعها لتفتتح أول صرح تعليمي للبنات، وتضيف:

" لازلت أذكر مجلس والدتي ممتلئاً بالزّوار، كان بابها مفتوحاً دائماً للناس، تحرص على أن تربطها بهم علاقة إنسانية حميمة، وتهتم بالاستماع إلى مشاكلهم، حتى الشخصي منها.. فكثيراً ما كنا نجدها تغادر المجلس مع إحدى الزائرات، أو تختلي بها جانباً لتستمع إليها، وتقدم لها المشورة. فإذا ما انفض المجلس، تحتفظ بتلك الأسرار في أعماقها، ولا تطلع عليها أحداً أبداً".

وهو نفس المجلس الذي وصفته الكاتبة نورا السعد في إحدى مقالاتها، بقولها:

"صالون عفت في مقرها، كان مثلا للحوارات الاجتماعية والثقافية.. بل كان يمثل مركزًا للإرشاد العلاجي لحلول مشكلات العديد من النساء والفتيات، ومدرسة اجتماعية للتواصل بين الرعية وزوجة الراعي والوالي". (5)

اقتربت من الناس، وحرصت على مراعاة مشاعرهم، وحفظت سرهم، واحترمت خصوصيتهم، فحظيت بثقتهم. تلك كانت توليفة النجاح الاجتماعي التي صنعتها واعتمدتها.. وظل مجلسها شاهداً على شخصيتها الفريدة، وشاهداً على قدرتها على الإقناع، وعلى تقدير زوجها الملك فيصل لهذه السمة التي تتميز بها زوجته، ويشهد عليها ابنها الأمير تركي بقوله:

"كانت عضداً لوالدي في أحلامه وطموحاته، تجادل مَن كان يقف معارضاً لهذه الطموحات.. وكان والدي ـ رحمه الله ـ يبعث لها مَن كان يرى أنه مخالف أو ليس مقتنعاً ببعض هذه الأحلام لتقنعه بها ". (6) 

وتوضح الأميرة لولوة هذه الحقيقة بما يجلي الغموض فتقول:

"مع النساء والرجال، فيما يتعلق بالتعليم وبغير التعليم من أمور تمس حياة الناس كانت تمارس هذا الدور باقتدار، وهي تؤمن بأن عليها أن تقنع الناس لا أن تفرض عليهم رأيها فرضاً. وهنا، لا يمكن أن نغفل العوامل التي ساعدتها على ذلك.. فقد كانت من جهة صاحبة شخصية ناضجة ومؤهلة لمناقشة الآخرين فيما يؤمنون به لتقتنع، أو تقنعهم بما تؤمن به. كما كانت طبيعة الحياة ـ آنذاك ـ مختلفة، يتجلى هذا الاختلاف في أن البلدة كانت صغيرة، وكل الأسر تعرف بعضها البعض، فهذا تعرف والدته، وذاك تعرف شقيقته، والآخر تعرف زوجته. بالإضافة إلى أن أغلب الرجال الذين التقت بهم والدتي في مجلسها ـ مع أخي تركي ـ كانوا بمثابة أبنائها؛ كونهم خريجي (مدرسة الطائف النموذجية) التي أسستها. هذه العوامل التي توفرت لها مجتمعة في ذلك الزمن كانت استثنائية، لذلك أعتقد أن تأثيرها قد دخل لكل بيت بترحيب من أهله".

حقيقة أكدها قلم الكاتب أحمد محمد باديب بقوله:

"فتحت قلبها وبيتها لأهل الحجاز يوم كانت تعيش بين ظهرانينهم في مكة المكرمة، عندما كان زوجها نائباً لعبدالعزيز ـ رحمه الله ـ وفي الطائف يوم كان ولياً لعهد سعود، وفي جدة يوم كان ملكاً.. أحبها أهل الحجاز، وأجلوا مكانتها لأنها ملكت قلوبهم، كانت ـ رحمها الله ـ لا تحب "الحال المائل" كما يقول أهل الحجاز، ولا تحب أن تقضي وقتها إلاَّ فيما ينفع". (7)

الصفة ونقيضها كانت تجتمع في شخصية الأميرة، ولكنها صفات توازنت دون تضارب بين التواضع ولين الجانب والحميمية في علاقتها مع الآخرين، وبين الشدة في طلب الحق والإصرار على إحقاقه. 

"كانت امرأة ذات إرادة حديدية".

بتلك العبارة وصفت مواقفها، فصححت الأميرة لولوة الوصف قائلة:

"كانت امرأة مسلمة، تفهم هذا المعنى وتعيه، وتسعى إلى تجسيده في كل ممارساتها؛ لتكون نموذجاً في الالتزام بكافة مهامها.. كأم، وزوجة، وأخت، وصديقة، وصاحبة أهداف تؤمن بها، وتسعى إلى تحقيقها دون أن تحيد عنها. لم تكن تقدم تنازلات، أو تتراجع إلاَّ إذا ثبت لها أنها على خطأ. فكان في شخصيتها القوية شيء من المرونة لتتغير نحو الأفضل، وهذا يتضح بجلاء في قدرتها على تغيير بعض العادات والممارسات التي اكتسبتها من نشأتها الأولى، فكان تغييراً نحو الأفضل، وهذا أمر مقبول في حياتها. أمّا التنازل عن الأفضل لما هو أقل منه لم تكن ترضاه أبداً".

