الحرية تولد الإبداع

دكتور الفلسفة في التاريخ الحديث "زيد بن على الفضيل" لـعربيات

آمنة الحلبي
صور وفيديو

من عبق الورد الطائفي كانت نشأته، ومن أريجه فاحت نسمات الكلمات، وحفيف الحروف، ومن عكاظ وسوقها التاريخي الشهير تشكلت شخصيته بمخزونها الثقافي، وتبلورت ثقافته من كنزها المعرفي، وتألقت إبداعاته بين جنبات متحفها وآثارها، ومن قلاعها الأثرية ولدت أفكاره وتعانقت مع نسبه الممتد من أرض سبأ والحجاز منتمياً إلى أسرة هاشمية يمنية عريقة بقادتها وساستها، وعلمائها وفقهائها، فجمع المجد العلمي والسياسي والفكري والتاريخي على أرض الجزيرة العربية، ونشأ نشأة القوم ثرياً بعبق العلم والمعرفة متلمساً أولى خطواته من الذي أنار له الدرب، وعلمه بثغره الفصيح، ليشب على الروابط الوثيقة بينه وبين خير جليس في الأنام،  إنه الوالد الرحيم والمعلم الكريم للدكتور زيد بن علي بن عبد الكريم الفضيل الذي ينتمي نسباً وروحاً إلى أسرة آل شرف الدين الهاشمية التي كانت وما زالت أحد أهم الأسر العلمية في اليمن، عربيات التقت الدكتور زيد الفضيل الحاصل على درجة دكتوراة الفلسفة في التاريخ الحديث من قسم التاريخ بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، في دارته، لتطالع أوراقه الفلسفية، وترفرف بين أبحاثه الفكرية والتاريخية، وتقرأ بعضا من دراساته الأنثروبولجية، الدكتور والمفكر والباحث زيد الفضيل في رحلة مشوار مع عربيات :

من أين نبدأ الحكاية؟
ولدت في مدينة الطائف الجميلة وفي حارة اليمانية، المدينة القديمة المطلة على (وادي وج)، ولا زال البيت عامراً إلى اليوم، وترعرعت على أرضها، وعشت أجمل أيام طفولتي متنقلاً بين الطائف ومكة المكرمة، لأن والدتي رحمها الله كانت تحبذ البقاء في مكة المكرمة، فكان مستقرنا في حي أجياد بالقرب من الحرم الشريف .

هل والدتك من مكة؟
 والدتي ووالدي من عائلة واحدة وهي أسرة آل شرف الدين التي خرج منها الكثير من العلماء والعالمات والأدباء والأديبات، لكنها يرحمها الله كانت منجذبة للجانب الروحي ومتعلقة بأجواء الحرم الذي كان يأسرها، متغلبة على أجواء مكة الحارة بذلك الانجذاب الروحي، في حين كان والدي وعلى الرغم من مسايرته لها، ومن عشقه لأجواء الحرم المكي الروحانية، إلا أنه كان جبلي الهوى والطباع، ويميل إلى السكنى في الأجواء الباردة، لهذا كان اختياره الطائف مقراً للسكن، علاوة على أن المدينة في ذلك الوقت كانت مقراً للملك والحكومة السعودية في الصيف وذلك منذ عهد الملك عبد العزيز وحتى عهد الملك خالد يرحمهم الله.

هذا يعني درست في مكة المكرمة؟
مطلقاً، درست كل المراحل التعليمية في الطائف، الإبتدائية في مدرسة عبد الله بن العباس، والإعدادية في مدرسة حطين المتوسطة، والثانوية في مدرسة هوازن، لكن كنا نقضي الإجازات الرئيسية ويومي الخميس والجمعة في مكة المكرمة.

من الذي ترك بصمة في حياتك التعليمية؟
هناك عدد من الأساتذة تركوا بصماتهم وأثروا على حياتي التعليمية ومنهم أستاذ مادة التعبير تاج السر وهو من السودان، وأستاذ مادة البلاغة والنقد عبد الهادي القرني الذي تميز بالحس المعرفي، والتذوق اللغوي، وكان يُحضر آنذاك الدراسات العليا، وكنت في حينه مهتماً اهتماماً كبيراً باللغة العربية لانحداري من بيئة علمية تهتم بها، كما كنت كثيراً ما آتي له بالحجج من الأصول المعرفية مثل كتاب الطراز للإمام يحيى بن حمزة ، وكان ينبهر كثيراً بقراءاتي، كما أن الأستاذ تاج السر أعطاني أبجديات الكتابة على النسق الروائي إن جاز التعبير لأنه كان يتصور أنني سأصبح روائياً في المستقبل، لعلي خيبتُ أمله، فلم أكتب رواية واحدة إلى الآن.

في هذه المرحلة ما دور الوالد؟
 والديَّ كان لهما الدور الكبير في كل المراحل، لكن وبما أن والدي كان من أحد العلماء المجتهدين في اللغة والدين وله مؤلفات عديدة في عدد من فنون المعرفة منها ما تمت طباعته، ومنها ما هو قيد الطبع، ومن ذلك كتابه في اللغة (مذكرة الطالب) ، فقد دربني على الحرية في التفكير منذ نعومة أظافري، عندما منحني أبجديات المناقشة.
 لم يفرض عليّ أمراً يوماً من الأيام بقدر ما كان يتحاور معي، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد حفزني في مرحلة الطفولة لقراءة القصص الخيالية لاكتساب مساحة كبيرة من التخيل، لأن الطفل في تلك المرحلة بأمس الحاجة إلى الخيال الواسع، وفي المرحلة المتوسطة دفعني لقراءة الكتب التي تُسطّر القصص البطولية والجهادية، والتي تحكي بطولات الصحابة رضوان الله عليهم، وخاصة الإمام علي كرّم الله وجهه، علاوة على قصص المروءة عند العرب التي نمّت في ذهنيتي هذه الصفة بشكل جيد .


لم نقرأ شخصية علي بن أبي طالب كما يجب

أكثر ما تلمست بقراءاتك للإمام علي كرّم الله وجهه شاعراً وبطلاً؟
التبحر في شخصية الإمام علي كرم الله وجهه أمر صعب، فهو عالم واسع بحد ذاته، ذلك أنك إن أردت أن تقرأ فيه الحكمة فستجده فارسها، وإن أردت أن تقرأ فيه العلوم البحتة فستجده مبرزاً فيها، وهكذا بالنسبة لما أطلق عليه العلماء اليوم بأصول الفقه والدين، إلى غير ذلك من المعارف، وبالتالي فأتصور أننا إلى الآن لم نستطع قراءة شخصيته قراءة كاملة وافية، هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد بالغ في تقديسه بعض الشيعة، كما أن بعض المنتمين للتيار السني قد حيدوه كثيراً، على أن أكثر تحليل أعجبني لشخصية الإمام علي كّرم الله وجهه كان للمفكر والأديب اللبناني جورج جورداق الذي كتب خمس مؤلفات حول شخصيته برؤية معاصرة، وانطلاقاً من ذهنية محايدة، كما أعجبت بقصيدة الشاعر اللبناني بولس سلامة، ولعل ما يجمع بين الاثنين أنهما قد أحبا الإمام علي عقلاً وليس عاطفة، وتفرساً في كثير من صفاته دون أي ضغط أو توجيه ديني على اعتبار انتمائهما للدين المسيحي الكريم

على ماذا يدل اهتمام أدباء العرب بالإمام علي كرم الله وجهه؟
يمكن القول بأن الإمام علي -كرم الله وجهه -كان موسوعة علمية فريدة من نوعها، وكيف لا وقد جعله الله باب مدينة العلم كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"أنا مدينة العلم وعلي بابه"، ولهذا فلا غرابة أن تدعي كل المعارف وصلاً به، فهو شيخ العلوم اللغوية، ومرجع مختلف العرفانيات والأداب الذوقية، وكذلك الأدب واللغة وصروف والمعاني، ولا ننسى الحكمة التي كان يتحلى بها، والذكاء المفطور عليه.

