سيرة ووثيقة عن أسرار الحب وفن الحياة

الوزير الضرير والمرأة التي تشتاق لعينيه

رانية سليمان سلامة

   

عندما يحب القلب يبني صوراً من خيال قد تسقط بمجرد ملامسة الواقع، وعندما يصدَّق العقل على اختيار القلب، فهو يبني حياة صحية وعلاقة قابلة للاستمرار ومواجهة الحياة.

لم أشعر يوماً أن قصة قيس بن الملوح نموذجاً يستشهد به عن الحب، فلم تكن سوى تجربة بائسة أودت بصاحبها إلى الجنون والفشل. ودرست قصة روميو وجولييت رغماً عني فامتعضت من فكرة الحب الذي يؤدي إلى البؤس والإنتحار. ولعلي كنت الوحيدة التي شعرت أن فيلم تايتنك كوميديا مثيراً للضحك في الجانب الذي حاول استعراض قصة حب سريعة بين مراهق وفتاة انتهت بأن ترمي جثته في البحر! لم يقطع موجة الضحك التي انتابتني سوى التعاطف مع مشاهد الفقراء والأطفال الذين تم إغراقهم في قبو السفينة.


ببساطة اكتشفت أنني لم أقتنع في حياتي بقصة تجسد الحب سوى هذه القصة التي أسرتني حتماً وجعلتني ألاحق تفاصيلها على مدى أيام، فهي أكثر واقعية وتجسيداً لمعاني الحب التي تجعل من كل طرف فيها إنسان أفضل وأسعد وأكثر قدرة على العطاء والإنجاز، وفيها توليفة عبقرية للعناصر التي يجب أن تتوفر بين الطرفين، والمجهود المطلوب لتستمر الحياة.


بطل القصة هو عميد الأدب العربي طه حسين الذي ولد في صعيد مصر وفقد بصره طفلاً في الرابعة من عمره. تعلم في الكُتَّاب اللغة العربية والقرآن والحساب، ثم حصل على شهادة من الأزهر تخوله لدخول الجامعة، وحصل على شهادة الدكتوراه، لكن نقطة التحول الحقيقية في حياته كانت عندما أوفدته الجامعة المصرية إلى مدينة مونبيلييه بفرنسا، ليعود أستاذاً جامعياً وأديباً ومن ثم وزيراً للتربية والتعليم، حيث أسس كلية للطب وجامعة عين شمس، وأنشأ المعهد الإسلامي في مدريد، أما في العاصمة اليونانية أثينا فقد بعث كرسيا جامعيا للغة وللثقافة العربيتين. كما جعل التعليم اجباريا وزاد من عدد المدارس الابتدائية، خصوصا في الأرياف. 


وللأمانة هو رمز كبير لم يسبق لي قراءة أعماله، بل بدأ اهتمامي بالتعرف عليه بعد مشاهدة لقاء على يوتيوب أرسلته لي صديقة ودار حوله حواراً ثرياً (للمشاهدة)، أعترفت خلاله أنني احترمت ثقافته ولغته وعصره، لكن فيما يتعلق بالآراء كنت أميل إلى تلميذه الكاتب المبدع يوسف السباعي والذي كنت أقرأ أعماله في صغري بشغف. وعلق بذاكرتي من ذلك اللقاء حديثه عن زوجته الفرنسية حتى لفتت انتباهي صورة تجمعه بها ومقوله على انستقرام، انتقلت منها للإبحار في "جوجل" الذي عرفني على الطرف الآخر.


الطرف الآخر سوزان بريسو الفرنسية التي تعرف عليها طالباً في "مونبيلييه" عندما كانت تقرأ مقطعا من الشعر فأحب نغمات صوتها وعشق طريقة إلقائها. أما هي شدها نحوه الفضول وربما الشفقة فأرادت أن تتحدث لأول مرة في حياتها مع رجل كفيف، وعرضت عليه خدماتها، بقولها: 

"أستطيع أن أساعدك فى استذكار الدروس". 

عن تلك اللحظة يقول طه حسين: 

"لم يكن ثمة شىء فى ذلك اليوم ينبئنى بأن مصيرى كان يتقرر". 

لكنه لاحقاً أشار إليها قائلاً لابنته: 

"هذه المرأة جعلت من أبيك إنسانا آخراً".

الصداقة سر الارتباط

الملفت بالنسبة لي أنه في كل رسائله لم يكن يخاطبها إلا بصديقتي وليس حبيبتي، فالعلامة الحقيقية الفارقة في علاقتهما كانت الصداقة الوثيقة.

"أصبحت صديقتي، وأستاذًا لي، عليها تعلمت الفرنسية، وفقهت ما أستطيع أن أفقهه من أدبها، وعليها تعلمت اللاتينية، واستطعت أن أجوز فيها امتحان الليسانس، ومعها درست اليونانية، واستطعنا أن نقرأ معًا بعض آثار أفلاطون".  