تلك الشخصية القوية بمبادئها الراسخة قد تجعلنا نتخيلها قاسية في التعامل مع الخطأ، ولكن الأميرة لطيفة تكشف النقاب عن وجه شخصية والدتها الحقيقي فتقول:

"كانت تميل إلى المرح، والابتسامة دائماً تزين وجهها. لم تكن القسوة تعرف الطريق إلى نفسها، ولكنها كانت حازمة".

 للأعلى

 

شعاراتها

توقفت طويلاً عند كلمة للأميرة سارة الفيصل تقول فيها:

"كانت والدتي تؤكد علينا أن تعليم المرأة هو سلاحها، وتوصينا بالتمسّك بالدين، واحترام الناس جميعاً".

وإذا أردت أن تختبر صدق الشعارات التي يطلقها أحدهم، فابحث عن تطبيقه لها في حياته، أو ابحث عن أثرها في محيطه. ومع شعارات الأميرة عفت وجدت أن البحث يسوقني نحو 3000 وثيقة إثبات وتزيد، بوسعها أن تشهر الإجابة بصوت مرتفع عن هذا السؤال. تلك الوثائق تكتسب مصداقيتها من كونها ليست حبراً على الورق، بل هن خريجات مدرسة عفت اللواتي بوسعهن أن يقلن:

"كانت تلك الشعارات واقعاً عشناه".

فمّن قالت بأن تعليم المرأة هو سلاحها، قد كرّست حياتها لتمنح هذا السلاح المشروع لفتيات بلدها حتى جندتهن في محراب العلم مجتهدات ومجاهدات في سبيل نهضة وطنهن. كما غرست حب العلم في نفوس أبنائها وبناتها فاختاروا أن يكون استثمارهم لاحقاً في قطاع التعليم، وبالإضافة إلى إشراف بناتها بالتناوب على مدارس دار الحنان: 

  • ـ افتتحت الأميرة سارة الفيصل مدارس التربية الإسلامية في الرياض.
  • ـ افتتح الأمير محمد الفيصل مدارس المنارات الدولية، ولها فروع في المملكة وخارجها.
  • ـ افتتحت الأميرة هيفاء الفيصل المدرسة الفيصلية في الخبر.
  • ـ افتتح أبناؤها الذكور ـ مجتمعين ـ مدارس الملك فيصل في الرياض.

 

ومَن أوصت بالتمسك بالدين، أدركت أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، فسعت إلى تذليل العقبات أمام المرأة لتؤدي فريضتها، وحرصت على أن تحيط برامج مدارسها التعليمية الخاصة بما يناسب شريعة دينها، فارتكزت على مفهوم "إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه" وقدمت خير ما يمكن تقديمه من أساليب تعليمية وتربوية لبناتها، مستفيدة من تجارب الدول المتقدمة في مجال التعليم، وحريصة على أن تأخذ منها ما يتحد مع المفاهيم الإسلامية ولا يحيد بالمرأة عنها. ولقد تحورت في دار الحنان أنشطة عديدة تعرفها أرقى المدارس العالمية لتأخذ صوراً ذات أبعاد جديدة طابعها يتميز بما يرسيه من المفاهيم الإسلامية كالعمل الخيري، والتنافس الشريف، والتكافل، والإتقان، والإخلاص، والتفكر، والإبداع، والابتكار، وتنمية الشخصية.. وغير ذلك ممّا سيأتي ذكره لاحقاً بشيء من التفصيل.

 

ومَن رفعت شعار احترام الناس جميعاً، وضعت صيغة فريدة من صيغ التعايش في دار الحنان.. فقد ظلت تلك المدرسة ـ بالرغم من كل المراحل الانتقالية التي مرت بها، وبالرغم من التطور الذي شهدته ـ تضم بين جنباتها يتيمات دار الرعاية اللواتي كانت تتكفل برعايتهن، إلى جانب فئات إذا أردنا تصنيفها نجدها تتراوح بين محدودة ومتوسطة ومرتفعة الدخل، وبنات الأسرة الحاكمة، كما ضم ذلك المجتمع المتجانس السعوديات وغير السعوديات. ولعلي اليوم عندما استرجع ذلك التنوع أشعر ـ بما لا يدع مجالاً للشك ـ أنه لم يكن من الممكن أن يتشكل مصادفة، بل كان مقصوداً لتهيئة بيئة اجتماعية صحية تجسد صورة من صور المجتمع الكبير، كما كانت تراه الأميرة عفت، أو في الواقع كما يجب أن يكون.  فرسوم الالتحاق بالمدرسة ظلت في متناول الجميع تقريباً، والنظام الموحد قد وحّد بين أفراد مجتمعها الصغير (دار الحنان)، ونجح بإذابة جليد الفروقات، لنجد اليوم أن القاسم المشترك بلا استثناء في إجابات خريجات مدارس دار الحنان عن أبرز ما يحملنه من ذكرى عن مدرستهن هو (روح الانتماء إلى أسرة واحدة). وهكذا أجد أن هذا العامل تحديداً كان وراء ما تبوأته دار الحنان والأميرة عفت من مكانه على خارطة نفوس بناتها. فكان التعليم حاضراً، غير أننا ليس بوسعنا أن نغفل التجربة المتكاملة التي هيّأت بالتربية الطريق لاكتساب العلم، ولتشكيل شخصية الطالبة.

"أنشئت دار الحنان لتضم كل طبقات المجتمع بلا فوارق".