هناك من قال أن حديث باب مدينة العلم ضعيف؟
 نعم قال بذلك بعض المحدثين المعاصرين، لكن المحدث المعروف السيد الغماري أفرد كتاباً في صحة هذا الحديث.

إلى أي مدى تركت شخصية الإمام علي بن أبي طالب أثراً في حياتك المدرسية؟
شخصية الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه تركت أثراً كبيراً في حياتي، كيف لا وأنا أتشرف بالانتماء إليه نسباً، كما أن قيمته الوجدانية وعمق معرفته قد أثرتا بي بشكل كبير، على أني قد تأثرت أيضاً ببقية الصحابة الراشدين كأبي بكر، وعمر، وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري وكثير غيرهم، الذين اتصفوا بالحكمة ورجاحة العقل، والقوة في الحق، والصرامة في الحكم، وكم كنت مغرماً في مرحلة الإعدادية بقراءة سير الصحابة والتأمل فيها .  

متى قرأت لأمثال المنفلوطي وطه حسين والعقاد؟
بدأت أقرأ كتب هؤلاء المفكرين في المرحلة الثانوية فما بعدها وهذا بفضل والدي يرحمه الله، حينها بدأت أنتقل من حالة إلى حالة جديدة، من مرحلة المراهقة المتوسطة إلى مرحلة المراهقة المتقدمة، التي يجب اجتيازها بحكمة، وكان أن تمكن والدي يرحمه الله من سد فراغها بحكمة وبصيرة، حيث اطلعت في هذه المرحلة على كتب وروايات جرجي زيدان وعلى غيرها من الروايات التي مزجت التراث بالعاطفة، فأشبعت في روحي الجانب العاطفي بكل تجلياته، وأنعشت ذهني بما يحتاجه من معلومة فكرية.

ماذا وجدت لديه؟
 من أجمل ما لاحظته عند هذا المفكر المسيحي أنه كان ملماً بكثير من تفاصيل التراث الإسلامي، وبالرغم من توجيه الانتقادات الكثيرة له في بداية الثمانينات الميلادي من القرن العشرين من قبل الصحويين الإسلامويين ، لكونه مسيحياً، وانطلاقاً من نظرية المؤامرة، إلا أني أتصور أنه كان قريباً كثيراً من نقل الواقع التاريخي كما هو وليس كما يحب أولئك الصحويين النظر إليه، إذ تشبعت رؤيتهم إلى تاريخنا بالنرجسية والمثالية، وكأن من سبق قد كانوا في كل حالاتهم مؤمنين إلى أقصى درجات الإيمان، وصالحين إلى أقصى درجات الصلاح، في حين أنهم بشر لهم همومهم ونزعاتهم وغرائزهم، فأبدعوا في كثير من الأشياء، وقصروا في أمور أخرى، وهو ما أبرزه جرجي زيدان في رواياته، فكانت تلك الروايات جامعة للواقع التاريخي والتخيل الإبداعي الذي تفرضه الحبكة الروائية، وهو الأمر الذي تتميز به الرواية عن مثيلها من النصوص التاريخية الجامدة.
 على أن ذلك لم يرق لمُنظري عهد الصحوة الذين رسموا صورة مثالية للتاريخ الإسلامي وفق منظور عقائدي خاص، فكان أن أدى ذلك إلى التشكيك والقدح في كثير من الكتابات التي لا تتوافق مع توجهاتهم الفكرية، بغض النظر عن هوية قائلها، وكان جرجي زيدان أحد أولئك الذين تم القدح فيهم، مستغلين انتماءه للدين المسيحي، على أن ذلك لم يكن هو الأساس في قدحهم بقدر ما كان مخالفته لرؤيتهم الفكرية عن تلك المرحلة بوجه عام.
 وهذا لا يعني أن زيدان كان معصوماً عن الخطأ، أو أنه قد طابق لب الحقيقة التاريخية في مجمل تفاصيل رواياته، كما لا ننسى أنه يكتب نصاً روائياً ولم يكتب بحثاً تاريخياً علمياً.

كنت جليس والدي العالم والمفكر والشاعر

ذكرت والدك كثيراً ومدى تأثيره في تربيتك، ماذا كان يعمل ومتى استقر في المملكة؟
كما تعلم عربيات أن أسرة آل شرف الدين التي أنتمي إليها، تعد من أشهر الأسر العلمية في منطقة اليمن على وجه الخصوص، وقد امتدت ليصل أبناءها إلى عدد من المناطق العربية والإسلامية، بحكم قيام الدولة العثمانية خلال حربها في اليمن بأسر عدد من أمراء أسرتنا آل شرف الدين، الذين كان يتم ترحيلهم إلى اسطنبول وفرض الإقامة الجبرية عليهم، على أن منهم من تسرب بعد ذلك وعاش في مصر، ومنهم من آثر الاستقرار في تركيا.

وبحكم انتماء والدي لهذه الأسرة العلمية والسياسية فقد شارك يرحمه الله في العمل السياسي منذ فترة مبكرة من حياته، وقاد الشباب المتعلم في سنة 1948م للثورة على الإمام يحيى حميد الدين، الذي خالف القواعد السياسية والدينية لدولة الأئمة باليمن حين حول النظام إلى حكم ملكي وراثي وفي ذلك مخالفة صريحة لمبادئ الحكم في دولة الأئمة الرافضة لذلك منهجاً وتشريعاً، والمؤكدة على مبدأ الشوروية و إلزاميتها للحاكم، علاوة على أنه كان قد نحى في حكمه منحى استبدادياً، وقام بإغلاق اليمن ومنعها من اللحاق بركب التنوير والمعاصرة جراء أسباب غير مقنعة مردها إلى خوفه من الاستعمار ورغبته في حماية اليمن من الفساد، ثم وبعد خروجه من السجن إثر فشل ثورة الدستور كما أطُلق عليها تاريخياً، التحق بعدد من الأعمال التربوية خلال عهد الإمام أحمد، الذي حرص على تقريب جيل التنويريين، حيث عمل مديراً للمدرسة التحضيرية، ثم مديراً للمدرسة الثانوية وهي أول مدرسة ثانوية باليمن، ثم التحق بالعمل الإذاعي كنائب لمدير الإذاعة، وكان أحد المحركين الرئيسيين في حراك الضباط الثوريين والشباب المستنير خلال فترة الخمسينات وصولاً إلى أحداث ثورة 26 سبتمبر 1962م، التي أخذ منها موقفاً معارضاً لاختلال توجهاتها السياسية، وتبعيتها للقيادة المصرية على عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ولهذا ونتيجة لمناهضته الشديدة لحركة الضباط، وصراعه المكشوف مع عديد منهم خلال تلك الفترة، وعدم تمكنهم من استقطابه إليهم، فقد تعرض لمحاولات التصفية خلال عهد الإمام أحمد وتم سجنه مراراً، وكان القرار باغتياله مع بداية أحداث الانقلاب العسكري، و تمت مهاجمته في نفس الوقت الذي باشر الضباط مهاجمة دار البشائر مقر الإمام محمد البدر، لكنه نجا وأصيبت ابنته الصغرى في حينه بجروح أدت إلى وفاتها بعد حين، وخلال فترة الحرب الأهلية تولى عدد من المناصب السياسية العليا فعمل مسؤولاً عن الإذاعة الملكية، ورئيساً للديوان الملكي الإمامي، وعضو مجلس الإمامة؛ وآثر الاستقرار في المملكة العربية السعودية بشكل نهائي منذ عام 1970م، وتم استضافته مع الأسرة بكاملها في عهد الملك فيصل يرحمه الله، وأصبحنا جزء من هذا الوطن الذي ولدت فيه، وأخذ في ممارسة حياته العلمية بشكل طبيعي وكان يُعقد في منزلنا بالطائف مجلساً ثقافياً يومياً يأتي إليه الأصحاب والخلان من أهل الطائف وغيرها من الأدباء والعلماء والسياسيين.

