السيارة ارتاحت

مقال - كليب 2

رانية سليمان سلامة

* بينما كان الدكتور أبوعبدالله وزوجته في طريقهما إلى المنزل انشغلا بالحديث عن المخالفات المرورية والسرعة الجنونية التي تجتاح الشوارع فقال أبوعبدالله: "المشكلة هي أن يعتقد السائق أنه يقود طائرة لا سيارة فيقلع بطائرته ولا يهمه إن هبط بها على أرواح الآخرين".. ضحكت أم عبدالله وقالت مصححة لزوجها تفسيره للظاهرة: "كل ما هنالك أن بعض قائدي السيارات يجتاحهم الإحساس بالوطنية أثناء قيادة السيارة فيشعرون بأن الوطن ملكاً لهم وبالتالي فالشارع ملكاً لهم يسيرون فيه وفقاً لما يمليه عليه مزاجهم"... وأشارت بإصبعها إلى إحدى السيارات التي خرجت من تقاطع صغير إلى عرض الطريق عاكسة الاتجاه قائلة: "انظر هناك!!.. هذا نموذج" وقبل أن تكمل, وقبل أن يعلق الدكتور على نظريتها كان كلاهما قد فقد الوعي على إثر ماذكره لهما لاحقاً أحد حضور المشهد المخيف.

* لقد اصطدمت بهما سيارة مسرعة من الخلف ودفعت بسيارتهما إلى الارتطام بصاحب السيارة التي كانت أم عبدالله تراقبها وهي تعكس الطريق... ونجا الاثنان بمشيئة الله من موت محقق فنتجت عن الحادث إصابات قابلة للعلاج وأراد الشخص الذي أسعفهما أن يهون الأمر على أبوعبدالله في المستشفى فقال: "الحمد لله على سلامتكما, في الحديد ولا فيكم"، اتسعت حدقتا أبوعبدالله وهو يسأل الرجل: "ماذا تقصد؟ ماذا حدث للسيارة؟".. نظر إليه الرجل مشفقاً وتركه وغادر ولسان حاله يقول هذا المسكين لازال يذكر السيارة التي أصبحت قطع حديد متفرقة بلا ملامح على قارعة الطريق.

* تحسنت أحوال الدكتور وزوجته الصحية وبدأ يتابع إجراءات المرور التي طمأنته على أنه سيحصل على تعويض لإصلاح السيارة التي اشتراها من "تحويشة العمر" بعد عودته من اغتراب طويل للحصول على شهادة الدكتوراه, وبالفعل حصل على التعويض.. ولكن, رحلة أخرى شاقة بدأت مع مسلسل إصلاح الحديد الذي استعاد بعض ملامحه القديمة إلا أن المتاعب لم تنته مع أعطال يومية متواصلة.

* أصبح من ضمن برنامج الدكتور اليومي أن يمر بالسيارة على إحدى الورش عندما يغادر عمله فيتركها حيناً عند "جاويد" الذي يؤكد بأن "البلف" بحاجة للتغيير, ويستلمها لتتعطل من جديد ويتجه إلى "هريدي" الذي يبلغه أن "الباكم" عطلان فيتصل بـجاويد ويقول له: "لماذا لم تخبرني بأن المشكلة في الباكم لا في البلف؟", ويتساءل "جاويد" باستغراب عن ماهية هذا الباكم الذي يتحدث الدكتور عنه ويفقد أبوعبدالله أعصابه صارخاً: "أنت لا تفهم في السيارات قلت لكم الباكم عطلان" ويقطع الاتصال وهو بينه وبين نفسه يعلم أنه شخصياً لا يعرف الباكم من البلف ولا غيرهما من القطع التي تختلف مسمياتها باختلاف جنسية العامل.

* لم يعد لدى أبوعبدالله موضوع للحوار مع أصدقائه سوى السيارة وأعطالها بعد الحادث الأليم فأراد أحدهم مساعدته مؤكداً أنه عانى معاناة مشابهة وقدم له النصيحة قائلاً: "اسمع مني، السيارة بحاجة إلى "تربيط", اذهب بها إلى العنوان التالي ستجد متخصصين في التربيط"... اتبع الدكتور نصيحة صديقه وذهب في اليوم التالي ليضع السيارة بين أيدي المتخصصين وأراد أن يستفسر منهم عن ماهية عملية التربيط المذكورة فاكتشف بأن "المتخصص" لا يجيد العربية ولا الانجليزية وبعد معاناة مع لغة الكلمات المتقاطعة حسم المختص الحديث قائلاً: "السيارة مامرتاحة!!", فتركها الدكتور لأهل الخبرة على أمل أن يستلمها "مرتاحة".