هذا ما قالته الأميرة لطيفة، وعادت بي إلى جذور تلك الرؤية الراسخة للأميرة عفت بقولها:

"كانت تحرص دائماً على أن يغلّف الاحترام جميع العلاقات المحيطة بها، فتعلّمنا منذ الصغر أن مَن يدخل بيتنا زائراً لابد أن نحتفي به، ونبادر نحن بناتها قبل غيرنا بواجب الضيافة، كما تعلّمنا أن مَن يدخل بيتنا عاملاً لابد أن نشعر بالتقدير لمهنته التي لا تنتقص منه، ولا تجعل بالضرورة أحدنا أفضل من الآخر. كما لا ينفي وجود مَن يساعدنا مسؤوليتنا أو اعتمادنا على أنفسنا، فلم يكن بوسعي أن أطلب كوباً من الماء من أحد مادمت أملك القدرة على أن أجلبه بنفسي". وتضيف:" كانت والدتي ـ رحمها الله ـ تحرص على إرساء آداب التعامل مع الآخرين بيننا حتى لا نعيش بمعزل عنهم، وحتى يظل الاحترام والتماسك يجمعنا بهم. ودار الحنان هي بيت علم قامت على تأسيسه، ولم تشأ أبداً أن يكون بمثابة الجدار العازل الذي تقبع خلف جدرانه فئة واحدة، بل كان بيئة إعداد للفتاة لتخوض بنجاح معترك الحياة".

 للأعلى

 

دعمها للثقافة

"التعليم في المناهج، أمّا الثقافة ففي الكتب".

حقيقة آمنت بها الأميرة عفت، وعنها تقول الأميرة لطيفة:

"كانت هواية والدتي المفضلة هي القراءة. ببساطة، كانت تقرأ كل شيء. وتضم مكتبتها الضخمة كتباً في مختلف المجالات؛ لأنها كانت تؤمن بأن الإنسان يجب أن ينمي ثقافته ومعلوماته بالقراءة والاطّلاع".

هذه القناعة كانت حتماً وراء دعمها لعدد من الأنشطة اللامنهجية والبرامج الثقافية التي تبنتها دار الحنان. ونرى ملامح صورة جديدة تؤكد أن مَن يدعم فكرة يؤمن بها بوسعه أن يصل بها إلى أبعد ممّا قد يصل إليه مَن يدعم مشاريعه كرماً أو تجارةً.. تلك الصورة تتجلّى بحماس الأميرة عفت لدعم نشاط أسبوع الكتاب بمدارس دار الحنان إذ تقول: 

"طالبات دار الحنان هن أول من بدأن ونفذن فكرة أسبوع الكتاب. وعمل الأبحاث على نطاق المملكة، إلاَّ أنني لم يخطر ببالي أنهن بحاجة إلى مطبعة لطباعة بحوثهن، وعندما علمت بأنهن يلجأن إلى المطابع خارج المدرسة، وجدت أنه من الضروري شراء آلة طباعة وقدمتها كهدية مني لهن، فأصبح في المدرسة آلات تصوير تقوم بعمل الصور الرئيسية، وآله تسحب حتى 300 نسخة"

عفت الثنيان (8)

 

وباهتمام بالغ كانت تتابع، وتوجّه بناتها إلى تبني الطرح الجديد والمفيد في البحوث التي يعملن على إعدادها، وتواكب توجيهاتها كل مرحلة.. فكانت أول نصيحة حددت لهن المسار، وخففت عليهن وطأة العناء ليتجاوزن أول خطوة على طريق الألف ميل، قولها:

  

" أتطلّع أن تهتم بناتي في أسبوع الكتاب بتناول المواضيع التي قد لا يلتفت إليها الإنسان أو يهتم بها، فلا يكتبن حول ماهو متوفر للجميع في المكتبات، وإنما الواجب الكتابة عن الأمور التي قد تغيب عن ذهن الفرد منا ولا توجد في أي كتاب آخر "

عفت الثنيان (8)

 للأعلى

 

دعمها لعمل المرأة

"من الجمعيات الخيرية انطلق عمل المرأة".

هذا ما أشارت إليه الأميرة لولوة، واستدركت:

"كل أسس وأعمال المرأة السعودية بدأت في الجمعيات الخيرية. فقد كانت الأرضية التي أسست لعملها منذ أن افتتحت والدتي ـ رحمها الله ـ جمعية النهضة بالرياض، ولم يكن دور الجمعيات الخيرية ـ آنذاك ـ تقديم المساعدات المادية أو الرعاية الاجتماعية فحسب، بل كان دورها الأهم التعليم ونشر الثقافة".

وبانسيابية انتقلت دفة الحديث إلى الأميرة لطيفة، التي كانت شاهدة على تلك الخطوة والتي ـ مجدداً ـ كان للأميرة عفت قصب السبق في طرحها على مجتمعها، فقالت:

"عندما فكرت والدتي بتأسيس الجمعيات الخيرية، أوكلت لي، ولشقيقتي سارة، والسيدة سميرة خاشقجي، والسيدة سيسيل رشدي مهمة وضع اللوائح الأساسية للجمعيات الخيرية، ومن ثم انطلق نشاط جمعية النهضة التي حملت في بداياتها مسمّى (نادي فتيات الجزيرة الثقافي)".. وعن الأنشطة التي كانت تقدمها الجمعية تقول:

"كان من بينها الندوات، والمحاضرات، والرحلات، وتعليم لغات، ومحو الأمية، والعناية بالأسر الفقيرة. كما كانت تقدم دورات متقدمة. فعلى سبيل المثال تم في جمعية النهضة ـ لأول مرة على مستوى المملكة ـ تعليم لغة (برايل) للكفيفات".