ما الذي كان يدور في تلك المجالس؟
ـقراءة الكثير من كتب التراث، وكان يُعطى لي دوراً في القراءة، فقرأت كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني في ذاك المجلس، وقرأت كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، وكان مجلساً يومياً يمتد من بعد صلاة العصر إلى وقت صلاة المغرب، واستمر المجلس إلى منتصف التسعينات الميلادي من القرن الماضي حتى كان انتقال والدي إلى جدة .

 في الثمانينات انتقلت من الطائف إلى الرياض للدراسة في جامعة الملك سعود، لماذا؟
 أنا وحيد والدي ولم أفكر يوماً بالذهاب إلى الرياض، وعندما ولدت كان والدي في الأربعين، ولم يدللني كما يظن البعض، بل رباني بوسطية، وأبعدني عنه وعن الأجواء المحيطة به حتى يشتد عودي، فأرسلني في عام 1983م إلى جامعة الملك سعود للدراسة، ولا شك أنها جامعة قوية ضمن الإطار الوطني، لكنني وجدت نفسي في رياض قافرة وحيداً غريباً أتطلع إلى شيء من الدفء والحنان الذي افتقدته، فعوضت ذلك بالقراءة قدر استطاعتي .

كيف يصف حاله زيد الفضيل الطالب؟
حياة موحشة، وغربة قاسية، وعالم جديد لا أعرف كنهه، مفرداته جافة، وأبجدياته قاحلة، وهواء يحتاج إلى قطرات من الأكسجين، صحراء حقيقية بكثبانها، وحضارة معمارية جامدة بمبانيها، كنت فعلاً غريب الدار والأهل والأصدقاء، المعنويات في درجة الصفر، ولم تكن الاتصالات بيني وبين أهلي متيسرة كما هو عليه الحال اليوم عبر خدمات الهاتف الجوال، ولم يكن لي من أمل إلا بالدراسة الجادة والمطالعة الحقيقية، وبدأت الرحلة الشاقة.

كيف استطعت التغلب على الصعاب؟
بدأت تتشكل معالم شخصيتي السلوكية والثقافية، وكان عليّ أن أمشي يومياً عشرات الكيلو مترات لأسمع صوت والدتي يرحمها الله وأشكو لها حالي على أمل العودة إلى حضنها الدافئ، لقد كانت امرأة عظيمة إذ لم تناقش والدي يوماً بقرار دراستي، وكل ما أسمعه منها كان تعبيراً عن الرضى والصبر، ومن المآسي أنها توفيت مبكراً بعد صراع مع المرض الخبيث في أول سنة من دراستي الجامعية، أما والدي فقد كان حريصاً على أن أستفيد من هذه التجربة، وحريصاً على أن أصلب عودي، وأسبر أغوار شخصيتي خلال مدة غربتي عنهم، وكان واضحاً أن في مخيلته مخططاً يريد تنفيذه معي، حيث كنت عندما أطلب محادثته هاتفياً، أجده يردد بأسلوب هادئ لكنه حازم (كيف حالك، هل أنت طيب، شد حيلك، انتبه لنفسك، والسلام عليكم) وعندما أطلب التحدث معه أطول من ذلك كان يفاجئني بالقول: أكتب لي رسالة بما تريد.

 إلى متى ظل هذا الحال؟
 كنت أكلم نفسي في بعض الأحيان وأقول: "أنا ولده الوحيد ويعاملني بجفاء بهذه الطريقة!، ما عهدته بخيلاً، أعرفه كريماً، ألا يشتاق إلي كما أشتاق إليه؟، ألا يعرف كم من الوقت والمسافة أقضيها حتى أصل إلى كبينة الهاتف لأحظى بسماع صوته؟، ثم بعد ذلك يقول لي : اكتب لي رسالة بما تريد!.

على ما أعتقد كان والدك يرمي إلى شيء؟
نعم ، فقد كان مربياً خبيراً، وعارفاً بخبايا الأمور، وكان يملك القدرة على استجلاء الأمور بصفاء ونضج،  قررت أن أكتب له أول رسالة ، وكانت البداية ، ويا لها من بداية ؟!
قرأت جواب والدي الأول المختصر جداً على أولى رسائلي إليه خلف رسالتي الأساسية، التي طمأنني فيها على صحته وصحة والدتي يرحمها الله، وبقية أهلي، وطلب أن أتأمل في تصويباته على رسالتي؛ وواقع الحال أن صدمتي لم تكن في إجابته المختصرة جداً، بل كانت في حجم الأخطاء الإملائية الفاحشة التي ارتكبتها حال الكتابة، وفي حينه أدركت فحوى الدرس الذي قصده معلمي حين أصر على البدء بممارسة ثقافة الكتابة بريدياً، ووعيت قيمة هذا الدرس الذي - حقا أقول - قد هز كياني، وجعلني أهبط على الأرض، لأتعلم طريقة المشي الصحيح ثانية، وكنت بحكم السن وجهل الشباب قد طفوت عالياً، ظناً مني أن المعرفة يمكن تحقيقها بالقراءة الصامتة وحسب.
ومنها بدأت المسيرة، كانت الرسالة الثانية أقل فحشاً إملائياً، وفي الثالثة بدأنا مسيرة ملاحظة الأسلوب وطريقة الكتابة، وهكذا حتى ولجت مع والدي ومعلمي عالم ما يعرف برسائل الإخوانيات، التي يتبادل فيها الأصحاب من النخب الثقافية همومهم الفكرية، ويناقشوا مواضيعهم الخلافية بكل سلاسة ويسر، وكل ذلاقة وذكاء، وجزالة وعمق،  لتمثل رسائلي تلك، أُولى بواكير إنتاجي المعرفي الذي لم ينشر بعد والذي أعتز به كثيراً .

 ما هي القضايا التي كنت تطرحها مع والدك عبر الرسائل؟
كنت أناقشه في جوانب متعددة في ذلك الوقت على الصعيد الفكري والسياسي وحتى الاجتماعي، على أني وبحكم السن وربما طبيعة القراءة خلال تلك المرحلة من العمر، كنت ميالاً لمعرفة جوانب الفكر الاشتراكي، والاشتراكية الإسلامية أو كما يقال اشتراكية أبي ذر تحديداً، إلى غير ذلك من المواضيع التاريخية وبخاصة فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي ومسيرة أئمة آل البيت النبوي التي كنت أخضعها للنقد العلمي الحاد في تلك الفترة

ماذا علمتك تلك الرسائل؟
  إن الإنسان لا يستطيع أن يعبر عما في ذهنه إلا من خلال الكتابة وحاجة الإنسان لتواصل كتابي مع الآخر فيما يعبر عنه بالإخوانيات، فكان والدي يرحمه الله التوأم الإخواني لي.