* في المنزل كانت "أم عبدالله" تنتظر زوجها بفارغ الصبر ولكنه عاد إليها بسيارته متجهماً فسألته:"السيارة ارتاحت؟"، أجابها "ربما, ولكن أنا الآن ما مرتاح!!.. سأصطحبك في جولة أخيرة بالسيارة قبل أن أبلغك عن قراري النهائي".

* كانت أولى المفاجآت بالنسبة لأم عبدالله هي الصوت العجيب الذي سمعته بمجرد دخولها إلى السيارة وعندما سألت زوجها عن مصدره قال: "هذا صوت صهيل الأحصنة التي تسكن في المحرك, إنها تعلن عن تشغيل السيارة", والمفاجأة الثانية أن الصوت لم يهدأ بل استمر بعزف سيمفونية تشارك فيها الطبول والدفوف والمزامير, وبعد قليل بدأت السيارة تهتز وترقص على هذه النغمات فصرخت أم عبدالله قائلة: "توقف... توقف, هل نحن في سيارتنا أم في ملاهي جنغل لاند؟".. أجابها الدكتور: "كنت تلومينني دوماً لأنني لم اصطحبك إلى الملاهي. فما رأيك الآن؟... اطلقي العنان لخيالك وتصوري أنك في إحدى تلك الألعاب وحاولي أن تعيشي الأجواء فهي لا تختلف كثيراً خاصة وأن الإثارة متوفرة فالخطر محيط بك من كل اتجاه وأنا بجانبك سأجتهد لتفادي المركبات المشاركة في سباق السيارات، المهم تمسكي جيداً بمقعدك وتحققي من ربط الحزام وأغمضي عينيك عند الحاجة لتتذكري الحادث الذي تعرضنا له"... كان لدى أم عبدالله إجابة واحدة مقتضبة ظلت ترددها، هي: "عد بي إلى المنزل حالاً"... وكان قرار الدكتور الأخير أن يبيع السيارة في الحراج ويبتعد عن الجلوس أمام عجلة القيادة مستفيداً من وسائل المواصلات التي يوفرها له عمله.

* في المشهد الأخير وعلى مائدة العشاء كان الزوج والزوجة يستعيدان ذكرياتهما مع السيارة والحادث إلى أن قطع تلك الذكريات سؤال بريء من أم عبدالله لزوجها: "متى سنشتري سيارة جديدة؟"... تجهم وجه أبوعبدالله وترك الشوكة ورفع السكين قائلاً: "لن يحدث ذلك أبداً إلى أن أطمئن على وجود كاميرات المراقبة وضبط السرعة في جميع شوارعنا, وأشعر أن كل سائق أصبح يحترم قوانين المرور ويلتزم بها وتنتشر حملات التوعية وترتفع غرامات المخالفات المرورية وتطبق على الجميع و... و..."، قاطعته أم عبدالله محاولة امتصاص غضبه ومؤكدة بأن أمنياته ستتحقق وإن كانت لن تحول نهائياً دون وقوع حوادث كالتي تقع يومياً في كل مكان، فاتفق معها واكتفى بطرح سؤال ظل يحاصره دون أن يجد له إجابة: "ماهي مؤهلات العمالة الوافدة التي تعمل في ورش تصليح السيارات؟".

سؤال الدكتور عبدالله جدير بالاهتمام فالمهن الحرفية التي نلجأ لأصحابها يومياً كالسباكة والنجارة والحدادة والكهرباء تتطلب أن يكون أصحابها من خريجي المعاهد أو الملتحقين بدورات متخصصة أو على أقل تقدير خاضعين لاختبارات تثبت أن اجتهاداتهم وخبراتهم تؤهلهم لمزاولة هذه المهنة حتى لا نضطر بعد اللجوء إليهم إلى إحالة الأجهزة والمعدات إلى التقاعد.


* رئيسة تحرير مجلة "عربيات" الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