كدت أن أبدأ بالربط بين مفاهيم خدمة المجتمع والعمل الخيري والتطوعي التي أرستها الأميرة عفت ـ رحمها الله ـ في الجمعيات الخيرية، وبين عدد من الأنشطة التي جاءت لتعزز من هذه المفاهيم في نفوس طالبات دار الحنان منذ سن مبكرة، ولكن الأميرة لولوة سبقتني إلى ذلك قائلة:

"المدرسة والجمعية، تتخرج المرأة منهما لتواجه الحياة، والحياة ـ آنذاك ـ لم يكن يتوفر فيها كل هذه الكماليات التي نعرفها اليوم، لذلك كان على النساء والرجال على حد سواء أن يتدبروا أمور حياتهم".

قاطعتها متسائلة: "كيف؟".

فأجابت:" سأضرب لها مثالاً، كانت والدتي تروي لنا عن أول منزل عاشت فيه بعد زواجها من والدي. كان سقف المنزل من (الخسف) والطين، وظلت الأتربة تتساقط عليهم منه إلى أن أحضرت والدتي بعض الأقمشة، وقامت بخياطتها، فغطت بها السقف، ولتفادي الحشرات قامت بتعليق (ناموسية) فوق طاولة الطعام. أفكار بسيطة للغاية ساعدتها على تحسين حياتها والتكيف معها وفقاً لإمكانياتها، وهكذا أرادت أن تدفع كل امرأة إلى التفكير في كيفية تطوير حياتها وتدبر أمورها، وهذا يحتاج إلى علم وقراءة أو إلى خيال واسع ومهارة".. وتضيف:" كانت تؤمن بأن على كل امرأة أن تتعلم وتعمل، وليس بالضرورة أن يكون عملها خارج المنزل. فأذكر أننا عندما كنا نستعد لافتتاح كلية عفت الأهلية للبنات قالت لنا (لا تنسوا أن عمل المرأة الأول في بيتها، ودورها الأهم تنشئة أبنائها، قد يكون لها دور وعمل آخر هام في الحياة، غير أن ذلك يأتي بعد أن تكمل مهمتها الأساسية في بيتها)".

وتصف الدكتورة نورة السعد خطوة افتتاح الجمعيات الخيرية، بقولها:"انتقلت الأميرة عفت بنشاطها إلى العمل التطوعي الخيري النسائي وهي تدرك أنها القناة القوية لاستثمار الحس الإيماني لدى النساء فيما يعود بالنفع لقطاعات المجتمع المختلفة.. فكانت الرئيسة الفخرية للجمعية الخيرية النسوية بجدة، ومؤسسة جمعية النهضة الخيرية النسوية في الرياض، ثم واصلت نشاطها التوعوي المثقف هنا وهناك. أمّا من الجانب التطوعي النسائي فجمعية النهضة الخيرية النسوية في الرياض بتميز نشاطاتها وفعالية مشاريعها تظل باباً للخير لن يغلق بعد أن فتحته عفت منذ زمن بعيد". (9)

وتقول المدير العام للإشراف الاجتماعي النسائي في منطقة مكة المكرمة نورة آل الشيخ: «كانت الملكة عفت الثنيان حرم الملك فيصل بن عبدالعزيز ـ رحمهما الله ـ أول سعودية تعمل بشكل إيجابي في التنمية الاجتماعية الوطنية الشاملة، وذلك عبر إنشائها أول جمعية خيرية، إضافة إلى تطويرها لعمل الجمعيات الخيرية السعودية». (10)

كل تلك المجهودات كانت لتقديم رسالتها التي اختصرتها الأستاذة حصة الشعيبي بأنها: "تنمية قدرات المرأة وتوجيهها بما يتلاءم وتعاليم الشريعة الإسلامية، وتنظيم نشاطها الخيري الاجتماعي من خلال أسلوب  العمل التطوعي المتطوّر للمساهمة الفاعلة في تحقيق أهداف خطط التنمية الوطنية في المملكة العربية السعودية". (11)

 للأعلى

 

دعمها للحركة التعليمية النسائية في المملكة

عندما يكون الهدف سامياً لتحقيق مصلحة عامة تتجاوز النجاح الشخصي بنطاقه المحدود، نجد عفت وأهدافها خير نموذج على ذلك، فيد عطائها امتدت لدعم حركة التعليم النسائي وصروحه، وبتجرد أفصحت عن رؤيتها قائلة:

 

" كل أم تقريباً ترغب بإلحاق ابنتها بدار الحنان.. لماذا؟، دار الحنان لايمكنها استيعاب كل هذه الأمة، كما أنه من الواجب تشجيع المدارس الأخرى أيضاً، فهنا علم وهناك علم، وأنا لست أنانية لأقول مدرستي هي الأفضل "

عفت الثنيان (8)

 

كما كانت علاقتها وثيقة بكليات البنات، وعن تلك العلاقة تقول الأميرة لطيفة:

"بطلب من الرئيس العام لتعليم البنات كان لوالدتي إشراف مباشر على كلية التربية للبنات في الرياض، وأذكر أنها كانت تقيم لطالبات الكلية كل عام حفلاً في بستانها، كما أنها عندما علمت عن عدم وجود أجهزة تلفاز في الكلية أمرت مباشرة بشراء الأجهزة على نفقتها، وطالبت بإتاحة الفرصة لطالبات السكن الداخلي بمتابعة البث التلفزيوني، فواجهتها بعض الاعتراضات، غير أنها دافعت عن رأيها معتبرة أنه طالما في بلدنا ومنازلنا تلفزيون فهو حق لطالبات السكن الداخلي أن يتوفر لهن ذلك".