 لماذا اخترت دراسة الفلسفة؟
 لأن الفلسفة تعني لي البحث في كنه الأشياء وماهيتها، وكما هو معلوم فالفلسفة هي الحكمة، والحكمة ضالة المؤمن وحياتي كلها كانت تبحث عن الحكمة وعن ماهيتها بالرغم من أننا اليوم نأخذ المعنى بمصطلح سيء ونقول: "فلانا متفلسفاً"، كما أن انتمائي إلى المدرسة العقلية قد عزز من ذلك بشكل كبير، لاسيما وقد  كان والدي من رجالات تلك المدرسة البارزين في زمانه، وكما هو معلوم فالمدرسة العقلية تعتمد الفلسفة في تحليلها للأشياء، فلا تأخذ الأمور بمسلماتها، وإنما تهتم بالتحليل وإعمال الفكر،  هكذا عودنا والدي في المنزل وخارجه، وفي طرائق تلقي العلم والثقافة.

هذا يعني الاعتماد على المنطق؟
 أجادت عربيات، والمنطق هو التحليل والتفكير، حتى قراءتنا التراثية لم تكن قراءات مُسلّم بها، وكنا نحلل كل نص أدبي أو فكري بعد قراءته.

كانت تستشكل عليك بعض الأمور؟
 كثير من الأمور، وتعودت أن أناقش كل شيء بصراحة مع والدي.

كيف تصف دراستك في المرحلة الجامعية؟
رائعة وكنت متميزاً في مرحلة البكالوريوس ولهذا تكونت بيني وبين أساتذتي صداقة ما زالت عامرة إلى اليوم.

من هؤلاء الأساتذة؟
 الدكتور أحمد الزيلعي ، والدكتور محمد آل زلفة، والدكتور عبد الله العسكر، والدكتور عبد الله الزيدان، والدكتور عبد الله العثيمين، علاوة على الدكتور عبد العزيز الهلابي وغيرهم الكثير، وجميعهم قد أبهروني بسمتهم المعرفي وتواضعهم العلمي وأخلاقهم العالية ، فكانوا حقاً نموذجاً نفتخر به في إطارنا الأكاديمي .

عكاظ شكل شخصيتي الثقافية

اشتهرت الطائف بسوق عكاظ التاريخي كيف كان يقرأ الدكتور زيد نشاط السوق من قبل ومن بعد؟
من أكثر الأمور التي شكلت شخصيتي الوجدانية والثقافية  سوق عكاظ، ففي منتصف السبعينات كنت بالمرحلة الإعدادية حين ذهبت في رحلة علمية مع والدي ومع بعض رجالات الطائف وهم السيد زيد عباس والسيد محمد القُصيّر والشريف محمد بن منصور وجميعهم من أصحاب والدي وأعضاء مجلسنا الثقافي الذي أشرت إليه سابقاً، للوقوف على موقع سوق عكاظ التاريخي، فوقع في وجداني هذا السوق الذي يذكر بالخنساء والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى وغيرهم، والأهم من ذلك زيارة سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، على أن الأمر لم يتوقف عند تلك المرحلة، حيث تجدد تأثير السوق علي في أواخر التسعينات الميلادي من القرن السالف، حين تفتق في محيط عدد من الأصدقاء الباحثين بمدينة الطائف عن إمكانية إحياء السوق مجدداً خلال فترة التنشيط السياحي صيفاً، إلا أن تلك الفكرة التي كنا  ابتدأنا تنفيذها  تم وأدها استناداً إلى وجهة نظر دينية ضيقة في حينه، أرجعت السوق برمته إلى العهد الجاهلي، ورأت أن في إحيائه بعث للجاهلية من جديد، غافلة استمرار السوق بهيئته وطبيعته الثقافية حتى سنة 129هـ ، ومتغافلة عن مشاركة الرسول في أعمال السوق لخمس سنوات إبان دعوته قبل الهجرة.

هل رسيتم على بر الأمان؟
 حاولنا في عام 2002م أنا والدكتور محمد قاري مدير الهيئة السياحية بمدينة الطائف، والدكتور عائض الزهراني، والأستاذ والقاص محمد منصور الشقحا، والأستاذ محمد البلوي، والقاص خالد خضري، والشريف المؤرخ محمد بن منصور، والأستاذ المؤرخ مناحي القثامي، وغيرهم ممن لا تحضرني أسماءهم، حاولنا أن نطرح إحياء سوق عكاظ من جديد، وأن نقيم خيمة النابغة، لكن قُضيِ على هذا المشروع مجدداً قبل ولادته بسبب بعض التوجهات المتطرفة، على أن الأمر قد تجاوز الزمن اليوم مع وجود صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل الذي فرض إقامته بشكل دوري، ودعم وجوده مادياً ومعنوياً حتى قام على أشده اليوم، وأصبح علامة فارقة في المشهد الثقافي السعودي .

كتبت مقالاً بهذا الصدد؟
نعم، نشرت في جريدة المدينة مقالاً بهذا الخصوص، وناشدت الأمير خالد الفيصل لتبني إعادة إحياء سوق عكاظ، وجاء مقالي تعليقاً على برنامج أمير الشعراء الذي تنتجه وتبثه قناة أبو ظبي، وقلت حينها: "أن أمير الشعراء برنامج رائع وقد أعطى لمدينة أبو ظبي ما تريده من وهج إعلامي ، ولكنه فاقد للروح الشعرية لأنه لا ينتمي للمكان ولا للزمان"، وكان عنوان المقال أما آن لعكاظ أن يكون لها شاعرها.
وقد حظي المقال بقبول عند أهل الثقافة والفكر، وفيما بعد أكرمني الله بأن أشارك رسمياً في مهرجان عكاظ عام 2009م ممثلاً لنادي جدة الأدبي، حيث ألقيت محاضرة فيه بعنوان: "المشهد الثقافي السعودي : الواقع والتحديات"

المشهد الثقافي سيء، واتطلع للحرية الفكرية الإعلامية

كيف تقيم المشهد الثقافي السعودي؟
 سيء ويستحق أن يكون أفضل مما هو عليه.

ما هو السبب؟
 هناك معوقات عديدة، كالفهم الخاطئ للدين الذي يُعتبر من أول المعوقات للمشهد الثقافي السعودي، حيث لا نستطيع إلى الآن مناقشة الكثير من قضايا الفكر بحرية، وما زال لدينا إشكاليات في قضايا قد عفا عليها الزمن بدول مجاورة في الخليج العربي منذ خمسين عاما.

ما هي القضايا الفكرية الممنوع طرحها بحرية؟
 مناقشة أفكار بعض المدارس وعلى سبيل المثال لا الحصر ـ الصوفية ـ لا نستطيع أن ندرس التصوف بحرية، ولا أن نناقش فكر المعتزلة بحرية، وكل ثقافة مدرسة العقل هي من التابوه المحرم، ناهيك عن الدعوة إلى إنشاء معاهد للفنون والموسيقى، والمطالبة بممارسة بعض الحريات الخاصة كأمر قيادة المرأة للسيارة، ومفهوم الاختلاط، الذي لولا حدوث تغيير في الآونة الأخيرة مع وجود جامعة الملك عبد الله، لبقينا نعيش في قضية عقيمة مفادها هل يجوز الاختلاط أم لا يجوز؟ إلى غير ذلك من البدهيات التي لا تخالف الشرع في أساسياته وكلياته المتفق عليها إجماعاً، ومع ذلك نُفاجأ بمن يأتي ليحارب بقوة توجهك ويقوم بتبديعك وتفسيقك لمخالفتك رأيه الشرعي الذي يتصوره رأياً قطعياً لا خلاف فيه، في حين يتطلب المشهد الثقافي الحر مناقشة كل شيء بحرية، ولا يوجد محرمات في المشهد الثقافي إلا ما يتعارض مع الثابت واليقيني من الكتاب والسنة الصحيحة.

