ولم أعد أبكي

جثة عصفور أحمر

سحر الرملاوي

صفعته هذه المرة كانت قوية ..

قاومت رغبة عنيفة في البكاء، أو حتى في رفع يدي أتلمس مكان الصفعة و أبرده ، ظلت عيوني تحمل تلك النظرة الجوفاء الباردة ، أقابل بها عيونه الثرثارة و أنفاسه الطائشة و شفتيه المرتجفتين غيظا و غضبا ، شعرت بالدماء تتجمع فوق خدي لترسم بمهارة أصابعه القوية عليه ، بقيت فترة أراقبه ، هو أيضا كان يراقبني ، خفتت أنفاسه ، تطلع إلى يده و همس و هو يستدير :

-     آلمتك كثيرا هذه المرة أليس كذلك ؟

لم يكن يريد مني إجابة ، فلم اجبه ، بقيت صامتة كلوح ثلج أدمن المطارق ...

أمسك برسغه و اعتصره ، كان كالعادة يتألم ... أشفقت عليه من ألمه ...

استدار نحوي بسرعة غير متوقعة فاقتنص نظرة تجاوب و إشفاق في عيوني لم أتتمكن من إسدال ستار البرود عليها ، اقترب مني و همس و هو يتحسس خدي :

-     سامحيني ..

حملت عيوني البرود و غامت …

لم اعد أراه …

 منذ سنوات لم اعد أراه ، صار وجوده في حياتي أمرا يشبه الهواء نحتاجه و لكننا لا نراه ، حتى صفعاته المتكررة و لمساته الحانية التي مازالت تحملها خدودي لا أشعر بها ، كلماته الغاضبة ، الراضية ، المتضرعة أحيانا لا أسمعها ، جولاته الليلية و صولا ته لا تعنيني ، استطعت منذ سنين التخلص منه ، قتلته و استرحت …

قتلته يوم رسمت الدماء صورة أصابعه على بشرة خدي لأول مرة ، يوم خرجت ارتال القباحة من شفتيه لتدحر بكل قوة قاموس عشق كنت اعتقد إنني اقتنيته يوم تزوجنا ، قتلته يوم كور صفحات الحب بقسوة و ألقاها ببساطة في نفايات أحلامي ، قتلته يوم أصبحت ملامحه بشعة ، اقترف إثما كلما طالعتها و أتساءل بحرقة :

-     هل حقا أحببت هذا الوجه يوما ؟

قتلته يوم اكتشفت إنني أعيش مع رجل آخر لا صلة له بالرجل الذي أحببت …

يشبهه و يحمل اسمه و لكنه لا يعنيني …

و منذ قتلته لم اعد ألومه ، فقدت الدهشة ، الاستنكار ، الرفض ـو القبول ، فقدت الإحساس بالحياة …

كيف اشعر بالحياة و أنا أعيش مع جثة من أحببت يوما …

فقدت إحساسي به ، لكنني مازلت أعيش معه ، سنوات تمر أسمع صدى خطواتها ضحكات من عهد مضى ..

قوية في البداية ، عالية تحمل شمسا و فيئا ، ثم تبدأ بعد قليل – قليل جدا – في الحشرجة ، و تنقلب منكرة ساخرة ، مفجعة ، و بعد قليل – قليل جدا – تصبح بكاء، نشيجا حارا يدمي قلبي …

أفيق فزعة من نومي ، فاسمع أنفاسه الرتيبة و ألمح وجها أليفا كنت أعرفه يوما ، أمد يدي ، أتحسسه ، اثقب في الظلام الرابض ثقبا صغيرا أطالع من خلاله كما صندوق الدنيا زمنا كنت أحيا فيه ، ووجها كنت احبه …

تعرفنا بطريقة غريبة ..

كنت احمل عصفورا صغيرا احمر في قفص ابيض كثير النقوش ، اشتريته للتو ، كنت سعيدة به ، بل اكثر من سعيدة ، كان قلبي يتجاوب مع ألحانه فيرقص بين ضلوعي ، و أمام مدخل عمارتنا رأيته للمرة الأولى ، شدني بقامته الطويلة ، و أناقته المفرطة و رموشه الكثيفة ، سألني بأدب شديد إن كنت اعرف رقم الشقة التي يريد ، أجبت بمرح إنني اعرفها فهي فوق شقتنا التي بالدور السابع ، شكرني بلطف و توجه للمصعد ، و بغير تعمد مني صعدت أنا السلالم ، كنت أريد أن أناغي عصفوري الجديد أطول فترة ممكنة قبل أن يتجمع اخوتي الصغار حوله و يعابثوه فلا يتركوا لي وقتا اقضيه معه ، و رغم طول السلم و إرهاق الصعود عليه ، إلا أنني كنت سعيدة ، و كان قلبي يرقص …

في الدور الثالث كان ينتظرني ، تعجبت لرؤيته واقفا أمام السلم و أخبرته أن الشقة التي يقصدها مازالت في الدور الثامن ، اخبرني و هو يبتسم انه يؤثر الصعود إليها بالسلم …

فصعدنا معا ..

في الدور الرابع كنت قد عرفت أنه جاء خاطبا لابنة الجيران …

في الدور الخامس عرف أنني لست مرتبطة و أنني احب الحياة و احب عصفوري الجديد ..

في الدور السادس عرفت انه كل ما قد تتمناه فتاة في زوج المستقبل …

و في الدور السابع كان يلهث متعبا و يسألني إن كان بوسعه أن يستريح لدينا و يشرب فنجان قهوة مع والدي ..

اخبرني انه يتفاءل بالرقم سبعة أكثر من الرقم ثمانية .. فتزوجنا …

في الشهر الأول بسط لي أجنحة حب لا مرئية فطرت بها في كل الاتجاهات ..

في الشهر الثاني حول الأجنحة إلى قدمين حافيتين تجولان كل الأمكنة بلا قيود فركلنا الرمال معا ..

و في الشهر الثالث حصر القدمين في حذاء الممنوعات و لم يعد يقول حبيبتي ..

في الشهر الرابع افاقني من النوم بهزة عنيفة و ادعى أنني لا أعرف معنى المسئولية …

في الشهر الخامس صفعني لأول مرة ، بكيت ، ضمني إليه لأنني كنت حاملا …

في الشهر السادس لم يعد يحضر لي المجلات التي احبها ، قال أن الميزانية لا تسمح …

و في الشهر السابع مات العصفور الأحمر ، بكيت عليه ، صفع تفاهتي ، فقتلته …

و منذ ذلك الحين أعيش مع جثة …

و لم اعد ابكي …

تمت

سحر الرملاوي

[email protected]