ما تخلص منه طه حسين على يد سوزان كان أهم مما اكتسبه من علم، فقد كان قبل لقاءها يغلب عليه الطابع التشاؤمي والساخط -إلى حد ما- ربما بسبب إحساسه بالنقص لفقدان البصر، لكن ما لبثت نظرته للحياة والقدر أن تغيرت عندما وجد من يعوضه عن نعمة البصر، ويكمل الحاسة التي افتقدها، ويساعده على التكيف مع الحياة.

حتى أنه قال في غيابها: 

"بدونك أشعر أني أعمى حقا. أما وأنا معك، فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وأني أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي".

لعلها إذن الحاجة؟ ونقطة الضعف الأخرى التي يعاني منها وقد عاش حياته بحاجة لمن يقوده من مكان إلى آخر، ويساعده على تناول الطعام وإرتداء ملابسه والاهتمام بهندامه، وهو شعور آخر بالنقص دفع به قبل لقاءها إلى الميل للعزلة والمعاناة من كونه قد يكون عالة على الآخرين، متجنباً الاقتراب من أحد أو البوح بما يجيش في صدره من ألم، حتى تحولت تلك المشاعر إلى ردود أفعال ساخطة وغاضبة يغطي بها ضعفه.

معها.. تغيرت الأمور عندما تجاوزت الصداقة حد الحرج فحررت البوح المستحيل، ليصارحها بعد عودته لمصر قائلاً:

"اغفرى لى، لابد من أن أقول لك ذلك، إنى أحبك".

فقالت له:

"ولكنى لا أحبك". 

وقال بوعي ونضج، لا بلسان العاجز المتعلق بحاجته إلى (عكَّاز) يستند عليه:

"إننى أعرف ذلك، جيداً، وأعرف كذلك أنه مستحيل".

ولعلها أدركت بابتعاده أنها هي كذلك بحاجة إليه، فقد كانت حقاً من يقرأ له، ولكنه كان من يفتح آفاق عقلها بتحليله ومناقشة ما تقرأ، فكان العطاء والمتعة والاحترام مشتركاً ومتبادلاً والعلاقة تكاملية، وأعلنت لأسرتها الكاثوليكية نبأ رغبتها بالزواج منه ليصابوا بصدمة الفكرة! رجل غريب، وكفيف، ومن ثقافة ومجتمع ودين مختلف! عناصر كفيلة بالشك في عقلها وفي إمكانية نجاح إرتباط من هذا النوع. لكن عمها "القسيس" أراد أن يذهب لما هو أبعد من الحكم السريع، فخرج في نزهة قصيرة مع طه حسين وعاد ليؤيد قرارها بعد أن رأى ما رأته، وهو باختصار ما يكفل للعلاقة بين طرفين أن تنجح:

"رجل يؤتمن ويمكن الثقة به، محاور فذ، سيتجاوزك باستمرار، يجعل كل شيء جميلا ونبيلا، والحياة تغدو بصحبته أجمل".

وكان الزواج الذي استمر 56 عاماً.


السعادة في مواجهة الحياة

هل السعادة تتحقق بمجرد توفر كل ما نتمناه في الحياة؟ أو في وجود ما يستحق مواجهة الحياة باستمرار؟
تقول سوزان في كتابها الأول والأخير (معك) والذي أصدرته بالفرنسية بعد وفاته وتمت ترجمته للعربية، وظلت خلال صفحاته تخاطبه بوصف (صديقي): 

"إننا لا نحيا لنكون سعداء! عندما قلت لي هذه الكلمات في عام 1934 أصابني الذهول لكنني أدرك الآن ماذا كنت تعني، وأعرف أنه عندما يكون شأن المرء شأن طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيدا وإنما يعيش لأداء ما طلب منه. لقد كنا على حافة اليأس، ورحت افكر: لا، إننا لا نحيا لنكون سعداء ولا حتى لنجعل الاخرين سعداء، لكني كنت على خطأ، فلقد منحت الفرح، وبذلت ما في نفسك من الشجاعة والإيمان والأمل. كنت تعرف تماما أنه لا وجود لهذه السعادة على الارض، وأنك أساسا بما تمتاز به من زهد النفوس العظيمة لم تكن تبحث عنها فهل يخطر عليّ الأمل بأن تكون هذه السعادة قد منحت لك الان؟".

ظل يواجه بالرسالة التي حملها بعد عودته مع زوجته لمصر مصاعب عديدة لتحقيق رؤيته في تطوير التعليم والثقافة، ولست بصدد تقييم تلك الرسالة كوني لم أطلع عليها بما يكفي، لكنه بالتأكيد كان مؤمناً بشيء يود تحقيقه، وكانت مؤمنة به.