 للأعلى

 

علاقتها بالإعلام

مَن يبحث عن الأميرة عفت في أرشيف الإعلام المحلي أو العربي أو العالمي يجد أعمالها حاضرة، غير أنها لم تكن تستجيب لإجراء الحوارات الصحفية الخاصة، وبالرغم من كل هذا التاريخ الحافل بالإنجازات، حصرت اللقاءات التي أُجريت معها فكانت لا تتجاوز عدد أصابع يدي، عوضاً عن أن أغلبها كان لبناتها من طالبات جمعية الصحافة بدار الحنان، ونشر في مجلة المدرسة فقط.

ووجدت الأميرة لولوة تتلقى سؤالي وتفتح بإجابتها صفحة من تاريخ المملكة، تقرأ منها سطوراً وتكشف من بين حروفها عن الكثير فتقول:

"لا يمكن أن أجيب عن السؤال إلاَّ إذا وضعته في سياقه التاريخي والاجتماعي، فوالدتي كانت جزءاً من مجتمع تحمل طباعه وتتصف بصفاته، وفي مفهومنا المتوارث يعدُّ من العيب أن يتحدث الإنسان عن نفسه وعن إنجازاته. لذلك كانت والدتي تؤمن بدور الإعلام في الإعلان عن المنجز وليس عن الشخص الذي أنجزه. وعلينا أن ندرك أن كل جيل والدتي، بل ومنذ زمن الملك عبدالعزيز كان الرجال والنساء يحملون هذه القناعة، مبتعدين عن بؤرة الضوء، ومنشغلين بهاجسهم في البناء وتحقيق النتائج بصمت".

وتباغتني قائلة:" دعيني أسألك لماذا كل العالم من حولنا اليوم يسأل ويتساءل عن المملكة العربية السعودية؟ ".

بادلتها السؤال بسؤال وأنا استعجل الإجابة:" لماذا؟".

فأجابت:"لأن كلاً من آبائنا وأجدادنا في المملكة كان يعمل من أجل الناس، ويحتسب عمله لوجه الله. لم يكن أحد يضع في حسبانه الدور الذي ستلعبه لاحقاً الآلة والهالة الإعلامية. وهذا الأمر يصعب على الغرب تحديداً استيعابه، فلا يجد أمامه إلاَّ صورة غامضة بجانبها مساحة كبيرة فارغة تتسع لينسج الخيال على أرضها تزييفاً أو بعداً عن الواقع، خاصة فيما يتعلق بالمرأة ودورها الهام في مجتمعنا، وكفاحها إلى جانب الرجل في سبيل نهضة وطنها". 

بادرتها بسؤالي:"هل ترى الأميرة لولوة الضوء في نهاية النفق الإعلامي؟".

أجابت:"نعم، أعتقد بأن مجتمعنا بات في طريقه لتجاوز هذا الأمر تدريجياً، مدركاً أن الإعلام لم يعد يعني البحث عن شهرة معيبة، فعندما يتعلّق الأمر بتاريخنا وقضايانا وبحقائق لابد من أن يعلمها العالم عنا علينا أن ندوِّن ونوِّثق ونعلن".

 

وإن كان الإعلام لغة تواصل، فحبال الوصل لم تكن تنقطع بين عفت وبناتها التي تختصر المسافة عندما يعز اللقاء، وتصف هذه العلاقة بقولها:

 

(حين لا أستطيع اللقاء ببناتي الطالبات، يكتبن لي وأرد على رسائلهن بخط يدي، وبقدر ما تساعدني لغتي العربية التي لم أدرسها، ولكني تعلّمتها بالممارسة والكلام وقراءة القرآن.. قلت إنني أحرص على الرد على طالباتي بخط يدي حتى لا يشعرن بالإهمال، وهناك من يساعدني على ذلك)

عفت الثنيان (12)

 

بكلمة واحدة طلبت من ابنتيها اللؤلؤة واللطيفة أن تصفاها فاتفقتا على كلمة (الأم).

وقد كان ذلك مثاراً لإعجابي، وتعجبي فلم تكن الكلمة (أمي) بل كانت (الأم). هذه الكلمة الجامعة التي لا تظلل بناتها فحسب، بل تعبّر عن دور مارسته الأميرة عفت الثنيان ـ رحمها الله ـ في حياة كل امرأة سعودية وجدت طريقها إلى التعليم. كانت باختصار الأم للتعليم النسائي في المملكة منذ أن حملته في أحشائها جنيناً حتى ودّعته في كنف بناتها وأبنائها يافعاً.

 للأعلى


(3) رحيلها

رحلت الأميرة عفت في يوم الخميس الحادي عشر من ذي القعدة 1420هـ، وودعتها كل القلوب التي امتلكتها ورثتها.


(4) من رسائل الرثاء

 

من مقال "رسالة إلى أمي"

بقلم: تركي الفيصل

أمي الحبيبة: 

أحمد الله أنكِ عدتِ إلى ربك راضية مرضية، ونفسك مطمئنة، كيف لا.. فعندما سألتك الطبيبة كيف اتّخذت القرار بإجراء العملية بهذه السرعة؟.. قلتِ لها: "ألم تقترحي أنت إجراء العملية؟.. أنا يا ابنتي لا أخاف الموت". 

أمي الحبيبة: 

لقد كنتِ مطمئنة طوال حياتك، واطمئنانك وهبَ لكِ محبة الآخرين واحترامهم. 