 

الملك عبد الله فتح المجال للمدارس الأخرى

إذا عدنا للتاريخ السعودي قبل أربعين عاماً، كانت المذاهب الأربعة تُدرس في الحرم المكي، أين اختفى برأيك هذا المشهد الديني؟
هناك أسباب عديدة لاختفاء مدارس المذاهب الأربعة في الحرم المكي لعل أهمها يعود إلى تغلُب الفكر السلفي الأحادي على طبيعة المشهد الديني في المملكة، الذي تصور أنه يمتلك بآرائه واجتهاداته الفقهية تطابق مع مراد الله ومقصاده، وبالتالي فلا مسوغ شرعي لتكريس الاختلاف الفقهي بين المسلمين عبر تدريس المذاهب الأربعة، ومن خلال المحافظة على ما تبقى من مقامات علمية لتلك المذاهب، ومن هنا كان ضمور التواجد المذهبي بشكل تدريجي حتى بات الحرم يمثل في شكله الظاهري مدرسة واحدة، وهيئة واحدة، حتى جاء عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله يحفظه الله الذي أراد أن يحيى حالة الانفتاح والاعتدال من جديد، فكان نداءه بالحوار بين المذاهب الإسلامية والأديان السماوية، ثم كان أمره السامي بإعادة تركيبة هيئة كبار العلماء بالمملكة لتشمل فقهاء المدارس الفقهية الأربعة بوجه خاص؛ وهو أمر يحمد له لما في ذلك من ترسيخ لحالة الاعتدال التي فرضها الإسلام وأمد عليها.

 

هل تطبق ما تعلمته من والدك على أولادك وزوجتك؟
 أعد زوجتي بمثابة الملكة بلقيس "ملكة سبأ" حيث الحكمة والرأي السديد، خاصة وأنها تنتمي إلى ذات المشرب الذي أنتمي إليه وذات العائلة التي أرجع إليها، ولهذا فأنا في حالة تعاون معها ونقاش مشترك لإدارة شؤون بيتنا الصغير بالصورة التي تعود بالنفع على أبنائنا. أما الأبناء فأنا أتعامل معهم بالثقة والصدق، وهو ما تشربته من والدي، وبخاصة في مختلف القضايا الدينية والاجتماعية والثقافية، فعلى سبيل المثال لا أقوم بممارسة أي نوع من أنواع العنف اللفظي أو المادي للتأكيد على أي قيمة نبوية راسخة، أو لفرض شريعة دينية واجبة، إذ ما أسهل أن يؤدي العبد كثيراً من واجباته الدينية خوفاً أو إرضاء لمجتمع، في حين يتغافل عن ذلك حال انفراده بنفسه، وذلك هو جوهر النفاق الذي أخذ مجتمعنا يتربى عليه دون قصد. لهذا حرصت كما حرص والدي على إعطاء أبنائي كامل حرياتهم مع تأكيد المتابعة وتوضيح خطورة أي إهمال قد يرتكبه أحدهم بجهل، وترك الباب مفتوحا للنقاش بشكل مستديم، ومن ذلك فأذكر أن والدي لم يجبرني قصرا على أداء الصلاة، بمعنى لم يضربني ولم يشدني إليها، لكنه كان دائما ما يردد في صغري قوله لي :"بُني الصلاة واجب ديني يجب عليك أن تصلي لله وليس لي، فإن أردت أن تكون معي في الآخرة ومع جدك رسول الله ومع آل البيت ومع الصحابة رضوان الله عليهم فعليك أن تؤدي الصلاة، وإذا أردت ألا تكون معنا فلا تصلي" وكان دائما ما يرسخ في ذهني "ألا أكذب وأن أصلي لله عز وجل وليس له أو للناس". لذلك لم تكن الصلاة تمثل لي هاجساً، فتربيت أن أصلي لله عز وجل حقيقة، ولا أصلي لوالدي ولا للمجتمع ولا لأحد،  وهذا هو الأصل الذي يجب أن نبني عليه  الحرية والاختيار، هذه التربية اتبعتها مع أبنائي.

دكتور زيد أنت مهتم بدراسات الأنثربولوجية أي "علم الإنسان" ولكن هناك جوانب متعددة منها الثقافية والمعتقدات والممارسات البشرية وعلم الآثار وعلم اللغة، أي الجوانب شغلت اهتمامك؟
 التطور الثقافي الفكري مهم، لكن شغلني أكثر الجانب الثقافي الإنساني أي دراسة تطور ثقافة المجتمعات، هذا الإحساس الإنساني في المجتمعات كان يهمني البحث فيه، والبحث عن خصائصه الذاتية، وطبيعة علاقاته مع الآخر.
وعلى سبيل المثال أثناء البحث في طبيعة الأسواق عند العرب، يمكن التوغل في الحدث ذاته لنتكشف على باقي المجتمع، من حيث معرفة ما هي آلية العمل فيه ؟ وكيف يتم تقسيم العمل به؟، وما هي الطبقات الموجودة ضمن إطاره؟، وما العلاقة بين مختلف التكوينات الاجتماعية داخله وعلى حدوده؟ إلى آخر ما يمكن أن يستجليه الباحث من ذلك، ولا يقتصر الأمر على ذلك فمشهدنا الثقافي واسع ويمكن دراسته عبر منافذ متعددة، كما يمكن دراسة وجودنا التاريخي من خلال محددات جديدة ليس لها علاقة بالتاريخ السياسي أو العسكري الذي ألف المؤرخون المسلمون التركيز عليه .

ماذا ينقص مجتمع الحياة الثقافية في المملكة العربية السعودية؟
 الحرية الفكرية، أكثر ما نحتاجه بشكل عام، إن الحجاز على وجه الخصوص كان يعيش حرية فكرية، والحرم المكي كان يوجد فيه أكثر من إمام وأكثر من مذهب وأكثر من عالم، وأنا لدي مبحث في ذلك أسميته "المثاقفة في التراث المكي"، وهذا الإطار من التنوع الثقافي لم يعد موجوداً اليوم، وهناك فرق شاسع بين أن تذهب "عربيات" إلى مكان وترى نسخاً كربونية، أو أن تذهب إلى مكان آخر وتجد ألواناً زاهية في هذا المكان يعطي خاصية التنوع الفسيفسائي، ولهذا نقول دائما أن أي إبداع حقيقي لا يولد إلا في أجواء كاملة من الحرية.
على أن الأمر لا يقتصر على ذلك، إذ من المهم أن تتضح الرؤية الإستراتيجية للمشروع الثقافي ذاته، بمعنى أن تكون الأهداف لحركة التفاعل الثقافي واضحة في ذهن المُشرِّع الثقافي سواء في شكله الرسمي أو الأهلي، وعند توفر ذلك ستتنامى لدينا وتيرة الحراك الثقافي في مختلف صورها المتنوعة من أدب ومسرح وفنون بصرية وسمعية، لاسيما مع ما نكتنزه من معرفة ونملكه من تراث فكري وأثري خالد، إلا أن غياب الرؤيا ووضوح الأهداف الغائية، قد حجب عنا الكثير من الأعمال الثقافية، وفشل في جانب وأثر من جانب آخر على بعض مشاريعنا الإعلامية الثقافية من مجلات ثقافية متخصصة، مقارنة ببعض الإصدارات المماثلة لها في دولة الكويت على سبيل المثال. وفي المقابل فإن نجاح أي مشروع ثقافي يستلزم غياب أو ضعف سلطة ظاهرة التوجه الأيدلوجي، سواء في شقه السياسي أو الديني، ونماء مساحة الحرية كما أشرنا بشكل مطلق وفق الضوابط الكلية العامة، حتى يتمكن الفكر والإبداع من التألق بالصورة الصحيحة، وبالتالي ازدهار أفاق وملامح المشهد الثقافي في مختلف المجالات الأنثروبلوجية، والفنون الفلسفية، والأعمال الإبداعية من مسرح ورواية وموسيقى إلى غير ذلك، كما هو الحال مع حركة النهضة الغربية، التي سمحت لعلماء عصر الأنوار، التفكير والتأليف والإبداع بحرية تامة، وكما كان الحال في عصر النهضة الإسلامية خلال القرن الثالث الهجري، حين أصبحت أفاق المدرسة العقلية هي المحرك لزمام الحركة العلمية بما تتميز به من رحابة فكرية تنطلق من ثوابتها الإسلامية الكلية حين مناقشة الموروث بمختلف أشكاله، ودون أن يكون للإحساس بثقافة المؤامرة أي تأثير سلبي على منطلق فعلها من جانب، كما لم تحبس نفسها ضمن أحكام عامة نابعة من رؤية عقل كلي لمجمل المتغيرات الثقافية، بل عملت على مناقشة مختلف تلك المتغيرات بذهنية تفصيلية دقيقة.

