نقطة التقاء الحضارات

قاعة دمشقية في جدة التاريخية

رانية سليمان سلامة

تذكرنا الجمعية الفيصلية الخيرية سنوياً بالمنطقة التاريخية في مدينة جدة, فيحضر التاريخ في فعالياتها التي تختار أن تحتضنها تلك البقعة المنسية بمعالمها البارزة, ونجدها تعيد للمكان ألقه وتنثر حوله عبق الذكريات لتطرب من كان يوماً شاهداً على تلك الصروخ, وتستحضر برؤية عصرية الأصالة لدى أجيال لم يتسن لها أن تشهد المهد الذي احتضن بذور حضارة جذورها ضاربة في عمق الأرض وفروعها تطاول اليوم السحاب... وأدرك بعد كل رحلة تراثية تصحبنا فيها الجمعية الفيصلية سنوياً في معارضها مدى الخطأ الذي نرتكبه عندما تبهرنا صور البنايات الشاهقة للحد الذي تفقدنا به القدرة على النظر إلى الجذور حتى لا نكاد نذكرها وينقطع حبل الوصل بين حقبتين زمنيتين وكأن التاريخ توقف في الأمس البعيد والحضارة ولدت اليوم فقط.

بطاقة دعوة لزيارة معرض الجمعية في (بيت بنط) بالمنطقة التاريخية كانت وراء عزمي على استحضار تاريخ مدينتي لأخرج من عمق تلك الفجوة التاريخية السحيقة التي سقطت فيها مع أبناء جيلي بالرغم من تشدقي بأنني ابنة من كانوا يعرفون يوماً بأدلة جدة وربابنتها لقرون من الزمان لم أفكر بالإبحار بين دفتيها لأقرأ نشأة مدينة عرفتها أول مجموعة من الصيادين منذ 3000 سنة قبل أن تصلها قبيلة (قضاعة) التي يقال أن (جدة) سميت باسم أحد أبنائها الذي يعود نسبه إلى الجد التاسع للرسول عليه الصلاة والسلام.. وغرقت على ما يبدو بين أمواج التسميات التي ترجعها بعض المصادر إلى معناها العربي (شاطئ البحر), وترى أخرى أنها تعود إلى (الجدّة) والدة الأم نسبة إلى حواء أم البشر التي يعتقد أنها دفنت فيها... غير أن المسميات لاتبدو بأهمية النقلة التاريخية التي اكتسبتها المدينة باختيار الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه لها لتصبح الميناء الرئيسي لمكة المكرمة وبمعنى آخر تصبح معبراً لحضارات العالم التي لم تمر عليها مرور الكرام, فليست جدة حتماً من تترك حضارة تمر عليها دون أن تحتضن خير ما فيها... هذا تحديداً ما جعلني أعيد قراءة الدعوة إلى (بيت بنط) لأتنبه أنها كذلك دعوة لزيارة (قاعة دمشقية) وكأني بها ترسخ لـ(جدة) تلك المكانة, وتعيد للذاكرة المهمة التي تقلدتها على مر التاريخ كنقطة التقاء تصب فيها روافد الحضارة لتخرج بصيغة تكاملية تثري الحضارة الإسلامية والإنسانية وتحقق المعنى النقي للعالمية والعولمة التي للسخرية تحاول اليوم حضارات وليدة أن تعلمنا إياها بعد أن كنا يوماً سادتها وروادها.

أتوقع أن على كل منّا أن يدعو الآخر لزيارة المنطقة التاريخية وكل منطقة مماثلة في هذا الوطن لا لنشاهد بيوتا نبدي إعجابنا بطرازها أو معارض نستحسن معروضاتها فحسب, ولكن لنبحث عن طراز الحياة الذي شكل تلك الحضارة ونحيي ثقافة تبدأ من استيعاب وفهم ما يقف وراء هذا الإرث قبل أن يتعرض للتزييف, وتنتهي بالتقدير والوعي للمحافظة على هذه الثروات الوطنية قبل أن تنضب... ولو أن للإصرار جائزة لاستحقتها بجدارة الجمعية الفيصلية لإصرارها على إحياء تلك المنطقة بخوضها سنوياً مغامرة إقامة فعاليات بهذا الحجم لجمهور يتهافت غالباً على القاعات الفاخرة ويتمركز في شق واحد من مدينة لا يفصل بين تاريخها وحاضرها سوى طريق مزدحم وبضع جسور كفيلة بأن تحملنا لقلب جدة النابض بالعراقة.

 

* رئيسة تحرير مجلة (عربيات) الإلكترونية
[email protected]