نعم يا أمي،كان اطمئنانك بإيمانك بالله ركيزة حياتك حتى في أحلك الظروف، كنتِ دوحة للاطمئنان، يتظلل بظلها مَن ينشدك، ولا أنسى ذلك اليوم المفجع عندما أتيت لك لأبلغك وفاة زوجك وأنا في حيرة كيف أصوغ الكلمات، وقلت لك: أنه ـ رحمه الله ـ أُصيب  بطلق ناري، ونقل إلى المستشفى، فهل بكيتِ؟هل صحتِ؟هل فقدتِ وعيك؟.. لا والله، بل قفزتِ من فراشكِ، وأخذت رداءكِ وقلت لي: بل قُتل زوجي، هيا خذني لزوجي. 

هكذا كنتِ يا أمي، ولن أنسى ما أوصيت به أبناءك وبناتك وأحفادك، في آخر لقاء لك معهم، عندما قلت لهم:"يا أبنائي وبناتي لا تبعدوا عن بعضكم، اسألوا عن بعضكم، قرّبوا صغاركم لكم، لا تسيئوا لأحد، ولا تظلموا أحداً، حبِّبوا الناس فيكم".. وبإذن الله يا أمي إننا لفاعلون. 

أمي، لقد تركت دار الفناء واسمك على كل لسان، يدعو لك الصغير والكبير، والفتاة والعجوز. ذهبت إلى دار البقاء، ورجعت إلى ربك، وعدت إلى زوجك ورفيق دربك، فهنيئاً لك ما تنعمين به الآن، وسعيداً مَن تظلل بظلالك. (3)

 

من مقال "أعظم امرأة عرفتها في حياتي"

بقلم/ ريم بنت سعود الفيصل

((لا تنسوني)) كانت آخر جملة تركتها في ذاكرتي لأعد نفسي وإياها بذلك.. 

عندما فقدتها فقدت جزءًا من روحي، ولكن بالمقابل اكتسبت جزءًا منها..

كل ما نستطيع أن نفعله الآن هو أن نقتدي بها، وأن نعلّم أطفالنا كل ما علَّمتنا عن الحياة: الحب والعطاء والعائلة.

على الرغم من أنه صعب أن نفقد شخصاً نحبه ونحتاجه، أعتقد أن جميعنا نعلم بأننا لم نفقدها تماماً؛ لأنها تعيش في داخلنا من خلال ما اكتسبناه من حكمتها والحب والعطف الذي كنته لنا.

لقد أنعم الله عليَّ بعِشرتها ووجودها في أدق التفاصيل، ما يجعلني أشعر بأنني محظوظة.. لكن في الوقت نفسه يشعرني بالشديد من الأسى والحزن لأني ـ إن مد الله في عمري ـ لن أستطيع أن أشارك أطفالي الذين لم يولدوا بعد في تجربة معرفتها مهما بذلت من جهد لأنقل شخصيتها إليهم. (4)

 

من مقال: "مدارس دار الحنان"

 السيدة فائزة كيال

عفت الثنيان: يا أمنا الأوفى والأكرم والأبقى ما بقيت دار الحنان.

الأميرة عفت الثنيان ـ حرم المغفور له بإذن الله ـ الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود (رحمهما الله) هذه الشخصية الفذة في تاريخ نهضة هذا الوطن العزيز ما تزال بيننا ولا حاجة لبرهان، فمواكب أمجادها، وعظات ماضيها تتراءى لكل المنصفين الصادقين اليوم. أمجادها التي ظللتها رايتها فذاع اسمها، وملأت شهرتها محافل البر في بلادنا، فغدت سلطانته بعد أن تصدّرت الريادة في قضية تعليم البنات لإيمانها أنها قضية حق مناصرتها منذ البداية رغم وعورة الطريق الذي لم ينل من عزيمتها شيئا، فشيدت ورعت قلاع العلم والعمل لها (مدارس وجمعيات) لتكون الفتاة شريكة الرجل في صناعة التنمية. منبع عطاء، ومعقل كرامة، ومنارة حق.

أما عن عطائها.. فكأني بها تذكرنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان كالحياء والصبر). وبالصبر والمحبة تتحقق نهضة البلاد، وتكتمل مسيرة التنمية. (13)

 

من مقال "عفت الثنيان.. غيمة ماطرة ورسالة حب للوطن"

الدكتورة: نورة خالد السعد                               

الأميرة عفت الثنيان- يرحمها الله- لم تكن امرأة عادية. فقد تركت بصماتها في كل موقع ريادي للمرأة في الوطن منذ البدايات.

كانت زوجة الحاكم، وأم أولاده وبناته، وفي الوقت نفسه كانت أمًّا وأختًا لبنات ونساء الوطن.. تميزت مدرستها التربوية بالجدية، وبناء الذات مع الاستقامة والخوف من الله والتواضع.. كل مَن يعرفها يدرك جيدًا ماذا تركت هذه المرأة المتميزة من بصمات شخصيتها سواء على صفات أبنائها وبناتها أو في المواقع التنموية المضيئة التي رعتها.

كانت - رحمها الله- امرأة العهود المتداخلة، وبجديتها حققت إنجازات تربوية واجتماعية وعلمية وثقافية رائدة بكل ما تعنيه هذه الكلمة.

كانت تحلم بتعلم المرأة، فكانت مدرسة دار الحنان. وكانت تحلم بالتعليم المهني للفتيات، فكان مركز دار الحنان للتعليم الفني الذي حقق نجاحات متميزة ولا يزال. وكانت تحلم بالتعليم العالي المتخصص، فكانت (كلية عفت الأهلية للبنات في جدة) آخر ما غرسته يداها قبل الرحيل.

