معتبراً انضمام فلسطين إلى الأمم المتحدة خطوة إيجابية لن تسمح بها الولايات المتحدة

نعوم تشومسكي:أمريكا تقف ضد التحولات في المنطقة وعندما تفشل تسعى إلى ترميم الأنظمة

رشيد فيلالي - الجزائر
صور وفيديو

تنفرد عربيات بحوار حصري  مع العلامة اللغوي والفيلسوف الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي "Noam Chomsky" تم اغتنام فرصة هذا اللقاء لطرح جملة من الأسئلة التي تمس عدة قضايا جوهرية، فضلاً عن قضايا أخرى لغوية وفكرية وفنية كثيراً ما طرحت دون أن تجد إجابات شافية. فنترككم مع إجابات بلغة "تشومسكي" ذات الأبعاد المتعددة والفكر المتعمق لتحليل الأحداث.


ـ في البداية نود معرفة ما هو الجديد بخصوص رسالتك الأخيرة الموجهة بصوت عال وواضح إلى منظمي حركة "وول ستريت" الاحتجاجية التي اعتبرها البعض مساندة قوية؟
بخصوص منظمي حركة "وول ستريت" فأنا لست بالضرورة معهم، لكن مهما كانت أحكامنا ذاتية إلا أننا نحمل نفس الهموم المشتركة .

الربيع العربي له أهمية تاريخية

وماذا عن الربيع العربي؟
هذا موضوع واسع جداً، و إجابة مقتضبة لا تفيه حقه من التحليل لذلك أنا في خشية من أمري،  وباختصار أعتقد أن الربيع العربي يمثل تطوراً ذا أهمية تاريخية، فهو ضمن هذا المفهوم على الأقل استطاع أن يزلزل أسس بعض الأنظمة الديكتاتورية، و يمكن بذلك أيضاً أن يفتح مجالاً واسعاً للتخلص من التبعية التاريخية للقوى الغربية، فأمريكا الجنوبية قامت بذلك منذ حوالي عشر سنوات، ونتائج التغيير مجسدة الآن، وفي تونس ومصر أيضا لكن بشكل لا يزال محدوداً على اعتبار أن هناك العديد من العوائق التي  ما انفكت  تقف عقبة في طريق التغيير الحاسم، وأعتقد أن هناك مزيداً من القول حول كل حالة على حدة.

أمريكا وإسرائيل لا تشجعان الديموقراطية في البلدان العربية

ثمة سؤال ملح تطرحه أوساط عربية متخوفة مما يحدث، ومضمونه هو أن أمريكا وإسرائيل والغرب عموماً هم الذين يقفون خلف الربيع العربي، فما هي وجهة نظركم حول هذا الطرح؟
لقد سبق وأن كتبت حول هذا الموضوع، فأنا أعلم بأن هناك إشاعات تذهب إلى القول بأن الولايات المتحدة تسعى إلى تشجيع الربيع العربي لكنني أعتقد أن العكس هو الصحيح، إن الولايات المتحدة تخشى مثل هذه التحولات وتوظف كافة الوسائل الممكنة للحيلولة دون تحقيق ذلك وهذا بدعم الأنظمة الموالية لأطول فترة ممكنة، وحين تفشل في هذه المهمة فإنها تحاول ترميم الأنظمة القديمة قدر الإمكان، إنها إجراءات معتادة  تطبق في مثل هذه الظروف بمختلف مناطق العالم و بالتالي فإن آخر شيء تريده الولايات المتحدة وحلفاؤها هو تطبيق الديموقراطية في الدول العربية.

الكاتبة نعومي وولف تؤكد في كتابها " نهاية أمريكا" أن بلد العم سام مهدد فعلاً بالسقوط على إثر غياب القيم الديموقراطية التي تأسست عليها، فما هو رأيك حول هذا الموضوع؟
لست متأكداً أنني فهمت قصدك، تريد أن تقول أن الولايات المتحدة مهددة بالسقوط جراء غياب القيم الديمقراطية (التي بالتأكيد لم يتم تأسيسها؟).