 وعندما فرقت بينهما الأزمات المالية واضطرت لأول مرة منذ ارتباطهما إلى المغادرة مع أبنائهما إلى فرنسا لتتركه وحيداً، كانا يتبادلا رسائل يومية، وكتب لها عن ضعفه وهو الذي يواجه الأزمات بقوة وضراوة:

"هل أعمل؟ ولكن كيف أعمل بدون صوتك الذي يشجعني وينصحني، بدون حضورك الذي يقويني؟ ولمن أستطيع أن أبوح بما في نفسي بحرية؟، لقد استيقظت على ظلمة لا تطاق. وكان لا بد أن اكتب لك لكي تتبدد هذه الظلمة. أترين كيف أنك ضيائي حاضرة كنت أم غائبة؟، لقد كان افلاطون يفكر أننا إذ نتحاب فإننا لا نفعل سوى أن نعيد صنع ما أفسده عارض ما. عندما تنفصل نفسان عن بعضيهما، تبحث كل منهما عن الأخرى، وعندما يتواجدان ويتعارفان، فإنهما لا يعودان كائنين وإنما كائن واحد. إنني اؤمن بذلك تماما".

فن الحفاظ على الحب بعين الرضا والتقدير

قد تكون حكمة أو معلومة أو نصيحة أسداها طه حسين إلى ابنته عندما قال:

"الحب قد يأتي فجأة بين طرفين، ولكن بقائه يحتاج إلى فن نادر، توافقت كلا من روح سوزان وطه حسين للحفاظ على استمراريته".

أحد الفنون التي توقفت عندها كثيراً في سرد سوزان لذكرياتها معه، كان فن الرضا والذكاء العاطفي التلقائي وليس المفتعل، فالواقع أنها لم تشعر للحظة أنها الأقوى بامتلاكها لحاسة يفقدها، ولم تشعر بأنها تتفضل عليه بالعون، ولم تشعر بأنها كانت أمامها فرص أفضل في الحياة.. ولو أنها شعرت بذلك في قرارة نفسها لكانت قد جرحت كبرياءه وكسرت جسور العلاقة بينهما، وهذا ماكان واضحاً حتى في صياغة عباراتها في الكتاب، وهو ما وصفه أحد النقاد:

"حطّمت جدران عزلته ومزّقت الواحد تلو الآخر برقة شديدة وحماسة موازية  الأغشية السميكة التي كانت تفصله عن الحياة والأحياء والأشياء. ومع ذلك نجدها لا تتحدث على الإطلاق عن هذا الدور أو عن نفسها في كتابها، بل تركّز كامل اهتمامها وخطابها على زوجها، ومن هنا جاء اختيارها لهذا الكتاب عنوان (معك)".

توازنت القوى، ليرى كل منهما الآخر بعين الرضا والتقدير، فكتبت عنه: 

"شعرتُ بقوة لا توصف بملء الهبة التي نعمتُ بها، أنا التي وجدتك على طريقي".

وقال عنها واثقاً لمن اعترضوا على زواجه من أجنبية، مؤكداً على اقتناعه التام باختياره:

"قابلت فتاة وأحببتها فتزوجتها ولو لم أفعل ذلك لبقيت أعزب أو لتزوجت ـنفاقا، بما أنني أحب امرأة اخرىـ امرأة مصرية، وكنت سأجعل منها امرأة تعسة!"

أما الفن الثاني فكان المحافظة على الاهتمامات المشتركة بينهما لتستمر الحياة، مثل حبهما للأدب والموسيقى والأصدقاء المشتركين من أدباء ومفكرين والاستماع للإذاعة ومناقشة كل ما يدور حولهما من أحداث، لكن في الواقع لم تكن كل اهتماماتهما مشتركة تماما، فلقد كانت على سبيل المثال شغوفه بالسفر وإقامة الولائم فشاركها هوايتها التي لم يكن يهواها، وخلق متعة من السفر تغنيه عن عجزه عن رؤية ما تراه، فكتب أهم أعماله أثناء تلك الرحلات.

والعبقرية أنها تفهمت أنه مهما كان سعيدا معها ستمر عليه لحظات ضعف وتقلب مزاج واكتئاب يحتاج فيها إلى العزلة لبعض الوقت، فمنحتها له، وحرصت على أن لا تجعلها تطول، وأن لا تضيف إلى عجزه عجز بأن تتذمر وتصر على اخضاعه لعلاج نفسي، عِلته الأساسية تعرفها ويعرفها ولا أحد يعرف لها علاج سوى التكيف والصبر.

رحل فاشتاقت لعينيه!

وإن كان ذات مرة كتب لها بأنه يشعر أنه أعمى بدونها، فقد أجابته بعد رحيله في كتابها (معك) وهي –للعجب- لا ترجو إلا أن ترى ابتسامة عينيه، قائلة:

"ذراعي لن تمسك بذراعك ابداً، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس، أريد عبر عيني المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، أريد ان أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد ان أرى من جديد ابتسامتك الرائعة".

لعل هذا أبرز ما تمكنت من الوصول إليه لاختصار تلك العلاقة الفريدة وسط كم كبير من القصص والمواقف والرسائل، وبعيداً عن كل ما تركه طه حسين من إنجازات وأعمال أدبية وفكرية ووطنية، وأبعد عن الجدل الذي دار حولها، أظن أنه وزوجته تركا قصة عظيمة تستحق استخلاص قواعد الحياة منها، حتى بما فيها من أخطاء يراها البعض سبباً في عدم مواصلة أبناءهما لمسيرة الإنجاز والنجاح.