في يوبيلك الذهبي

دار الحنان، نفتقدك.. نذكرك.. ونرثيك

رانية سليمان سلامة

 للمرة الأولى من نصف قرن مضى ستشرق الشمس على صباح الدراسة دون أن يلتقي نورها بنور صرح علم لطالما شعّ وبان، لن يضيء اليوم النشيد بدار الحنان، ولن يهتف بالسعد قلب الوجود، ولن يشدو الزمان بذلك العهد السعيد الذي سما بالفتاة يوماً لأفق الصعود... وسيصدح نداء العلم على كل منارة تعليمية ليقبل طالبوه ملبين النداء غير أن الصمت سيخيم على أرجاء المنارة التعليمية النسوية الأولى وعلى الرمز الذي أَذِن تأسيسه بانطلاق مسيرة تعليم الفتاة السعودية في عام 1375هـ... ببساطة لن يمشي طابور الصباح في الحنان سوى ولن تسير الطالبات معاً في رحاب الوفا قاطعين على أنفسهن العهد ليرفعن أوطانهن للسما ويسمون بها نحو فجر جديد.

قد يكون رثائي كئيباً لدارنا وهي تغيب عن الساحة التعليمية التي كانت رائدتها وعميدتها، وقد يكون حزني كبيراً حتى خانتني الكلمات فاستعنتُ هنا وهناك بكلمات نشيد دار الحنان، وقد يزداد الحزن عمقاً وأنا أتذكر أن إغلاقها يوافق يوبيلها الذهبي فلا نملك سوى أن نرثيها بدلاً من أن نتوجها بالأوسمة ونسجل لها العرفان لتختال بعد 50 عاما من العطاء في ثوب مرصع بإنجازات خريجاتها وتزهو ببصمتها الخالدة التي تركتها على حياة المرأة السعودية... غير أن كل ذلك الحزن لن يرتقي لحجم الألم الذي عشته وحملته لي الأصوات المتعثرة بالعبرات من خريجات ومعلمات وإداريات تلك الدار خلال الأيام الماضية عندما حاولت ملامسة الجرح وإيقاظ الذكرى لإعداد ملف الكتروني يُوثق مسيرة المدرسة الأم على شبكة الإنترنت ويُصلح ما أفسده الزمان لعل وعسى يكون لبناتها دور في إعادة بناء لبناتها.

ولابد أن السؤال يطرح نفسه: لماذا يخيم علينا كل هذا الحزن ويسكننا الانتماء لها حتى النخاع؟ تلك الإجابة تعرفها قلوبنا وتعجز حتماً هذه المساحة عن استيعابها لطولها ولو أردت اختصارها لقلت لأنها المدرسة التي لم تكتفِ بتعليمنا أبجديات اللغة والعلوم فحسب بل علمتنا أبجديات الحياة وجعلتنا نخوض التجارب التي كلما نضجنا ندرك أثرها في رسم ملامح شخصياتنا... وستبقى دار الحنان عبرة تستحق أن يكون لنا معها وقفة أسجلها لها وللتاريخ الذي يتعطر بذكرها.

لقد علمتنا أن المواهب كنوز تستحق البحث والتنقيب عنها بإضافتها لبرنامج اليوم الطويل الذي أتاح لطالباتها أسبوعياً الانخراط في أكثر من 30 جمعية دينية واجتماعية وعلمية وأدبية وفنية وإعلامية ورياضية تكتشف المواهب وتصقلها وتفتح لها مجال التحليق والإبداع... هل ذكرت فيما ذكرت الرياضية؟ نعم، فقد عرفت دار الحنان وملاعبها المكشوفة والمغطاة الأنشطة والمباريات الرياضية بمختلف أنواعها بين طالباتها منذ عام 1386هـ إلى أن شاءت أن تودعهن بتجربة ناجحة تؤكد أن العقل السليم لا يستقيم إلا في الجسم السليم.

خضنا معها التجربة الانتخابية المثيرة ومارسناها سنوياً منذ عام 1392هـ في عملية انتخاب الفتاة المثالية وفق أسس وضوابط ومراحل مشوقة تشعل روح التنافس وما شعرنا يوماً عند إعلان النتيجة إلا بالفخر لكوننا أصحاب القرار في ترجيح كفة تلك الانتخابات النزيهة وأدركنا أن الأهمية لا تنحصر في من تحصل على اللقب بقدر ما هي في الدرس الذي استقيناه من التجربة.

وأبت أن نطرق أبواب الجامعات قبل أن نتعلم أسس البحث العلمي. ونطبقها سنوياً في الأسبوع الثقافي الذي كانت سباقة باعتماده منذ عام 1391هـ لنقدم أبحاثاً فردية وجماعية في مختلف المواضيع والقضايا متكفلين بمناقشة موضوع البحث مع المشرفة وجمع المراجع وإحسان قراءتها وتحليل معلوماتها لتكوين الرأي الشخصي وصياغته وتدوينه حتى نصل إلى مرحلة تصميم البحث ومتابعة تغليفه وطباعته ليطرح بعدها للعرض في معرض الكتاب ويخضع للتقييم في مسابقة البحوث السنوية.

وقبلنا التحدي في يوم الطالبة الذي دأبت على إقامته سنوياً لنتسلم زمام أمور المدرسة ليوم كامل نتبادل فيه الأدوار والمسؤوليات مع معلماتنا وإدارياتنا وحتى عاملات النظافة بينما تجلس كل أولئك الرائعات على مقاعدنا لرصد تجربتنا ومشاهدة أنفسهن في مرآة بناتهن المتقمصات لشخصياتهن والقائمات بمهامهن برحابة صدر كنا نستغربها آنذاك بينما ندرك اليوم أنها كانت تجربة محسوبة بدقة وتحمل بين طياتها من الحكم ما يتجاوز كسر الروتين.

كما احتضنت جنبات الدار الفرق الكشفية منذ عام 1388هـ فعايشنا معها حياة المعسكرات وتعلمنا النظام وتأهلنا لمواجهة الظروف الطارئة وممارسة العمل التطوعي والاحتكاك بمختلف الثقافات.

وتعلمنا اللغات الإنجليزية والفرنسية منذ المرحلة الابتدائية فما طغت ولا بغت على العربية التي ازدادت ملامحها جمالاً بأعيننا مع مسابقات الخطابة وقرض الشعر وحفظ القرآن وتبيان إعجازه اللغوي.

كان ذلك جزءاً يسيراً من تجارب فريدة كانت تحيطنا بها دار الحنان كل يوم قبل أن تعلن رحيلها وتتركنا نرثيها، غير أن العزاء وجدته أخيراً بين يدي في قائمة تضم ما يقارب 3000 اسم لامرأة وفتاة سعودية هن الخريجات اللواتي أهدتهن الدار للوطن بعد أن منحتهن من العلم الضمان، ولم أتعجب وأنا أجد بينهن من النخب والرموز الكثيرات ممن نلن فخراً بالانتساب لدار الحنان وواصلن قدماً مشوارهن حتى العنان، مؤكدين أن دارهن لم تكن سوى درب للتي تنشد العليا مكاناً... وتبقى ذكرى دار الحنان التي سبقت عصرها وزمانها في العلا محفورة وفوق هامات الزمان محفوظة.
 



* مع الاعتذار لكلمات نشيد دار الحنان التي عبثت بها في مقالي ومع الشكر للسيدة فايزة كيال التي زودتني بتواريخ انطلاق بعض أنشطة الدار.

* رئيسة تحرير مجلة (عربيات) الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