لقد قالت"وولف" بأن الولايات المتحدة مهددة بالسقوط  لأن الساسة الأمريكيين قد تخلوا عن القيم الديمقراطية  التي تأسست عليها الولايات المتحدة(بلد العدالة والحرية).
استناداً إلى معايير القرن الثامن عشر كانت الولايات المتحدة تعد رائدة في تجسيد القيم الديمقراطية، وليس مقارنة بالمعايير المعاصرة،  فهذا أكيد، لقد أظهرت دورة القيم الديمقراطية على مر العصور تقدماً وتراجعاً، كما أن هناك عدة أبعاد في هذا المجال، وأشير فقط  ضمن هذا السياق إلى أنني لا أعرف جيدا قصدك أنت (أو هي) من وراء مفهوم " سقوط " الولايات المتحدة، إنها مسألة معقدة، وقد كتبت حول هذا الموضوع (وكتب غيري أيضاً) ولا أتصور أن تصريحاً بسيطاً يكفي لتحديد جوهر هذه القضية.

إن المقصود بالسقوط حسب فهمي لكلام السيدة وولف هو إمكانية تراجع مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى وترك المجال لحلول قوى أخرى مكانها على غرار الصين مثلاً.
إن الولايات المتحدة قد تراجعت كقوة عظمى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث بلغت قوتها وتطلعاتها الذروة، وفي السبعينيات من القرن المنصرم بلغ هذا التراجع حدوداً معتبرة، وما يحدث يعد شيئاً طبيعياً فالعالم صار اليوم أكثر تنوعاً، وعلى صعيد آخر نقول أن الصين بالفعل حققت معدلات تنموية مذهلة، لكن هذا البلد فقير جداً من حيث الموارد وهو في مواجهة مشاكل هائلة، وبالتالي فالصين ليست قوة عظمى محتملة، وإن حدث ذلك فلن يدوم لفترة زمنية طويلة.

انضمام فلسطين إلى الأمم المتحدة خطوة إيجابية لن تسمح بها الولايات المتحدة

هل تعتبر قبول فلسطين مؤخراُ في عضوية الأمم المتحدة خطوة هامة وإيجابية من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وباعتبارك مدافعاً عن القضية الفلسطينية ما هي توقعاتك الإستراتيجية لمستقبل هذا البلد في ظل استمرار المحتل الإسرائيلي في تعنته السافر من خلال مواصلته بناء مزيد من المستوطنات؟
ستكون خطوة إيجابية طبعاً غير أن الولايات المتحدة لن تسمح بذلك، ومن جهة أخرى فإن استمرار بناء المستوطنات غير الشرعية على الأراضي المحتلة سيقوض أي أمل للتوصل إلى حل سلمي ودبلوماسي للنزاع القائم.

لقد كتبت بالكثير من الهمة و الشجاعة عن مسؤولية المثقفين، كيف تفسر الخطاب المزدوج لعدد من المثقفين الغربيين إذ على سبيل المثال عادة ما تلاحظ هؤلاء المثقفين يتحدثون بلغة معتدلة وحكيمة حين يتعلق الأمر بالمشاكل الداخلية لبلدانهم، بيد أنهم فجأة يتحولون إلى العدوانية وحتى العتصرية عندما يتحدثون عن مشاكل دول أخرى سيما منها البلدان النامية؟
في الحقيقة  نحن نجد عبر كافة أطوار ومراحل التاريخ أن قطاعات المثقفين تميل في العادة إلى أن تكون سنداً مناصراً للحكام، أما القطاعات الأخرى التي تكون في العموم  بسيطة وعادية فهي التي تبادر إلى إدانة الجرائم التي يقترفها الأقوياء وأصحاب النفوذ ولذلك فإنها تهمش في أحسن الأحوال أو حتى تخضع لعقاب شديد أحياناً، وجواباً على الشق الثاني من سؤالك أقول بالفعل إن مهمة إدانة جرائم الآخرين سهلة جداً، وهذا ربما في الحالة المذكورة قد يكون أمراً محبطاً لكنه غير مستغرب على الإطلاق.