وعلى اعتبار أن التوجه الأيدلوجي الديني هو السائد بين أطياف المجتمع فقد كان له التأثير الأكبر على طبيعة حركية وتفاعل المشهد الثقافي المحلي، حيث ونتيجة للطبيعة التقليدية المُشكـِّلة لتكوين ذهنية بعض علماء وطلبة العلم في مجتمعنا، المؤمنة باكتنازها لمفاصل الحقيقة الربانية وفق اجتهادها ونظرها، الرافعة نبرة صوتها بشكل حجب عنها سماع غيرها من الأصوات الدينية الأخرى المعتدلة في رأيها الشرعي ومنطلقها الفكري، فقد أدى ذلك إلى ضمور نمو وتيرة الحراك الثقافي بشكل عام، حيث حجب عنا إمكانية تواجد عدد من رموز الحركة الثقافية العربية المعاصرة بحجة خروجهم عن الدين وفق منظورهم، وجعل العديد من مؤيدي الحركة الثقافية التنويرية يُحجمُون عن إبداء كثير من أرائهم خشية الوقوع في شرَك المحاكمات الفكرية من قبل سلطة الولي الوصي بحسب تعبير الدكتور معجب الزهراني . والأدهى والأمر حين يمارس هذه الولاية والوصاية الفكرية أشخاص محدودي العلم والمعرفة الشرعية، لمجرد أنهم قد ألمُّوا ببعض أبجديات العلم الشرعي، أو سمعوا قولاً عاماً من عالم شرعي يحتمل الكثير من التفصيل، فحملوه على وجه واحد، هو الذي تناسب مع فهمهم وقصدوا تطبيقه. وليت الأمر قد توقف عند ذلك، بل امتد ليصل إلى حد رفع العديد من القضايا وحشد المحاكمات الفكرية على كل من يخالف توجههم الذي ارتضوا

 

التصوف ليس مذهباً دينياً وإنما منهجاً إنسانياً
 
كيف تعرف التصوف من منظورك الشخصي؟
 التصوف هو البحث عن الحقيقة، والمتصوفة دائما ما يبحثون عن الله، والتصوف حالة روحانية تحاول أن تربط الإنسان بالقيمة الغيبية، والقيمة الغيبية في هذا الكون هي القيمة الإلهية، وأن الإنسان يحتاج حقيقة إلى أن يعيش هذه الحالة الذوقية حتى يحافظ على إنسانيته. والدليل على ذلك أن الغربيين لم يهتموا كثيراً بالدراسات الذوقية وإنما اهتموا بالدراسات العلمية، ومع ذلك وقفوا حائرين أمام بعض التصرفات الغيبية وبدؤوا في تفسيرها تفسيراً غير منطقياً كقضية الأطباق الطائرة على سبيل المثال، وهي البحث عن الماورائيات ـ البحث عن الغيبيات ـ وعندما أنكروا فكرة الغيبيات في لحظة تشدد إزاء الدين، بدؤوا بالعودة من جديد إلى الماورائيات بطريقة خاطئة، على أن التصوف يعيد الإنسان إلى الغيبيات بطريقة جميلة.

 ماذا يعني لك التصوف؟
 يعني لي التصوف الحقيقي السني الارتباط بالله بصورة خالية من التعقيد فيه، إذ فيه تعميق للارتباط بالله وبنبيه، خاصة وأننا نعيش في غبش هذا الزمان، وفي إشكالاته المتعددة، ولذلك ما أحوجنا إلى أن تستكين نفوسنا لحظة من الزمن في مجلس يُذكر فيه الله أولاً، ويذكر فيه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يُذكر فيه آل بيته والصحابة الراشدين فنشعر بالهدوء والسكينة، والتصوف ظاهرة إيجابية وقيمة إيجابية رائعة يجب الاستفادة منها.

أين يكمن الإشكال في هذه الظاهرة؟
 دخل على هذه الظاهرة عدد من التصرفات الخاطئة، مثل الدروشة ولا يمكن أن نطلق عليها تصوفاً.

ما المقصود بالدروشة، هل تعني الحضرة؟
 لا يوجد في التصوف السني مفهوم الحضرة، أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحضر المجلس ويقوم بمباركة الحاضرين، هذا المفهوم غير سليم وليس له أساس صحيح، وإنما هي من التخرصات والبدع الدخيلة على التصوف، كما أن ذلك ليس له وجود في الحجاز، مع وجوده في بعض الدول العربية، التي ساد فيها الدروشة نتيجة للجهل، وبالتالي فمن الظلم نسبتها إلى التصوف، كما من الظلم نسبة الأفعال الخاطئة إلى الإسلام، وهكذا فهذه التشوهات والدروشات لا تمت إلى حقيقة التصوف السني بصلة.

هل تعتبر نفسك متصوفاً؟
 بشكل كلي لا، لكني أحاول أن أهذب نفسي بين الفينة والأخرى.

متى يصل الإنسان إلى مرحلة التصوف؟
 عندما يصل إلى مرحلة الفناء، أي الذوبان والعشق مع الله ومع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وطالما يعيش الإنسان  حالة من حالات التفكير العقلي والمنطقي لا يمكن أن يصل إلى مرحلة التصوف، ولكن يصل إلى المفهوم الإيماني الكلي كون المنطوق الإيماني هو منطوق عقلي .

هل تقصد للوصول إلى التصوف لا بد من الانقطاع عن الحياة العملية مثل رابعة العدوية، وإبراهيم بن أدهم الذي ترك الأمارة وتفرغ للعبادة كليا والزهد في الدنيا؟
 هذه حالة ورد عليها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عندما جاءه العابد وقد تمثّلَ لله تعالى فقال له النبي: "أنا أعمل وأصوم وأفطر وأصلي وأرتاح وأتزوج النساء" لذا يجب أن يكون التصوف مطابقاً لسنة النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم، والشطط مرفوض.

هل أصبح التصوف اليوم تعبيراً عن المراء في الحجاز ؟
 لا أعتقد، ولكن وجوده قد تكرس كردة فعل إزاء الرفض الذي جوبه به، لأنه كان هناك رفض غير منطقي إزاء مجالس الذكر، وتم تشويهها ووصفها بأنها مجالس للشرك، وذلك غير صحيح أبدا، بل وفيه ظلم وتجني.