كانت امرأة تسبق عهدها وزمنها، وما تركته من منجزات ستبقى خالدة ما بقي الإخلاص في نفوس مَن رعتهم إنجازات الأميرة عفت الأم، والأخت والرائدة، وزوجة الحاكم.

كانت قضية الأميرة عفت الثنيان هي( ابنة الوطن)، ولهذا سكنت مشاعر ابنة الوطن في حياتها وبعد وفاتها، واحتلت عقل وفكر بنات هذا الوطن ممّن تخرجن في مدرسة دار الحنان، أو ارتبطن بمنجزاتها هنا وهناك. فقد كانت غيمة ماطرة، ورسالة حب لا تنتهي.. فإلى جنة الخلد ـ إن شاء الله ـ يا صاحبة السمو يا عفت الخير والعطاء. (9)

 

 من مقال "المرأة التي لن ينساها التاريخ"

بقلم: الجوهرة محمد العنقري

لست هنا لأعدد ما قامت به وأسسته، ولكن أود أن أشير إلى نقطة هامة، وهي إشرافها ومتابعتها لكل التفاصيل من العمل، وحرصها على استمرار كل ما قامت به سواء في مدارس أو جمعيات بدون أن يتذبذب مستواها، أو يقل، أو حتى يتوقف.. عطاؤها استمر وهي في أصعب الظروف من المرض. وفي آخر زيارة رأيتها فيها في مدينة جدة ملأتني السعادة وأنا أسمعها وهي تتحدث عن كلية عفت للبنات بكل حماس.. عندها حدثت نفسي.. نعم.. هذه صفات الإنسان المحارب.. واليوم تلقي سلاحها.. 

نفقدها من حياتنا، ولكننا أبداً لن ننساها، فما تركته بعدها سيتحدث عنها، ويدل عليها حاضراً ومستقبلاً، وليرحم الله عفت. (14)

 

من مقال "الأميرة عفت رائدة التعليم الأولى"

بقلم: فاتن اليافي

لقد فقد التعليم الأول للفتاة السعودية رائدة من رائدات العلم في بلادنا.

إن المصاب عظيم.. وقد فقدنا الأميرة عفت الإنسانة التي كانت لا تألو جهدًا في دعم مسيرة المرأة السعودية، وفي دفع عجلة التعليم قُدمًا منذ البداية وفي وقت كان التعليم للإناث رسميًّا معتمدًا على الكتاتيب وبعض المدارس الأهلية. وقد كنت طالبة في مدرسة دار الحنان منذ الحضانة وحتى أنهيت المرحلة الثانوية، حيث تلقيت التعليم والتربية في مدرسة رعتها الأميرة عفت، وجعلت منها صرحًا تعليميًّا وتربويًّا شامخًا.

إننا لا نملك إلاَّ الدعاء للفقيدة بالرحمة ولأبنائها أصحاب السمو الملكي الأمراء، وزوجاتهم، وأبنائهم، وإلى الكريمات صاحبات السمو الملكي الأميرات سارة الفيصل، لطيفة الفيصل، لولوة الفيصل، هيفاء الفيصل، وأبنائهن وأزواجهن. (11)

 

من مقال "بناتنا والحدث"

بقلم: أميمة بنت مساعد بن أحمد السديري

كلٌّ منا فقد حبيبًا.. أمًا.. أبًا.. أو حتى ابنًا..

كلنا جربنا الفجيعة.. ومنا ـ نحن الراشدين ـ من يحسن التعامل معها.. ومنا مَن تخونه نفسه.. فإذا ما تعامل الصغير معها.. فحتمًا إن ميزاته عالية.. وهذه الميزات تنبع من بيئة صحيحة..  مدرسة مربية.. ومقومات شخصية.

فما لمسته من طالبات دار الحنان يوم السبت الماضي الموافق 13\11\1420هـ يفوق كل الوصف.. ويثبت بأن دار الحنان لا تلقن فقط!!

عندما أذيع نبأ فقدان راعية دارنا سمو الأميرة عفت في طوابير الصباح لهذا اليوم كانت الطالبات على قدر الحدث بكل معاني الكلمة..

وعندما أقيمت صلاة الغائب انتظمت الصفوف بحب وولاء..

و فاق كل ذلك.. سعيهن لإنزال النعي في جريدة (عكاظ)، وإصرارهن أن يكون يوم الأحد بلا تأخير.. جمعوا مبالغ من المال في ظرف ساعة الفسحة في مشهد لا يُنسى.. حتى أن معظم الطالبات تنازلن بطيب خاطر عن مصروفهن.. وكم كان منظرهن مؤثرًا وهن يحتسبن الريالات مفترشات الأرض.. وكم كان موقف يدعو إلى الفخر والإعجاب وهن يترددن على مكاتب المدرسة لإيجاد مَن يساعدهن للوصول للجريدة.. ومن يصحح لهن عباراتهن، ومن يستأذن لهن الإدارة..

والأروع من ذلك كله.. موقف الإدارة وهي تراقب كل ذلك بصمت وبلا تدخل مباشر.. بالرغم من استطاعتها حل الموضوع بدقائق إلاَّ أنها تعمدت ذلك..

وأثبتت دار الحنان فعلاً أنها تربي أجيالاً.. وإن كل ما تغرسه ستستنشق عبيره يومًا ما.. كيف يمر هذا الموقف دون أن يترك أثره في نفوسنا؛ لأن أكبر آفة يُبتلى فيها المجتمع من الأجيال الجديدة هي آفة الجحود التي غابت عن دارنا تمامًا لمن تستحق أن لا ننساها أبدًا ونكون من الجاحدين لو لم نفعل شيئًا.

