غلاء التخزين وراء إتلاف 100 مليون كتاب في السنة
في كل عام تصل أعداد الكتب التي لم تجد سبيلها للبيع بفرنسا إلى 100 مليون كتاب، والسؤال عن مصير هذه الكمية الهائلة من المطبوعات يكشف عن رؤية اقتصادية بحته، عربيات تطرح للقارئ رداً على هذا السؤال الذي يظل من "التابوهات" الثقافية ببلاد فولتير، فإذا كانت الكتب الجيدة بطبيعة الحال تملك حظاً آخر لإعادة طبعها فإن غيرها يعرف مصيراً آخر أقل شأناً إن لم يكن بالأحرى مأساوياً، حيث ينتهي بها المطاف إلى الإتلاف ومن ثمة تحول إلى ورق مسترجع يستعمل لأغراض أخرى.
هذا ما يخشاه الكتاب ويتبرمون منه
عملية إتلاف الكتب التي يطلق عليها بالفرنسية "le pilon" تنطلق في العادة خلال شهر أكتوبر من كل عام، حيث يجري التخلص من المؤلفات التي لم تجد سبيلها للبيع فتدفع بها دور النشر إلى الجهة المختصة بمهمة الإتلاف مقابل الحصول على مبالغ مالية محددة، وتتوجه شاحنات خاصة إلى منطقة تقع ببلدية "أورلي" في باريس لتقتحم أبواب مصنع للاسترجاع، حيث تقوم الشاحنة بطرح حمولتها خارجا في شكل كتلة ضخمة تحتوي على مالا يقل عن 10 آلاف كتاب، نصادف منها عناوين لافتة على غرار تعلم اللغة السويدية، وسيرة شخصية سياسية لا تزال طازجة، كتب تمارين، روايات، كتب أطفال، كتب الطبخ، وحتى موسوعات، وبعدها تساق هذه الكتب نحو آلة جهنمية ذات أسنان متوحشة تبتلعها دفعة واحدة لتخرج من الجهة الأخرى مكعب ورقي ملون وبحجم عملاق.
مثل هذه الحركة الدرامية تتكرر عدة مرات في اليوم الواحد، إنه مشهد مرعب يخشاه كل الكتاب ويتبرمون منه كونه يزيل من الوجود "فلذة كبدهم"، ولوكان ذلك على المستوى الرمزي أكثر منه على المستوى المادي، فالكتاب يبقى في كل الأحوال سلعة غير عادية.
تخزين 100 ألف كتاب يعادل شراء 50 ألف كتاب جديد
والتخلص من كل هذه الكتب - التي لم تعرف سبيلها للبيع والتسويق- وراءه سبب اقتصادي محض، ألا وهو سعر التخزين والمقدر مابين 4 إلى 10 يورو في الشهر للمتر المربع الواحد والذي يعتبر مكلفاً، فإتلاف كتب قديمة أو فاشلة من حيث التسويق يكلف مادياً أقل من تخزينها أو شراء الجديد منها، حيث تقدر تكلفة تخزين 100 ألف كتاب ما يعادل شراء 50 ألف كتاب جديد.
الكتب الموجهة للجمهور العام هي الأقل حظاً في البيع
وعلى هذا الصعيد يوضح المختص في اقتصاد النشر "كريستيان روبان" الذي يعمل أستاذاً محاضراً بجامعة باريس الثالثة عشر، أن عالم النشر ولاسيما سياسة السحب تعد في الأصل فناً قائماً بذاته وأي خطأ في الحساب قد يكلف الناشر خسائر فادحة، ففي فرنسا على سبيل المثال يتم سنويا طباعة حوالي 500 مليون كتاب يباع منها حوالي 400 مليون والبقية - أي 100 مليون كتاب- يتم إتلافها واسترجاع ورقها في مجالات صناعية أخرى بما فيها النشر بمختلف فروعه ( كتب، صحافة، مطبوعات عامة إلخ..).
و من بين كمية الكتب التي يجري إتلافها عدد من الروايات، ووثائق مختلفة من كل الأحجام والقليل جدا من الكتب الهامة على اعتبار أن لهذا النوع الأخير من الكتب حظ أوفر في الاستمرار والصدور ضمن طبعات أخرى جديدة، ومن التجارب السيئة ضمن هذا المجال يقول أحد الناشرين الفرنسيين أنه في عام 1998 تم طباعة رواية لأديب أمريكي يدعى "مايكل ولش" بعنوان "العودة إلى كازابلانكا"، وقد تم سحب -طباعة- من هذه الرواية 53 ألف نسخة دفعة واحدة، وبيع منها 3500 فقط، أي 95% عادت كمسترجعات وقد جرى طبعا إتلاف الكمية المتبقية ومنذ ذلك الحين صار ناشر هذه الرواية يتقيد بسياسة صارمة في التوزيع والسحب، ولا سيما مع تطور التكنولوجيا الحديثة في الطبع بحيث في الإمكان رفع السحب في ساعات قلائل عند التأكد من نجاح أي كتاب مطبوع.
ويؤكد المختصون أن الموزع ضمن هذه العملية يظل هو عصب الحرب كما يقال، حيث أن معرفة أسرار هذه المهنة يجنب الناشرين الكثير من الخسائر ويضعهم في المقابل على الطريق الصحيح، و تشير إحدى الدراسات المتعمقة في هذا الشأن أن الكتب الموجهة إلى الجمهور العام هي الأقل حظا في البيع بنسبة 22 في المائة عكس ما يتصوره ويعتقده الجميع وبالتالي فإن هذا النوع من الكتب هو الذي يعرف أكبر كمية من المرتجع.
الجدير بالذكر أن عالم النشر - الذي يخشى حد الرعب عملية الإتلاف هذه - يظل في المحصلة لا يملك وصفة سحرية للتمييز بين الكتب الناجحة والفاشلة، ولا تسويقاً يصل حد الكمال، إذ أن بعض الكتب يطبع منها أعداداً قليلة ولايتوقع منها صدى كبيراً، لكن النتيجة مغايرة للتوقعات وتجبر المطابع على طباعة المزيد منها وربما في الوقت بدل الضائع والعكس صحيح أيضاً، وبالرغم من ذلك، يعامل الكتاب في فرنسا بنبل يشبه القداسة، والدليل على ذلك الكميات الهائلة من العناوين التي تصدر سنويا في هذا البلد الأوربي العريق حضارياً وثقافياً، أما قضية إتلاف الكتب غير الناجحة فتبقى - نسبياً- قضية تحصيل حاصل.