والحاجة إلى القراءة من زوايا رؤية متعددة

القراءة بعين واحدة

رانية سليمان سلامة

في القراءة لا أدري أيهما يسبق الآخر عين القارئ أم عقله؟ ولكن أغلب الظن أن العين ما إن تقع على النص حتى يتدخل العقل بتوجهاته الفكرية للتفسير والتبرير وتوجيه الاستفادة نحو اتجاه واحد قد يحول بيننا وبين الحقيقة كاملة.

هناك نصوص عندما أُعيد قراءتها تفاجئني بصرخاتها (ويحكم كيف تقرؤون)؟! من بينها بعض التحليلات لأحوال العالم الإسلامي والمخاطر الحقيقية التي تحدق به... فعندما أردت أن أكتب عن ذلك اكتشفت أنني في مثل هذا اليوم من عام 2005م نقلت لهذه الزاوية توقعات الكاتب الأمريكي (مارتن سكرام) التي جاء فيها أن عام 2005م سيكون عام (الإسلام ضد الإسلام) أو مايقصد به اندلاع نزاعات داخلية في الدول الإسلامية ووقوع اشتباكات أيديولوجية بين الطوائف والمذاهب المختلفة وبين الأحزاب الإسلامية والحكومات وبين المعتدلين والمتشددين... وهو مقال بحاجة لتحديث التاريخ فقط لأننا على مايبدو قد وقعنا في الفخ.

التوقيت خالف توقعات الكاتب لأن (الطبخة) كانت بحاجة لبعض الوقت حتى تنضج على (نار هادئة) فتأجلت المعركة حتى 2006- 2007م، غير أن الفكرة يبدو أنها قد حازت على إعجاب البعض فقاموا بتبنيها وتطبيقها حرفياً، بينما البعض الآخر أخفق في القراءة وفي المواجهة.

وكنت أشرت في ذاك المقال إلى أن العناصر الفعالة لصناعة الحضارة هي (الدين والعلم والحرية) فإذا تفاعلت بشكل متوازن تكسبنا القوة وتؤسس للنهضة، أما إذا وقع خلل في معادلتها فالنتيجة انفجار أبرز ضحاياه هو الوحدة الوطنية.

الدين هو ماتستمد منه الأمة قيمها، والعلم هو ما توظفه لترتقي به، والحرية هي التي تحفظ لأفرادها حقهم وكرامتهم. هذا هو المأمول غير أن الواقع في بعض الدول الإسلامية التي تم تحويلها لمعامل تجري فيها تجربة التفاعل أثبتت مع سبق وإصرار شعوبها ورموزها وبمشاركة من الراعي الرسمي الأمريكي أنها بالتعصب الديني ستمزق وحدتها، وبالحرية ستثور الأغلبية و تثأر الأقلية، أما العلم وما يمكن أن يمنحه لصاحبه من قوة فانحصر توظيفه على محاولة امتلاك أسلحة تتميز بتكوينها الفريد الذي يُؤهلها لتدمير وتهديد استقرار البلد نفسه قبل أن تثبت قدراتها الدفاعية عنه.

قلت في ذلك المقال القديم ان المُبشر في المشهد هو أنه لايزال بإمكان المسلمين أن يتداركوا أنفسهم، وهي جملة تحتاج لتعديل بسيط بعد مراقبة الأوضاع اليوم في العراق وفلسطين ولبنان وغيرها لأستبدل كلمة (المُبشر) بـ(المُؤسف) و(لايزال) بـ(الفأس وقعت في الرأس).

فاتباعا لسيناريو الكاتب الأمريكي وغيره تم مؤخراً إسدال الستار على أحد مشاهد المسرحية العراقية التي تنذر ببداية فصل جديد تصل فيه موجات الثأر والعداء إلى ذروتها بين السنة والشيعة، وحتى يحين وقت إسدال الستار على المشهد القادم أتمنى أن تختصر نشرات الأخبار ما تستهلكه من وقت لاستعراض عدد الضحايا يومياً وتخبرنا كم تبقى من التعداد السكاني في العراق؟! وعلى الهامش تخبرنا بمصير البترول العراقي الذي على مايبدو يجري توزيعه كصدقات (رحمة ونور) غير مشروعة للراعي الرسمي للمجزرة.. وكم أخشى أن يفاجئنا المشهد الأخير من المسرحية ببلد رفض التعايش فلم يعد بوسع شعبه أن يعيش، وثروة نفطية كانت صرحاً من واقع فهوى.

وفي فلسطين كفت الصراعات الداخلية إسرائيل شر القتال وشر تعريض أرواح أبنائها للموت، فاكتفت بمباركة مبادرة تكفلت فيها الأحزاب الفلسطينية بمقاتلة بعضها وإهدار دماء شعبها فداء لمخططات العدو.

ومع لبنان الحرية تحضرني مقولة للفنان الكويتي (عبدالحسين عبدالرضا) في إحدى مسرحياته إذ يقول متهكماً (العصابات صارت دول) فالواقع المؤسف هو أن (العصابات صارت أحزاباً رسمية)!!... وهي كذلك أصبحت حكومات لبعض الدول أو سلمت سلطتها للمليشيات كما كشف مشهد إعدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.

من الواضح أن مشكلة الخلافات في العالم الإسلامي هو أنها تصر على أن تخرج مُغلفة بالحقد ومحاطة بثقافة الثأر بعيداً عن السماحة ومفاهيم التسامح التي أرساها الإسلام في عصوره الذهبية وقبل أن يتبناها بعض أبنائه جهلاً وتجنياً عليه في عصر الدماء الرخيصة.

وكل تلك الصراعات الداخلية ماهي إلا صور مصغرة لصراعات أكبر قد تنشأ بين بعض الدول الإسلامية إذا ما أيقظت خلايا الحقد والأطماع النائمة الفتن وأشعلتها بين الشعوب ليتسع نطاق الحملة الذكية على يد أدواتها (الغبية) فتتحول من تفكيك الوحدة الوطنية إلى تفكيك الوحدة الإسلامية.

مع الأسف لم يعد بين التوقعات الخيالية التي أطلقها (مارتن سكرام) وغيره وبين الواقع الذي نعيشه مسافات كبيرة، فقد وقعت بعض الدول الإسلامية في الفخ بينما تحظى شقيقاتها في المستقبل بفرصة أخيرة لتجنب الوقوع في الفتن والانقسامات... تلك الفرصة لن تتوفر لمن يقرأ بعين واحدة من زاوية ضيقة فيعتقد أنه بمنأى عن الخطر أو يحكم سريعاً على الخطأ مبرئاً ساحة من تميل لهم توجهاته الفكرية ومسارعاً باتهام المخالف... القراءة بعينين أقصد بها القراءة من زاويتين أو عدة زوايا مختلفة وهو أمر من الصعب تحقيقه دون تحرير العقل أولاً من التفسيرات المسبقة التي يختزنها مع تنقية النفوس من أحقادها... فالحكمة الإلهية اقتضت بأن تمنح الإنسان عينين بدلاً عن عين واحدة كان بوسعها أن تقوم بنفس المهمة وقد يكون في تلك الحكمة إشارة إلى أننا بوسعنا أن نترك لإحدى العينين حرية قراءة الأحداث والتجارب والممارسات برؤية شخصية بينما علينا أن نجبر الأخرى على القراءة بعين الطرف الآخر لتلعب بذلك دور المعارضة لرؤانا حتى يخرج حكم العقل عادلاً ومتوازناً وننجح بوأد الفتن قبل أن تمزق ثوب الوحدة وتصبغه بلون الدم الأحمر ليرتدي الجميع السواد.


رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