هل يحضر الدكتور الفضيل مجالس الذكر؟
بالتأكيد، وبكثرة في خلال السنة، وإذا دُعيت أذهب وأجدها فرصة لأن أعيش حالة من حالات الصفاء مع نفسي، وأحب أن أشير إلى أن التصوف ليس قضية إسلامية، وإنما قضية إنسانية، وموجودة عند كل المذاهب والكل يريد أن يصل بعلاقته مع الله سبحانه وتعالى إلى أفضل درجاتها، والتصوف ليس مذهباً دينياً بل منهجاً إنسانياً وسلوكياً، وليس حكراً على مذهب محدد.

 

 الساكنون في المملكة العربية السعودية من الأسر الهاشمية اليمنية ما حكايتهم في كتابك؟
 هذا الكتاب سببه أنني شعرت في لحظة من اللحظات بأن مجموعة أفراد الأسر التي أرتبط معها بعلاقة قرابة من ناحية الانتساب إلى النبي عليه الصلاة والسلام من الأسر التي هاجرت من اليمن إلى المملكة العربية السعودية نتيجة للأزمة السياسية التي حدثت خلال فترة الستينات والحرب الأهلية التي صاحبتها، ولهم في المملكة خمسين عاماً، وقد انفصلت أواصر علاقتنا باليمن بشكل عام نتيجة التباعد، ولم يعد بيننا وبينهم أي اتصال، فخشيت أن ينصهر هؤلاء ويضمحلوا وينسوا أنفسهم وينساهم المجتمع، وبحكم أني باحث متخصص بالأنساب وكذلك والدي لديه كتاب في هذا المجال بعنوان "الأغصان لمشجرات أنساب عدنان وقحطان" وهو أول كتاب معاصر يوصل الأنساب إلى الوقت الحاضر، ومن خلال هذا الكتاب جمعت الأسر وعرّفتُ بها، وبالتالي فكتابي الصغير جاء بمثابة دليل تعريفي فقط للأسر الموجودة في المملكة، حيث آتي باسم الأسرة ولمن يعود نسبها من آل البيت رضوان الله عليهم، وأذكر سندهم المتصل عندي والثابت، وأذكر نماذج من هؤلاء بعد أن أصبح منهم موظفون إما في قطاع حكومي أو في قطاع خاص في المملكة العربية السعودية.

لماذا قراطيسك مبعثرة؟
 طبيعتي مبعثرة، وهذه أوراق من مختلف القضايا الفكرية ولا تعبر عن دراسة محددة وهي عبارة عن مقالات مطولة، ومشكلتي الصحفية أنني أكتب بتطويل وأبحث بعمق، وهي أشبه ما تكون بدراسات مصغرة كما يخبرني بعض الأصدقاء، وهي مبعثرة من حيث الاتجاه الثقافي.

كيف تتحمل زوجتك هيفاء هذه الفوضى؟
 بأن لا تدخل مكتبي.

من يرتب لك مكتبك؟
 أرتبه بطريقة فوضوية، ولم أستطع التخلص من هذه العادة السيئة.

 

المشهد الثقافي في الرياض أعمق منه في جدة

الدكتور الفضيل يحضر الصالونات الثقافية في جدة كيف تقرأ هذا المشهد مقارنة بالرياض؟
 الصالونات الثقافية هي مشهد من مشاهد الثقافة وهي المظهر الرئيسي للتنمية الثقافية كونها تعكس واقع المجتمع، لكنها إلى الآن لم ترق إلى الشيء المطلوب الذي آمله في مدينة جدة على وجه الخصوص بالمقارنة مع مدينة الرياض، كون المشهد الثقافي في الرياض أعمق أثراً من المشهد الثقافي في جدة، سواء بالحضور أو بالخطاب الفكري، أو بالعمق الثقافي، وأصحاب رؤى فلسفية عميقة، أما الصالونات الجداوية يغلب عليها المشهد الاقتصادي أكثر لوجود رجال أعمال وسيدات أعمال.

أي الصالونات كانت تشدك في الرياض؟
 لا شك صالون الدكتور والفيلسوف والكاتب راشد المبارك، وأهم ما يميز صالون الدكتور راشد الحرية الفكرية والطرح الثقافي العميق، وكنا نستمع في التسعينات إلى قضايا لا يمكن للمرء أن يسمعها من مكان آخر في تلك المرحلة، وعلى سبيل المثال لا الحصر الشيخ حسن المالكي ذاك الفقيه المشاغب إذا جاز التعبير طرح بحوثه الجريئة جداً في مجلس الدكتور راشد المبارك، وكان كتابه قراءة في كتب العقائد "المذهب الحنبلي نموذجا" الذي ينتقد فيه المذهب الحنبلي بكل صراحة ـ أساسه ـ هو محاضرة طويلة في مجلس الدكتور راشد المبارك وبحضور نخبة من العلماء السلفيين.    

هل كنت تحضر مجلساً آخر؟
 أجل كنت أحضر مجلس شيخي وأستاذي النابغة والمنصف علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر، وأرتبط معه بعلاقة جيدة امتداداً لوالدي ـ رحمه الله ـ وكان له خميسية تُعقد في الضحى حيث تبدأ الساعة العاشرة وتنتهي مع صلاة الظهر، وكان يُعتبر من أعمدة المشهد الثقافي السعودي وله وزنه في المملكة العربية السعودية، وكان يرتاد مجلسه نخبة من المثقفين والوزراء ويناقش الكثير من قضايا الأمة في تلك الخميسية، وأصبحت صالوناً ثقافياً رسمياً بعد وفاته رحمه الله.

 

إلى من يعود الفضل في ذلك؟
إلى القيادة السعودية وإلى دعم صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز بتكوين مؤسسة حمد الجاسر الثقافية، ومن ضمن أعمال هذه المؤسسة الصالون الثقافي الذي ما زال مستمراً إلى الآن كعادته في الصباح وفي منزله في دارة العرب، كونه صاحب ورئيس تحرير مجلة العرب، وعندما أذهب إلى الرياض أصر على حضوره.

بعد عودتك من الرياض ودراسة الدكتوراه في جامعة الملك عبد العزيز، هل شعرت بالفرق بين الجامعتين؟
 لا شك أن الجامعتين عريقتين، وهما أكثر تميزاً في العلوم الإنسانية في المملكة العربية السعودية، وحتى أُعطي الفضل لأهله لا شك أن جامعة الملك سعود كان لها الفضل في تكويني المنهجي، فأتيت إلى جامعة الملك عبد العزيز جاهزاً.

هل ترتبط بعلاقات جيدة في جامعة الملك عبد العزيز؟
تربطني علاقات جيدة بعدد من الأساتذة الذين استفدت من خبراتهم في بعض الأفكار.

أنت عضو في النادي الإعلامي السعودي، كيف تقرأ الصورة الإعلامية في السعودية؟
أطلقنا عليه جمعية الإعلاميين السعوديين، والعضوية مفتوحة لكل الإعلاميين السعوديين وغير السعوديين، وتجمع كل من يتعاطى في المجال الإعلامي المرئي والمسموع والمقروء وفي مختلف مراحله ـ صحافة وكتابة ونشر وإنتاج وتصوير وإخراج ـ وهذه الجمعية لها رؤى وأفكار .

أما رؤيتي للمشهد الإعلامي اليوم فلا شك أنه متطور عما كان عليه بالأمس، لأنه خرج عن نطاق الرتابة والتقليدية، وأصبح أكثر انفتاحاً، والسبب يعود لانفتاح العالم على بعضه البعض، ونأمل أن يكون أفضل مما هو عليه، لأن بعض الدول المجاورة لديها مشهداً إعلامياً أفضل مما لدينا، بالرغم من أننا نملك المقدرة للمنافسة ولكن ما زلنا نعيش ضمن إطار البيروقراطية آملين أن نتخطاها بمساحة من الحرية الفكرية والمعتمدة في كل دول العالم، وليست الحرية المتفلتة.

