مايحرم من النسب يحرم من الرضاع

توثيق الرضاعة

رانية سليمان سلامة

جدي لوالدتي كان متزوجاً من خالتها التي عندما توفيت تزوج بشقيقتها "أم والدتي" وفقاً للعرف الدارج آنذاك، أمي هي كذلك ابنة خال والدي، وخالتها متزوجة من خال والدي الذي هو في نفس الوقت عم والدتي. زوجة خالي هي ابنة عمه وفي نفس الوقت أخت والدي بالرضاعة، وزوج عمتي هو ابن عمتها أما ابن عمه فهو كذلك ابن عمة والدي وأخوه بالرضاعة.


تلك العلاقات المتشابكة ليست من "فوازير رمضان" ولكنها مجرد نموذج مصغر للنسيج الاجتماعي في جدة، وأعتقد أن الأمر سيكون أكثر تعقيدا لو أخذنا عينة من مدن سعودية أخرى في مجتمع كان يتمسك بزواج الأقارب والتآخي بالرضاعة مع المعارف.


إلى ذلك الحد الأمر لايتجاوز عن الحاجة إلى حل معادلة رياضية لتعريف الآخرين عن صلة القرابة التي تربطنا بغيرنا من جانب الأم والأب، وهي عملية لو عدنا لجذورها سنجدها امتدادا للتجربة الإسلامية الناجحة في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وربطهم بقرابة النسب التي كانت احدى لبنات بناء المجتمع الإسلامي الصحي.


أما الرضاعة فلقصتها وجهان، الوجه الأول أخذته من رواية إحدى السيدات المسنات التي تقول إن النساء آنذاك لم يكن هناك مايشغلهن سوى أمور البيت والزوج والأطفال وزيارات يومية يحتضنها "بيت الأسرة الكبير" الذي يضم الجد والابن والحفيد وأسرة كل منهم. تلك التجمعات النسائية كانت وسيلة التسلية الوحيدة للنساء وببساطة شديدة كان السيدات يتبادلن الرضع خلالها للمؤاخاة بينهم، وهنا يبرز السؤال الوجيه عن شرط الإسلام في أن تتم عملية الرضاعة بعلم الزوج، غير أن الأمر أيضاً كان أبسط من ذلك فمحدثتي تقول:" لم يكن أزواجنا يمانعون من ذلك بل على العكس يرحبون به، فالمجتمع كان صغيرا ونحن أساساً لم نكن نلتقي إلا بالأقارب والمعارف الذين لاتوجد مشكلة في المؤاخاة بينهم وبين ابنائنا".


الوجه الآخر للمؤاخاة بالرضاعة أصبحنا نستيقظ عليه اليوم من وقت لآخر في أخبار مفزعة عن أزواج اكتشفوا بعد سنوات من الزواج والإنجاب أنهم إخوة بالرضاعة، وهم في الواقع ضحية لأمرين أولهما أن الرضاعة لم تكن توثق بل كانت تتم ببساطة وتلقائية في مجتمع صغير اكتفى أفراده بتداول الأخبار فيما بينهم وبدأت تبرز المشكلة مع رحيل تلك الأجيال الحافظة لأنساب الرضاعة، أما الأمر الثاني الذي زلزل العديد من العلاقات الزوجية اليوم فهو تضارب الفتاوى حول أحكام الرضاعة خاصة إذا كانت قد تمت بين أشقاء وشقيقات الزوجين الأكبر أو الأصغر وغيرها من الأحوال المعقدة، بالإضافة إلى عدم وجود شاهد على عمر الرضيع الذي اشترط الشرع أن لايكون قد تجاوز الحولين، وعدم وجود موثق لعدد الرضعات التي يفترض أن تكون خمس رضعات مشبعات.


أكاد أشك في أنه لازال بيننا من بوسعه اليوم أن يقدم هذه المعلومات الدقيقة عن وقائع الرضاعة التي تعارف المجتمع عليها في الماضي قبل أن يتم التفريق بين زوجين مشتبه بأمرهما ووضع أبنائهما أمام معضلة تحول الأم إلى عمة والأب إلى خال.


العصر الذي نعيشه لم يعد يحتمل العشوائيات فقد تحول المجتمع الصغير إلى مجتمع كبير فقد جزءا كبيرا من رعيله الأول وارتحل جيل الوسط طلباً للعلم أو الرزق وخرج الجيل الجديد من عباءة زواج الأقارب، ولم يعد من المنطقي الاكتفاء بالاعتماد على الذاكرة لنقل الأخبار وحفظها.


فإذا كنا نعلم أن مايحرم من النسب يحرم من الرضاع، ونؤمن بأن الأحكام الشرعية تحمي اختلاط الأنساب وتساهم في توثيق العلاقات داخل المجتمع الإسلامي، وندرك أننا في كل عصر يجب أن نوفر آليات داعمة للأحكام حتى لاتشوه العشوائية مقاصدها، فعلينا أن نعمل سريعاً على استحداث آلية لتوثيق الرضاعة ومعاملتها معاملة النسب بأوراق رسمية حتى لانتفاجأ بالمزيد من الزلازل العائلية.

رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