"نتيجة المعارك ليست دائما ربح او خسارة فهناك ايضا شئ اسمه تعادل "

ستارة سماوية

سحر الرملاوي

ما كادت تضع صينية القهوة امامهم حتى بادرت السيدة نورة بطرح السؤال الذي كانت تخشاه

ـ نورة: ستارة جميلة.ولكن ماذا تخفي؟
 كانت يدها ترتجف وهي تهم بحمل فنجان القهوة الاول لتقدمه لضيف زوجها. تطلعت الى زوجها بقلق فقال و هو يبتسم ردا على سؤال زوجة ضيفه
 
ـ الزوج: صورة خاصة سيدتي.

ـ نورة: صورة؟
 
نعم يا نورة كانت هناك خلف هذه الستارة صورة .. لا لم تكن صورة , كانت شوكة في النخاع ,كانت وسيلة تعذيب مبتكرة قبلت بها بملء ارادتي يوم توج وحيد احلامي و اعلمني بموافقته على الزواج بي , صورة لكنها هاجس , ترنيمة شقاء كنت اعتقد انها خمدت للابد , لكنها ظلت ملء ايامي , ملء احلامي , ملء احاسيسي...

ـ صورة من ؟
صورتها , صورة باهتة بالوان كئيبة لإمرأة متغضنة , في عينيها سكنت السكينة , و على طرف شفتيها ابتسامة هادئة , مسالمة مستسلمة… صورة لإمرأة لا أحبها...


ـ أنا احبها...

ـ لكنها ماتت!!
ـ حبها لم يمت...

بهذا الحوار المقتضب كان وحيد ينهي الموقف , كنت انا شريكته , كنت من احبته و اخلصت لهذا الحب , كنت من رغبت فيه بكل قوتها , و لم استسلم , لم أشأ لهذا الحوار الذي ارتقبته اعواما ان ينتهي عند هذا الحد , لم اقبل ان تهزمني امرأة خارج حدود دنيانا , لم اسمح له بأن يضع نقطة النهاية فاضفت بضع نقاط و تركت الموضوع مفتوحا..مفتوحا كجرحي الذي لم يبرأ ابدا , مفتوحا كصبري الذي لم ينته , كوجعي الذي لا حدود له،،

ـ كنت أنا الاجدر بك ..

ـ لكنني تزوجتها هي 

ـ كنت أنا قدرك

ـ لكنها كانت النصيب 

كورت قبضتي و قلت بتصميم :

ـ لن اخسرك مرتين...
 

و تزوجت وحيد... تزوجت الحلم الذي دفنت من اجله شبابي , بعد ان عصرت اريجه في زجاجة ثمينة خبأتها دوما لوحيد ، تزوجته رغم أنف الراحلة ، و رغم أنف صورتها التي كانت تحتل جدارا في غرفة مكتبه...

ـ هذا شرطي الوحيد...

ـ و أنا قبلت...

هل كنت مخطئة يوم قبلت ان تظل صورتها جاثمة على جدار مهجور في بيتي ؟

مجرد صورة ماذا يمكن أن تفعل ؟ مجرد سراب سرعان ما ينقشع امام بحر عواطفي و نهر امسياتي و امطار حبي و عواصف عطاءاتي …

أشهد أن وحيدا ابدا ما اشار اليها ، و لا وقف امام صورتها امامي لحظة واحدة ، و لا بخل على زواجنا بالوفاق و السكن ، اشهد ان انتظاري الطويل كان له في كل يوم معه ما يبرره ، و اشهد ايضا ان صورتها الكئيبة التي وضعها وحيد في غرفة مكتبه على جدار لا يواجه عيونه كانت معلقة في رأسي و مشدودة بخيط من الشكوك الى دماغي ، كانت صورتها المهجورة وهما يطاردني في صحوي و في منامي ، كنت انتظر ان يفتح حوارا عنها ، كنت اترقب في الامسيات الحميمة انزلاقة لسان باسمها ، كنت اخترق بعيوني جمجمته حين يصمت لأحلل اسباب صمته ، و اعرف موقعها في حوار صاخب لا اسمعه …
 

مازالت نورة تتطلع بفضول نحو الستارة المنسدلة بلون السماء على الصورة ، لماذا استضافهم زوجي هنا ؟ هل يستدعي توقيع عقد جديد كل هذه الرسميات ؟

تغيم عيوني مع بخار القهوة الحار في الفنجان فأجد صورتها الكئيبة و ابتسامتها المسالمة في البخار المتصاعد يلفح وجهي …

غيرت كل الأثاث و طلاء الحائط واخترت الوانا لا تمت بصلة لالوان كانت تعيش هي فيها، حفظت مخيلتي ارشيفا كاملا عن كل ما كانت تستخدمه واستبعدت كل الأشياء المشابهة،و اصبح البيت ملكي بكل تفاصيله،ملكي و يأتمر بأمري...