متى وكيف شاركت في العمل الصحافي؟
 في مرحلة الدراسات العليا كنت محرراً ثقافياً في جريدة الرياض، وشاركت في قضايا ميدانية ثقافية، وكنت من أوائل من طرح قضية التنوع والتعايش المذهبي والإنساني وناقشتها بقوة، وجاءت مشاركتي الصحفية نتيجة لشعوري الذاتي بقصور كبير في العمل الثقافي آنذاك، نظراً لكون الذين عملوا في هذا الحقل ليسوا على مستوى عال من الحس الثقافي، وبعدها تابعت بعدة صحف وبمختلف المقالات الثقافية، ونوعاً من أنواع التفكيك في الخطاب الفكري، وفي المجال السياسي أيضا كوني أنتمي لأسرة سياسية، فالسياسة جزء من تكويني الثقافي.

بما أنك عرجت على العمل السياسي، ما هو الإشكال الذي حصل في قناة المستقلة؟
الدكتور محمد الهاشمي أعرفه من مرحلة سابقة وأعتز بمعرفته، وشرفني في منزلي لكن عندما طرحت قناة المستقلة مسألة الحديث عن التكوين الثقافي لليمن في مرحلة سابقة اتصل بي الدكتور الهاشمي عن طريق سكرتيرته الخاصة بهاتفه الخاص وطلب مني المشاركة بالحوار باعتباري باحث متخصص في التاريخ وأمتد أسرياً إلى تاريخ دولة الأئمة، غير أنني ومع بداية المشاركة تفاجأت بالمساحة الصغيرة التي منحني إياها، كما كان يقوم بمقاطعتي، ويسمح للمشاركين في الاستديو بأن يقولوا كلاماً ،على الهواء مباشرة، غير صحيح البتة دون أن يعطيني حق الرد، مع العلم أنه كثيراً ما كان يقول: "أنا أكفل للآخرين حق الرد" لذلك نوهت بقولي أنا لي حقين في هذا البرنامج حق التخصص وحق الانتماء لأنكم تتحدثون عن تاريخ الأئمة الذين أنتمي إليهم نسباً.

هل المذهب الزيدي يختلف كثيرا عن المذهب السني؟
الزيدية هي سنة الشيعة وشيعة السنة وهي جزء رئيسي من السنة وتتوافق مع السنة بنسبة 90%إلى 95%وإن اختلفت مع بقية المذاهب السنية فاختلافها معهم مثل اختلاف المذاهب السنية مع بعضها البعض، نفس اختلاف الشافعي مع أبو حنيفة مع أحمد بن حنبل مع مالك لأن الشافعي لا يتطابق مع أحمد بن حنبل، وأبو حنيفة لا يتطابق مع مالك بن أنس، ومع ذلك هم ضمن إطار السنة، هذا المفهوم هو الذي كنت أصدح به في المستقلة، لكن الدكتور الهاشمي خذلني ولم يعطني المساحة القانونية الكافية والمشروعة، ربما لحسابات سياسية لديه، فاضطررت لإعلان الانسحاب، وعبرت عنه ببيان خاص، وأشرت إلى أن ضيوفه لم يكتفوا بالتعرض لأئمة آل البيت في القرون المتأخرة، بل استهدفوا أئمة آل البيت خلال الثلاثة القرون المفضلة، عندما اتهموا الإمام القاسم الرسي المتوفى سنة 246هـ بأنه كان متأثراً بالفرس وبالثقافة الفارسية، وهذا كلام مرفوض قطعاً.

عملت بأكثر من صحيفة لأي صحيفة تسجل انتماءك؟
 الشرق الأوسط دولية وكانت لها مساحة رائعة، وجريدة الرياض تكونت مفرداتي الصحفية فيها، أما جريدة المدينة فهي أكثر الصحف السعودية التي كنت مستمراً معها كونها ذات سمة إسلامية معتدلة، ومساحة الحرية فيها جيدة وأرتبط فيها وجدانياً بحكم ارتباط اسمها بمدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام .

زوجتي الملكة بلقيس لا تنطبق عليها الأحكام

 

ما دور الزوجة في هذا النجاح؟
 الزوجة لها دور كبير في هذا النجاح، لأن المرأة تستطيع أن ترفع الرجل إلى درجات عالية، والحمد لله رب العالمين زوجتي استطاعت أن تكون الداعم الحقيقي لنجاحي، ولم تحملني عبئاً تثقلني به، نحن أهل الثقافة "معترين" بلغة أهل الشام لم نبحث عن المال وليس لدينا الوقت للبحث عنه، كما أنها اهتمت بتربية أولادي.

كم ولداً عندك؟
لدي بنتين وولدين وأكبر بناتي أثير في المرحلة الجامعية وهي مهتمة بالشأن الاجتماعي، وهي عضو في جمعية تعارف للمسؤولية الاجتماعية، ولديها نشاطات جيدة في مدينة جدة.
أما محمد فهو في المرحلة الثانوية حالياً، وابني هاشم الصغير في المرحلة الابتدائية ويبدو أنه قريب من توجهي ومحب للفنون الموسيقية، كما أحظى بابنة صغرى وهي فتون في المرحلة الإعدادية.

ماذا عن الوالدة؟
 رحمها الله وممتنٌ لها كثيراً، وأكثر ما يؤلمني أنها لم تعش خيري، لأنها توفيت وأنا ما زلت طالباً في الجامعة، لم أشعر أنني كنت قريباً منها لأنني نشأت في مجلس والدي وفي أحضانه

ألم تتربى بين بساتين الطائف؟
 كان لدينا عدداً من المزارع نذهب إليها ونمكث فيها أياماً وليال، نطرب فيها فوالدي كان يتمتع بصوت جميل، وحافظاً للألحان التراثية وكان شاعراً قوياً، ينظم الشعر باستمرار، ومعظم شعره وصفي، أو بالرثاء، وله قصائد في مدح النبي عليه الصلاة والسلام.

 ماذا تقصد بالمراثي؟
 كان يرثي حاله، ووضعه بعد رحيله من اليمن، وكيف عاش الجيل الأول 40 سنة مأساة و40سنة في حال أخرى، وما خفف هذا الألم بكل أمانة إلا استضافة المملكة العربية السعودية والملك فيصل الحانية وإكرامه هو و ملوك المملكة لهذه الأسر وتوفير الرعاية والاحترام لهم وكم كان يردد والدي مقولته "خرجنا من الحجاز وعدنا إلى الحجاز".

ألم يرثي والدتك؟
 عندما مرضت والدتي عام 1985م ونقلت إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض مكثت قرابة خمسة عشر شهراً، لم يغادر والدي المستشفى نهائياً إلى أن انتقلت إلى الرفيق الأعلى، وعندما توفيت رثاها بقصيدة طويلة من ثلاثين بيتاً مطلعها:

دعوها تستبيحُ دمي ونفسي   فما بعدُ أم زيدٍ ما يُؤسّي

فهيا يا بنات الدهرِ طُرّا       تعالي كسري رُمحي وترسي

فما شأنُ الحياةِ بغيرِ حبٍ     ولا أملٍ ولا جدٍ مُرسّي

أيا أم البنين لو أن نفسا بنفس تفتدى لفدتك نفسي

كلمة أخيرة
 الشكر الجزيل  لـ عربيات على هذا المشوار لأن حياتي ما زالت قصيرة وليس عندي الشيء الكثير.