فكيف بعد ذلك نعتبر دار الحنان مدرسة مثل كل المدارس؟؟

كيف نعتبرها داراً تقبع الطالبات في فصولها تحشي عقولهن؟؟ (15)

 

من مقال "الأميرة عفت.. أنموذج المرأة الصالحة"

سلطانة عبد العزيز السديري

رحلت الأم الفاضلة، والإنسانة الكريمة حرم ـ المغفور له بإذن الله ـ الملك فيصل بن عبد العزيز التي يشعر بها كل مَن عرفها عن كثب بالأسى والألم لرحيلها. فهي رفيقة الدرب خمسة وأربعين عامًا للملك فيصل قبل وفاته، فكانت له الزوجة، والأخت، والصديق، والأم التي غرست التربية الفاضلة في نفوس أبنائها وبناتها، وعلمتهم حب العلم والمعرفة. وقد كان لي شرف لقائها أوقاتاً طويلة من خلالها عرفت شخصية هذه المرأة الحكيمة الفاضلة والتي تجمع في شخصيتها حزم المربية ورأفة الأم.. وكل من يعرف أم محمد الفيصل يعلم ما قدمته للمرأة السعودية، فهي صاحبة مدرسة دار الحنان في جدة، وهي المشجعة لابنتها صاحبة السمو الملكي الأميرة سارة الفيصل التي واصلت السعي في سبيل توعية المرأة من خلال جمعية النهضة الخيرية النسائية، وصاحبة مدرسة التربية الإسلامية.. إن أم محمد الفيصل التي مضت إلى رحاب الله ستبقى في أذهان الكثيرين مثلاً طيبًا للمرأة الصالحة، وسيبقى أبناؤها الكرام، وبناتها الكريمات أفضل الشواهد على حسن خلقها وتربيتها.. رحم الله أم محمد، وغفر الله لها، وأسكنها مساكن الأبرار من عباده المؤمنين. (11)

 

من مقال "(عفت) فقيدة النهضة النسائية"

سعاد الجفالي

فقدناها ـ رحمها الله ـ فقدنا أميرة العز والعلم والمعرفة والحنان ومكارم الأخلاق. فقدنا الأم العظيمة التي أنجبت وأنشأت هذه الكوكبة الرائعة من الأميرات والأمراء أبنائها وبناتها الغر الميامين. فقدنا رائدة النهضة النسائية في هذه المملكة العزيزة. فقدنا الأم التي شملت بحنانها القاصي والداني مثالاً للحدب على الضعيف والمحتاج.. فقدناها ووقف ذلك القلب الكبير الذي شملنا بعطفه ورعايته وحنانه علينا في كل موقف وكأننا جميعًا أبناؤها وبناتها. كانت مرجعًا للمحتاج، وموئلاً لطالب العون.. حياة حافلة بعمل الخير والبناء، وحب الخير، وأسمى العطاء.

فقدناها وفقدنا ذاك الوجه الصبوح يستقبلنا كلما قصدناها.. وما أكثر ما قصدناها في كل أمر؛ لتضفي علينا من كرم اللقاء، وكرامة الزيادة ما يملؤنا سعادة وأملاً.

فقدناها وفقدتها النهضة النسائية في البلاد التي أرست قواعدها لتستمر بعدها. فقدناها وفقدتها البلاد قوة دافعة نهضوية رائعة كانت تعرف ما تحتاجه أمتها، وكانت تعرف ما تستطيع عمله فلا يثنيها عنه عائق. وستبقى هذه الصروح التي أسستها وأعطتها إكسير الحياة لتحمل للأجيال ذكرى الأميرة العظيمة ومربية الأجيال.

نبكيها ونفتقدها أبدًا، وستظل ذكراها معنا مادام للذكرى مكان. (16)


المراجع
(1) مسيرة الملكة عفت الثنيان – بقلم السيدة فائزة كيال – الكتاب السنوي 1425هـ - 2004م
(2) مجلة المجالس ـ العدد 673 ـ 19/5/1984م
(3) الشرق الأوسط ـ العدد 7762 ـ 28/فبراير/2000م ـ مقال (رسالة إلى أمي)
(4) الشرق الأوسط ـ العدد 7770 ـ 7/ مارس/ 2000م ـ من مقال (أعظم امرأة عرفتها في حياتي)
(5) الرياض – العدد 11565 – 22/فبراير/2000م – مقال (عفت الثنيان.. غيمة ماطرة ورسالة حب للوطن)
(6) الشرق الأوسط – العدد 7762 -  28/فبراير/2000م – مقال (رسالة إلى أمي)
(7) الندوة – العدد 12570 - 2/مارس/2000م مقال (وماتت ملكة القلوب)
(8) من لقاء في بحث عن أسبوع الكتاب بدار الحنان – أول ثانوي أ – أسبوع الكتاب الحادي عشر عام 1404هـ 1984م
(9) الرياض – العدد 11565 – 22/فبراير/2000م - من مقال (عفت الثنيان.. غيمة ماطرة ورسالة حب للوطن)
(10) صحيفة الحياة 1/4/2007
(11) الجزيرة – العدد 10007 – 21/فبراير/2000م
(12) لقاء بمجلة المجلة
(13) عكاظ - بتاريخ الأحد 21 صفر 1425هـ
(14) الجزيرة – 20/ فبراير/2000م – العدد 10006 
(15) عكاظ - العدد 12232- 22/فبراير/2000م
(16) عكاظ - العدد 12250 - 11/مارس/2000م