السينما الأمريكية لازالت تصور العرب كإرهابيين، ألا ترى بأن هذا النوع من الدعاية العنصرية يزرع  الحقد والضغينة بين الشعوب؟
هذا صحيح وقد استمرت على هذا النهج لسنوات طويلة، وأعتقد أن  السيد جاك شاهين كتب عن هذا الأمر بتوسع.

اللغة العربية قادرة على مواكبة التقدم العلمي والحرف العربي ليس عائقاً

يتميز التراث العربي بثراء كبير في مجال الدراسات اللغوية هل استفدتم من هذا التراث؟، و ثمة سؤال آخر أجده ضرورياً ضمن هذا السياق، وهو بشأن الست آلاف لغة المنتشرة حالياً في العالم والتي تمثل تهديداً جدياً جراء الانتشار غير المعهود للغة الإنجليزية - برأيكم - كيف لنا أن نحافظ على هذا التراث الإنساني؟
لقد درست القواعد العربية الكلاسيكية (سيبويه وآخرين) منذ ستين سنة، وحتى قبل ذلك عندما درست قواعد اللغة العبرية الوسطى والتي اقتبست من القواعد العربية، و أجد أنه من الصعب تتبع هذه التأثيرات الخاصة بالتراث العربي.
من جهة أخرى، فإن الذي يريد أن يحافظ على التراث اللغوي الإنساني فليفعل ذلك، هناك لغات تم إحياؤها على غرار لغة الباسك، وهناك حالة مذهلة للغاية مثل حالة لغة قبيلة الوامبانووغ "Wampanoag" التي لم يعد أحد يتحدث بها منذ مائة سنة، لكن تم إحياؤها من جديد على يد مجموعة من الباحثين بمعهد "ماساتشوستس" للتكنولوجيا وذلك بالتعاون مع أحد أفراد هذه القبيلة تدعى جاني ليتل دوي Jennie Little" Doe"وهي من المتحدثين الأصليين  لهذه اللغة إضافة إلى أفراد آخرين من ذات القبيلة، وهناك شريط وثائقي مهم أعد خصيصاً في هذا المجال من طرف الباحثة آن ماكابيس "Anne Makepeace".

هل صحيح أن اللغة العربية غير قادرة على مواكبة التقدم العلمي ؟
لا، بل هي قادرة هي الأخرى على مواكبة التقدم العلمي شأنها في ذلك شأن غيرها من اللغات .

هناك لغويون عرب يطالبون منذ مطلع القرن العشرين بتغيير الحروف العربية على غرار ما فعل  الأتراك الذين  اختاروا بدل الحرف العربي الحرف اللاتيني لأن ذلك حسب اعتقادهم سيحقق لهم التقدم المنشود، لكن حسب دراستي للغة اليابانية فإن اليابانيين للآن يستعملون أربع أبجديات مختلفة في الكتابة (الهيراغانا، الكاتاكانا، الكانجي والرومانجي) وضمن نص واحد وهي  كما تعلم أبجديات صعبة للغاية ورغم ذلك فإن الشعب الياباني متقدم جداً على شتى المستويات، ما تعليقك سيدي ؟
اليابانيون يعيشون في توافق تام مع أبجديتهم وكذلك الصينيون، إن الأبجدية العربية ليست عائقاً أمام تقدم العالم العربي، وبالنسبة للتهجئة التقليدية في اللغات السامية فإن حذف حروف العلة فعال جداً، لكن في العموم توجد هناك حول هذه القضية حجج مؤيدة ومعارضة .

هناك أيضاً من يطالب بإحلال اللهجة العامية في مجال التدريس كبديل عن اللغة العربية الفصحى، علماً بأن اللهجات العربية فقيرة جداً من حيث المصطلحات فما هو رأيكم سيدي بخصوص هذا الطلب؟
لقد سبق لي وأن سمعت بمثل هذه المطالب لكنني أشك في جديتها وهي بالنسبة لي غير واضحة وبالتالي فإنني لا أرى ما هو غير واضح.

