عندما افترشت الشمس زجاج نافذتها

اغتالوا طفولتك ... يوم قصوا جديلتك

سحر الرملاوي

عندما افترشت الشمس زجاج نافذتها و أرسلت دفقات من شعاعها الحاني إلى عيونها بلغتها رسالة تحريرية بأن قد آن الأوان لتستيقظ، استلمت الرسالة و فتحت عينيها بهدوء ، جاست بهما حولها ثم ركزتهما على اللعبة البيضاء في حضنها ... دمية على شكل قطة ، احضرتها لها أمها مؤخرا و لم تفارقها مذ عادت إلى المنزل ... كان هذا الصباح مختلفا ، شعرت أن دماء بدأت تجري في عروقها التي كانت قد تيبست ، شعرت أن حرارة ما تسري في أطرافها ، و رغبة عارمة اجتاحتها لتنهض من فراشها ، لتأكل ، لتتحرك ، لتفعل شيئا مختلفا ، نهضت من فراشها ، سارت خطوات و اتجهت إلى خزانة ملابسها ، فتحتها بحذر و نظرت إلى محتوياتها ، ملابس كثيرة و متنوعة ، أخذت تحرك الأثواب المعلقة ، بعضها قديم كان لديها قبل سنة عندما كانت طفلة ، و بعضها أوجدته ظروف سنة مرت ، كان للكبار فقط ، ألبسة حريرية ملونة و أثواب نوم مزخرفة ، أمسكت إحداها و همست لنفسها :
- هل حقا لبست هذا الثوب يوما ، متى كان ذلك ؟؟؟


طفلة كانت ، جدائلها الطويلة لها رائحة الأرض التي تمرغت عليها قبل قليل ، طعم السكر المسروق مازال على شفتيها ، الضحكات الرعناء لم تغادر بعد محيط حديقة منزلها حيث كانت تلعب مع صديقاتها ، جاءت أمها و هزت رأسها استنكارا :
- ماذا تفعلين ؟
صاحت بملء فمها :
- سعاد أخذت لعبتي ، و افزعت قطتي ...
- مريم ، دعي عنك هذه الملاهي ، متى تكبرين ، بالله أهذا حال عروس ستزف إلى زوجها غدا ؟!!!
( عروس ؟ ثوب زفاف أبيض ، كعكة كبيرة ، و أثواب نوم بلا عدد ؟ و لكن لعبتي ؟ و سعاد و القطة التي ركضت منذ الصباح هاربة و لم تعد ؟)
لا معنى لكل هذا ، الحقيقة الوحيدة أنها ستصبح زوجة ، و أن جدائلها التي كانت تعاني من عقدها يوميا حلت ، الطفلة كبرت بين يوم و ليلة و لم يعد بمقدورها أن تركض متى شاءت ، و لا أن تضحك بملء فيها ، رجل غريب سيمتلكها و يمتلك براءتها ، و تفاهاتها التي تحب ....


سرحت ببصرها خارج حدود علاقات ثوب النوم الوردي في يدها ..
ترى كيف مضت ليلة العمر على طفلة الامس القريب ؟
ابتسمت بألم و هي تطوف بذاكرتها في ذاك المساء ، كان يوما مرهقا منذ البداية ، عندما خضعت لعمليات التجميل المؤلمة ، كانت صرخاتها تثير ضحكات من حولها ..
- هيا تشجعي عما قريب تصبحين امرأة ...
إنها تذكر الآن بكثير من الفزع ملامح وجه تلك المرأة السمراء البدينة التي كانت تخترق حدود وجهها ، تقترب و تبتعد في حركة مكوكية تضم بين أسنانها خيطا أبيض متسخا و تزم شفتيها بتصميم لا تعرف له سببا ، كانت تتسلمها الأيدي النسائية المختلفة ، و كل يد تعرف تماما ما تصنع شعرت بنفسها و كأنها كرة مطاطية تتناقلها الأيدي مستمتعة باللعب بها و العبث بخصوصياتها ، بأدق خصوصياتها ، و لم تكن تعترض ، كل ما كان يشغل تفكيرها آنذاك هو غياب القطة غير المبرر ، و كيف يمكن أن تنتقم من سعاد التي دأبت على انتزاع لعبها منها دون أن ينصفها أحد ، طبعا مع الكثير من الألم ، و القليل من التقزز ..
- لماذا تفعلون بي كل هذا ؟.
تغامزت النسوة حولها و ضحكن ضحكات خبيثة ، و هن يواصلن العمل و تنهدت أمها و تنهدت خالتها ، و لم تسمع جوابا الآن أصبحت عروسا لائقة ، أضافت الأقلام الملونة إلى عمرها عشرة أعوام على الأقل ، زاد اتساع العينين و تحددت الشفتين و تكوم الشعر البريء حلقات فوق الهامة ، جميلة صرت يا مريم ، و عندما حشروا قدمها الصغيرة في حذاء ذي كعب عال ، لم تلبس مثله من قبل صاحت :
- لا ... لا يمكنني أن اتحمله ..
اكتفت السيدات بالتغامز و التضاحك و لم تتطوع احداهن لتخفيف المعاناة .. و دفعها الجميع بثوبها الابيض إلى الامام ، تلفتت حولها فخورة بنفسها و سعيدة بأنها انتهت ، سمعت مواء قطتها قبل أن تغادر باب المنزل مباشرة ، اتجهت بعيونها تبحث عنها و صاحت :
- قطتي ..
وخزتها أمها في جنبها و أخرجتها بسرعة و خرج الجميع و اغلقوا الباب على مواء القطة ..