كل البيت …

كل البيت بغرفه و اثاثه و الوانه …

كل البيت بابوابه و نوافذه و جدرانه …

ما عدا …

ما عدا …

ما عدا …

وآه من هذا الأستثناء،و آه من هذه ال "ماعدا"


ذات أمسية قمرية ، كنا نحتسي القهوة و نتحدث بوداعة ، كان حبيبي باسما ، و كان القمر باسما ، و كنت أنا باسمة ، لكنه فجأة صمت ، بتر حديثا لا أذكره و نظر مليا للقمر … رأيت إلتماعة عيونه و خشيت دموعه …

يا ربي إذا استبعدت كل الأشياء فكيف ألغي قمرا كانت تحبه ، كيف أغير هواء كانت تستنشقه  و كيف اعطي للطعام و الشراب مذاقا لم تعرفه ؟…

على طرف لساني كان السؤال يحرقني .. كنت اريد أن أسأله إن كان صمته يحمل تحية لها ، إن كانت ابخرة القهوة تفرض طيفها ، إن كان شعاع البدر يرسل شيئا من سحرها ؟

لكنني وقفت ، انهيت الليلة و قلت تعبت …

كنت قد قررت أمرا ، اشتريت قماشا مخمليا متموجا بلون السماء و قلت لزوجي و أنا اخيط آخر غرزة فيه انه ستارة 
ـ لكنها صغيرة ، نحن لا نحتاج إلى ستائر ، اين ستضعينها ؟

قلت له دون ان انظر لوجهه : سأزين بها صورتها...
صمت ، لم يعلق … و لم انتظر تعليقه ، كنت قد قررت،و قبل هو بقراري....

و اصبح للصورة ستارة تخفيها...

" ستارة تخفيها ؟" ما أغبى هذا التعبير .. بل ما أغباني…

اضفت بهذه الستارة لهواجسي هاجسا ، صرت ادخل المكتب كثيرا لألتقط دليلا على إنه حرك الستارة و تأمل ملامحها الغائبة ، بدأت اخترع اشياء صغيرة لأكتشف الأمر ، كنت انتزع من شعري شعرة اضعها بين ثنايا الستارة ، و اعودها في أوقات متفرقة من اليوم لأعرف إن كانت قد تحركت ، اقتنيت عدسة مكبرة لأكتشف أثر اصابعه على الستارة ، و لمت نفسي لأني لم اجعلها منقوشة لأثبت النقش في مكان بعينه و اكتشف حركة الستارة من خلال حركته ، فقمت بعمل نقشا بديعا عليها تعمدت أن يكون متقطعا حتى اكتشف تغير وضعه إذا ما تحركت الستارة ، كان عقلي يعمل كالمرجل طيلة اليوم... كم عذبتني هذه الستارة
نورة:غريب ان نضع الستائر على الصور،إذا كانت للزينة فلماذا تكون منسدلة ، اعتقد ان وراءها مفاجأة...

لكز الضيف زوجته الفضولية ، فلم تكترث و نهضت بعيون معلقة على الستارة...

اشتد خفقان قلبي و انا اراها تتجه للستارة ، مر رأسي بالفصول الأربعة في لحظات…اذا رفعت الستارة ستكون القاضية ، ينبغي ان امنعها ، سأصرخ بوجهها ، سأطردها و زوجها ، سأصيح بها ان تتركنا و شأننا ، نحن أحرار في بيتنا ، أنا حرة في بيتي ، أفعل ما أريد ، أضع ستارة على الصورة ، أزينها ، أتركها منسدلة على لا شيء....أنا حرة
 

منذ شهر تقريبا رفعت الصورة من خلف الستارة ، قررت أن اتحرر منها ، قررت في لحظة جنون أن انقض اتفاقنا ، رفعتها من خلف الستارة و اخرجتها من بيتي ، وضعتها في احد ادراج ارشيف شركتنا ، اغلقت الدرج بالمفتاح و رميت به ، و بقيت انتظر …

كلما دخل زوجي غرفة مكتبه ، تنسحب الدماء من وجهي و ابقى جامدة كالتمثال بانتظار ثورته حين يكتشف غيابها ، إذا لمحته مقطبا جبينه ، اتوقع السؤال الاستجواب ، دبجت آلاف التبريرات ووضعت تفاصيل الموقف عشرات المرات ، رتبت كيف سأثور ، و ماذا سأقول و كيف سأبكي ، و شاهدتني عشرات المرات و انا اعود بالصورة لأضعها في مكانها و اطلب الصفح …

لكن شيئا من هذا لم يحدث ، لم يكتشف زوجي بعد غياب صورته الأثيرة ، لم يكتشف أن الستارة منسدلة على فراغ ، و ها هي نورا بفضولها تكتب النهاية .. لن اقوى على تنفيذ شيئا مما خططت ، لن أثور ، لن أبكي ، لن أبرر ، لقد كان شرطه و أنا قبلت ، مذنبة أنا بكل المقاييس ، لا يوجد ما يقال ، إنها النهاية إذن ، فضول هذه المرأة سيسطر النهاية ، كانت تقترب من الصورة …

ما زالت تقترب …

نظراتنا جميعا مصوبة نحوها ، حتى زوجها غلبه الفضول و ابتلع احتجاجا على سلوك زوجته كان سيطلقه و أخذ يتعرقب المفاجأة …

لم يعد بيني و بين انفصالي عن حبيبي إلا أن تمد يدها لترفع الستار …

تأرجح فنجان القهوة في يدي ، و اصطكت اسناني بصوت عال … و شعرت بالأرض تميد بي و الجدران تخنقني و …

ـ سيدتي..

اخترق صوت زوجي الفضاء الباقي في غرفة التعذيب فالتفتت نورا إليه متسائلة ، فاردف بصوت حازم :

ـ إنها صورة خاصة جدا ، لا احب أن يراها أحد...
ارتبكت السيدة و تمتمت معتذرة و قفلت عائدة....

ابتسم زوجي مجاملا ، و سألني بلطف :

ـ حبيبتي … هل العشاء جاهزا ؟

تنفست الصعداء ، هدأ اضطرابي و تمتمت مبتسمة :

ـ حالاً....
 

تمت
سحر الرملاوي
[email protected]