ثمة ظاهرة عالمية أضحت منتشرة بقوة في الوقت الراهن وهي تتعلق بتراجع معرفة الشباب للغتهم الأم، حيث صاروا يلجؤون إلى استعمال لغة تخاطب مختزلة ومشوهة في مواقع التواصل الاجتماعي وكذا في اتصالاتهم الهاتفية (الرسائل الالكترونية مثلاً ) ألا يعد ذلك تهديداً محتملاً لمستقبل اللغات؟
أنا على دراية بأن مثل هذه التصرفات من الشباب محل احتجاج  ومعارضة الكثير، غير أنني إلى غاية الآن لم أصادف أي دليل يؤكد صحة مثل هذه المخاطر والتهديدات المحتملة.

سيرة غير عادية

البروفيسور أفرام نعوم تشومسكي من مواليد 7 ديسمبر 1928 بفيلاديفيا (بنسلفانيا ، الولايات المتحدة الأمريكية) وهو من أسرة مهاجرة قدم أفرادها من أوكرانيا وروسيا البيضاء ، ليستقروا أولاً في نيويورك قبل أن يشدوا الرحال مجدداً ويختاروا فيلاديلفيا مقراً لإقامتهم.
 
وبعد مسيرة دراسية ناجحة عين تشومسكي أستاذاً للغويات مدى الحياة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (درس به أكثر من 50 سنة)، وله اسهامات عظيمة في البحوث اللغوية صنفته "أب اللسانيات الحديثة" كونه صاحب نظرية النحو التوليدي التي أحدثت ثورة في البحوث اللغوية النظرية في منتصف القرن العشرين، كما أنه مؤسس ما صار يعرف حاليا بتراتبية تشومسكي  في تصنيف اللغات، وهو بالإضافة إلى ذلك مفجر الثورة الإدراكية في علم النفس، إذ كانت بحوثه سبباً في مراجعات جذرية غير مسبوقة منذ الخمسينيات، ناهيك عن التأثير العميق الذي أحدثته بحوثه في مجالات الفلسفة العقلية  واللغوية والرياضيات والتاريخ والإعلام الآلي، ولم يكتف تشومسكي بكل هذه الفتوحات العلمية المدهشة إذا جاز لنا التعبير، حيث خاض بشجاعة غير عادية في ميدان النضال السياسي منتقداً بشدة السياسة الداخلية والخارجية لبلده أمريكا، وله في هذا الخصوص مواقف جليلة في الدفاع عن القضايا الإنسانية (معارضته لحرب الفيتنام ) وكذا العربية والإسلامية وفي طليعتها  القضية المحورية فلسطين ضمن صراعها الأزلي مع المحتل الإسرائيلي، رغم أنه يهودي الديانة !
 
ألف نعوم تشومسكي في مسيرته العلمية الحافلة بالإسهامات المدهشة أكثر من 100 كتاب تم ترجمتها إلى جميع اللغات العالمية ووزعت منه ملايين النسخ، وقد عد الرجل المرجع العلمي رقم واحد ما بين سنوات 1980 و1992، والثامن في التاريخ العالمي،وفي استطلاع للرأي أجرته عام 2005  المجلة البريطانية Prospect، والمجلة الأمريكية  Foreign Policy.

احتل المرتبة الأولى كأعظم مفكر على قيد الحياة !، فضلاً عن ذلك حصل البروفيسور تشومسكي على أكثر من 30 دكتوراه فخرية وأعلى الشهادات التقديرية والتكريمية من هيئات وجامعات عالمية معروفة، إضافة إلى جوائز من الدرجة الأولى على غرار جائزة كيوتو التي نالها عام 1988 وهي تعادل من حيث قيمتها الرمزية والمادية جائزة نوبل.

كما نال جائزة أورويل الأمريكية مرتين  وميداليات سامية مثل ميدالية  بنجامان فرانكلين و هيلمهولتس،  وحالياً هو عضو في أشهر الأكاديميات العلمية في العالم  وسنكتفي بما ذكرناه من سيرة هذا العلامة  التي لا تحيطها مثل هذه المساحة الصغيرة  مع العلم أن كتباً عديدة تناولت سيرته بإسهاب وتفصيل وقد صدرت في مختلف أنحاء العالم .