انتبهت إلى صوت آت من الشباك ، اتجهت اليه و فتحته بحذر ، لم تكن إلا الرياح ، عاودت اغلاقه ، و تنهدت ، مثلما كانت أمها و خالتها يفعلن و همست بإعياء :
- متى تخطئ الرياح طريقها إلى نافذتي ؟
تأبى ذاكرتها المستيقظة للتو إلا أن تطوف بها في اجواء ليلة العمر ها إن قارعات الطبول ، و عشرات القبلات المهنئة ، و القرصات الآملة ، و الصخب غير المنتهي يعلنون عن اقتراب الحفل من نهايته ، و قدمها التي ادماها حذاء الزفاف تصرخ طالبة الراحة ، و رأسها يكاد ينفجر من كل شئ ، إنها ما زالت تذكر جيدا صديقتها سعاد ، كم كان الفرق شاسعا بينهما تلك الليلة ، لم يسمحوا لها حتى بوضع احمر الشفاه لأنها صغيرة !! كانت جدائلها مازالت منعقدة و نظراتها حائرة و لم تقترب من كرسي العروس أبدا ، كانت تنظر إلى مريم بشك و ريبة و تتساءل بدورها عن سر هذا الانقلاب الخطير في صديقتها الوحيدة ... و عندما أوصلوها إلى منزلها الجديد ، و اغلقوا الباب عليها ، عقد الخوف لسانها ، فقد ظنت أن الحفل هو كل شئ ، و كانت قد وطدت العزم على تحمله حتى النهاية ، بعدها تعود لمنزلها و تطعم قطتها التي لم يتسنى لها أن تراها قبل مغادرة المنزل ، لم يستوعب عقلها وقتها أن النهاية مختلفة عما اعتقدت و أن منزل والدها لم يعد لها فيه مكان ، و عندها عندها فقط فطنت إلى الرجل الذي زفوها إليه ، لقد تركوه معها و لم يأخذوه معهم كما تقتضي أصول الحشمة ، نظر إليها في ضوء الصالة الناصع و اتسعت ابتساماته و هو يقيسها بنظراته ، و ضاقت عيونه و هو يطلب منها بصوت أجش :
- لفي ...
نظرت إليه بلا فهم فأعاد عليها الأمر ، تعالت دقات قلبها ، تفصد عرق جبينها ، تحول خوفها فزعا و تساءلت في نفسها عن حتمية أن تنفذ طلبه ، و قاست بنظراتها قوته إلى قوتها و أدركت أنها يجب أن تلف ... و منذ ذلك الحين و هي تلف ...


صوت تكسر بعض الاواني خارج الغرفة نبهها من ذكرياتها ، ماذا يفعلون بالخارج ؟ منذ أسبوع و هي تلاحظ تغيرات على أهل البيت ، أمها لا تفصح و أبوها كالعادة لا تراه ، و لا شئ تعمله سوى أن تغلق بابها على ذكرياتها ، و أحلامها و تنام ، إنها منذ أربعة شهور لا تفعل شيئا ، منذ أن عادت إلى بيت أبيها مطلقة لأسباب لا تعني لها شيئا ، لا تعرف لماذا كان زوجها يصيح و الزبد يخرج من فمه و هو يحدث الأب عنها ، كان يقول كلاما كثيرا عن الصمت الذي لا يقطعه صوتها ، و التصرفات التي لا تقوم بها إلا طفلة أو مجنونة ، و عدم قدرتها على تحمل مسئولية بيت و زوج ، كان يبدو مغتاظا جدا و هو يروي وقائع لا تدري ماذا يغضبه فيها ، قال إنها لا تهتم بطعامه ، بملابسه ، بمنزلها ، لا تعرف و لا تريد أن تتعلم كيف تتعامل مع زوجها ، باختصار شديد - هكذا قال - هي لا تصلح كزوجة .. هي ايضا لا تذكر تفاصيل ثمانية اشهر عاشتها خارج هذا المنزل ، لا تستطيع ان تتذكر كيف كانت تمضي بها الايام هناك ، مهما حاولت أن تعمل ذاكرتها لا تستطيع أن تتذكر ، شيئا ما أسقط تلك الايام من ذاكرتها ، شئ مفزع لكنها لا تذكره ، شيئا حولها إلى مجرد كائن يشهق الصبر و يزفر الصمت ... و اصبحت مطلقة ...


خطواتها الحذرة أخذتها إلى مرآة غرفتها تطلعت فيها و غمامة الدمع تكسب صورتها منظرا طيفيا كأنها قادمة من عالم آخر ، مدت يدها إلى شعرها ، تحسسته ، فقد لمعانه ، و عفويته ، و بعضا من طوله ، لمعت عيناها و قررت أن تعاود تجديله كما كان قبل سنة ، قسمته نصفين ، و قسمت النصف الاول ثلاثة خصل ، و قبل أن تبدأ بلف الخصل بعضها على بعض فتحت أمها الباب ، وقعت عيناها على ثوب النوم الوردي فوق الفراش ، ابتسمت بحنان ..
قالت :
- الحمد لله أنك اخيرا مستيقظة ، أبشرك يا ابنتي مأساتك انتهت ، جاءك خاطب آخر ....


تمت


 

سحر الرملاوي
[email protected]