يبدو أن الفتنة في عالمنا تعاني من أرق مستعصِ

فتنة لا تنام

رانية سليمان سلامة

يبدو أن الفتنة في عالمنا تعاني من أرق مستعصٍ، فهي لاتكاد تغفو حتى تستيقظ لتُعجِز حالتها المعالجين بعد فشل عقاقيرهم المهدئة وأقراصهم المنومة في أن تجلب النوم الأبدي لجفونها، لم تنجح أية وسيلة عصرية في جعلها تعود إلى جوف الشيطان الذي قذفها شرقاً دون أن تجد قدماً تعيد تصويبها بعيداً إلى مرماه.


محاولات تنويم الفتنة تنوعت وظلت النتيجة واحدة “إنها لا تنام”، فلو وضعنا فوق أسبابها ألف غطاء تستيقظ بذريعة القمع، ولو فتحنا أمام أطرافها كل الأبواب وأسقطنا فوق رأسها الديموقراطية السحرية نجدها ترقص رقصة الموت على أشلاء التعايش والوحدة والسلام.


نحسب أن الفتنة تترنح بنعاسها كلما شارفت حرب على الإنهاء ولا ندري بها إلا مستيقظة على أرض السلام، فقد أصبحت الفتنة حرماً تطوف حول أصنامه الطائفية في طقوس يقودها الجهل والتعصب حيناً والثأر أحياناً مسبوق بالغدر.


يقال بأن بداية الحل هو معرفة المشكلة غير أن ماهية الفتن التي تخفيها الطائفية مجهولة الهوية لا تجدي لكشفها المعادلات الرياضية ولا الحسابات المنطقية بعد فشل الديمقراطية والدكتاتورية والحيادية في تحييدها، لم يعد بالإمكان إيجاد تفسير لما جرى في أفغانستان والعراق بعد الحرب التي حسمها (الاحتلال التحريري) بمعاونة غدر الطوائف التي يبدو أنها قدمت يد المساعدة للعدوان لا لتعيش حياة أفضل ولكن لإطلاق شلالات دماء جديدة على أرضها. ولم يعد بالإمكان النظر إلى فلسطين كقضية عربية وهي غارقة في صراعاتها الداخلية، أما لبنان فلم يعد بوسعنا أن ننظر لمستقبله بتفاؤل بعد أن اختارت الطائفية أن تحرق صورة الديمقراطية الأخيرة التي طالما عللت نفسها بتجسيدها على أرض الواقع.


ثمة مشكلة في لبنان قد تنبهنا إلى تغيير هام، فيبدو أن عصر القيادات التي تحرص على كراسيها قد انتهى ليبدأ عصر قيادات تطمع في ضم الكراسي المحيطة بها إلى صالونها الخاص لاحتساء دماء شعوب خطيئتها أنها تنشد السلام. وقد تكون الأحداث التي تجري في لبنان دليلا آخر مؤسف على أن الشعوب التي تخرج من مخرطة الحروب الأهلية لن يكون بوسعها أبداً أن تنعم بالسلام، فالحرب الأهلية تدمر النفوس قبل أن تدمر البنايات.


ينبهنا لبنان مجدداً إلى أن الحلول المحلية ستظل مستعصية لأن لكل طائفة لها امتدادات الخارجية، وتؤكد أن الطائفية أصبحت من فصيلة (الخوارج) على الوحدة الوطنية، وأن مفهوم الديمقراطية بين هذا وذاك قد احتضر منذ أن بدأت الطوائف تبحث عن حقوقها وحريتها دون أن يدور بحثها عن ضالتها حول مركز الوطن وأولوية مصالحه الإستراتيجية والاقتصادية.


ما زلت أذكر جلسة محاسبة عرضتها شاشات قناة CNN قبيل الضربة (الكلينتونية) الأولى للعراق عندما كيل طلاب الجامعات الأمريكية الاتهامات لحكومتهم، مطالبين بشيء من الإنسانية بعيداً عن القوة ولكن صمتت أصواتهم أمام رد واحد من وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك "مادلين أولبرايت" حين قالت إن تدخل دولتها سيكون لمصلحة أمنها القومي وقد كان الصمت معبراً عن إدراك شعبها بأن الأمن له الأولوية، أما في عالمنا العربي فمع الأسف أمن الشعوب هو أول ما تنتهكه الأحزاب بيدها لا بيد عمرو من باب الأقربون أولى بزعزعة الأمن وتجربة مفعول النيران الصديقة الشهير بالإضافة إلى استحداث مفهوم الاجتياح الأخوي البريء، والتصفية العرقية البناءة.


في لبنان لن ينتصر اليوم سوى التحدي والثأر والعنف، بينما المعركة على أرض التعايش تبدو خاسرة وإن انطلقت جلسات الحوار بين الطوائف، فالمطلوب اليوم حوار بين الطوائف وبين امتداداتها العربية والدولية، فالطائفية مع الأسف قد أصبحت هي الجنسية بينما تأخر الانتماء للوطن وخدمة مصالحه إلى آخر قائمة الأولويات.

رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