الحياة الثانية، عالم افتراضي ثلاثي الأبعاد

حياتك من خيالك

رانية سليمان سلامة

لولا الخيال لما احتملنا الواقع وتغلبنا على قسوة الحياة، مقولة شعرت حيالها للوهلة الأولى بشيء من التحفظ لقناعتي بأننا بالإيمان نحقق ذلك، غير أنني وجدت أن الإيمان والخيال لا يتعارضان بل على العكس الخيال يصبح إيجابياً عندما يقترن بالإيمان وإيماننا قد يترسخ بالخيال.
 
لو لم تكن لنا القدرة على أن نتخيل أنفسنا في مكان ما، بحال أفضل ونحلم بحياة أجمل كيف كنا سنتوجه إلى الله بالدعاء؟ فالدعاء مخ العبادة والخيال هو الوقود الذي يجدد القوى الدافعة بأنفسنا للتوجه إلى الله بالدعاء، ولعلي أعيد صياغة تلك المقولة لتصبح (بالخيال نجمل واقعنا وبالإيمان نحسن الظن في مستقبلنا).
 
خيال الإنسان وأحلام يقظته من الأمور التي تشغل العلماء بل وكانت وراء ظهور فروع متعددة لعلم النفس وتطوير الذات، ومؤخراً صارت السر الذي ترتكز عليه مشاريع حديثة لاقت نجاحاً وإقبالاً واسعاً في فترات قياسية، ومن بينها مشروع الحياة الثانية secondlife.com الذي يعد من أحدث مواليد التقنية.
 
من منا لم يغمض عينيه ويتصور نفسه بشكل مختلف، يعيش حياة اجتماعية صحية وأحداثاً شيقة ويملك المال الكافي لتشييد القصور وشراء كل مايتمنى ويجوب العالم ليستمتع بجماله ويطير بعيداً عن الأشخاص المزعجين ويحقق نجاحاً منقطع النظير؟ «فيلب ليندن» أغمض عينه مثلنا ولكنه فتحها في مختبره بمدينة سان فرانسيسكو ليعلن عن مشروع الحياة الثانية وهي عبارة عن عالم افتراضي ثلاثي الأبعاد على شبكة الإنترنت يقوم على نظرية (حياتك من خيالك) ويتيح اليوم لحوالي 8 ملايين شخص الفرصة للسياحة في عالم من الخيال المجسد أمامهم. الرحلة نحو الحياة الثانية تبدأ بالاشتراك المجاني في البرنامج ثم اختيار الصورة التي تتمناها بالملبس الذي تختاره والاسم الذي تريده حتى تتحول إلى شخصية افتراضية متوافقة مع الحياة الثانية التي تلتقي فيها بأشخاص يجمعهم بك قاسم واحد مشترك هو الرغبة بالهروب من الواقع وتحقيق الأحلام.
 
في العالم الافتراضي أنت تملك كل شيء فلو أعجبتك سيارة على الطريق بوسعك أن تقفز إليها وتقودها أما إذا أردت الاستمتاع بالملكية الخاصة فالمطلوب بعض الدولارات الليندنية (نسبة إلى ليندن) لتختار الأرض التي تتمناها في أي مدينة تهواها وتبدأ بتشييد منزلك كيفما تشاء كما بوسعك أن تشتري جزيرة كاملة لتحمل اسمك وتضم قصرك ومنتجعك ويختك تستضيف فيها زملاءك أو تسمح للزوار بالدخول إليها مقابل بضعة دولارات (ليندنية)، أما إذا أردت أن تقوم بجولة سياحية فكل المطلوب هو أن تختار وجهتك وتطير إليها بضغطة زر.
 
الحياة الثانية تضم كل ما يخطر على بالك من مدن ومنشآت ومتاجر ومطاعم ومزارات سياحية و دور عبادة وعندما بحثت عن وجهات عربية وجدت على رأسها برج العرب وخان الخليلي وغيرهما. والسؤال: هل الحياة الثانية مجرد لعبة أطلقها ليندن للعزف على أوتار المراهقين والهاربين من الواقع؟ هكذا كانت تبدو لي حتى اكتشفت أن الدولار (الليندني) يمكن تحويله إلى دولار حقيقي كما توجد سوق للبورصة حققت للبعض أرباحاً حقيقية ضخمة، والمضحك أن للعالم الافتراضي ميزانيات سنوية ومؤشرات اقتصادية تراعي عدم الوقوع في مأزق التضخم وذلك بوضع سياسات نقدية وقوانين تساعد على التوازن الاقتصادي.
 
ووفقاً لتقرير نشرته bbc فإن الحياة الثانية تحظى باعتراف دبلوماسي فبعض الدول افتتحت سفارات لها في هذا العالم الافتراضي كما أقامت أكثر من 70 جامعة فروعاً لها ويستعد المركز الثقافي البريطاني لافتتاح ثلاث جزر لتعليم اللغة الانجليزية بالإضافة إلى أن أغلب الشركات العالمية والفنادق المعروفة التحقت بالبرنامج ومارست نشاطها التجاري أو السياحي فيه، أما المؤسسات الإعلامية ووكالات الأنباء فشيدت مباني شاهقة منها مبنى رويترز الذي يتكون من 3 طوابق ويمارس موظفوه نفس الدور الذي يمارسونه في الحياة الواقعية حيث يقومون بتغطية أحداث العالم الافتراضي وإجراء اللقاءات مع سكانه بالإضافة إلى عرض أخبار العالم الحقيقي، ويبرر رئيس رويترز هذا التوجه بقوله « نود أن تكون رويترز جزءاً من حياة الجيل الجديد ونعمل على ربط العالم الافتراضي بالعالم الواقعي». كما نظمت bbc وفقاً لمراسلها مهرجانا موسيقياً في الحياة الثانية حظي بحضور 200 ألف شخص وبثت أفلاماً خاصة في دور السينما الافتراضية، أما قناة (سكاي نيوز) فاشترت جزيرة خاصة وشيدت مقرها بمواصفات مطابقة لاستوديوهاتها في الواقع.

لا يسعني بعد جولة سريعة في الحياة الثانية وجولة أخرى من القراءة عنها إلا أن أقول الفكرة عبقرية ولكن الإقبال عليها إلى هذا الحد يبدو لي مؤشراً سلبياً للغاية فهي ليست مجرد لعبة بقدر ما قد تكون بداية للغرق في الوهم وبيئة خصبة لإدمان الحياة الافتراضية، وإذا كان سكانها اليوم 8 ملايين أغلبهم من الغرب، ترى لو تم تعريبها كم سيصبح عدد سكانها الهاربين من واقع الحروب والفقر والفساد وقلة الحيلة؟ شخصياً شعرت بعد جولتي أنني كنت في حفلة تنكرية بينما أعتقد أن سكانها الدائمين اختاروا التنكر لحياتهم وإنكار واقعهم.

 

 

رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر : صحيفة عكاظ