بحثاً عن حلول سريعة للمشاكل

أشتاتاً أشتوت

رانية سليمان سلامة

تطالعنا المطبوعات المحلية باستمرار بأخبار مفزعة عن السحر والحسد والمس، وتتفوق عليها بعض الصحف العربية التي شغلت رأيها العام مؤخراً بقضايا لاتخطر على بال بشر مثل حكم أكل لحم الجن، وأخيراً قنوات فضائية للدجل وشائعة مصادقة الموسوعة العلمية الدكتور مصطفى محمود للجن، ولا أدري هل هي مجرد إثارة إعلامية أو تعمد إقحام أحد أهم الرموز العربية في هذه الخزعبلات بعد أن نجح لعقود من الزمان في ربط العلم بالدين وتفسير الظواهر الغريبة بالمنطق؟! ولكن لحسن الحظ دحضت زوجته السابقة تلك الشائعات وأكدت أن صاحب العلم والإيمان بريء منها لعلنا نكتفي بأكل لحم الجن بدلاً من أكل لحم العالم النابغة حياً استغلالاً لظروف مرضه.

لا أدري إن كان كل ذلك ردة فعل لظاهرة انتشرت في الشارع العربي أم أن الظاهرة قد نشأت من جراء انحراف فكري أصاب النخب قبل أن يضرب العامة... ولكن من الواضح وجود نزعات قوية في مجتمعاتنا للهروب من الواقع إلى الخيال وهو أمر يعززه توفر الأدوات مع ضعف الإيمان وقوة الجهل.

«لانضمن الشفاء ولانشترط الأجر» هذا هو شعار صاحب مكتب للرقية الشرعية وفقاً للقارئ ماجد عباس وهو شعار تقليدي ومتعارف عليه، أما الجديد – بالنسبة لي على الأقل – هو أن الرقاة أصبحت لهم مكاتب في بعض المجمعات والأبراج الطبية والتجارية، والسؤال هل هذه المهنة يتم الترخيص لمزاولتها من قبل وزارة التجارة أو الصحة أو غيرها؟ وماهي ياترى الجهة الرقابية؟... ماجد اصطحب زوجته لزيارة عيادة طبيب النساء والولادة وأثناء الانتظار حان موعد الصلاة فخرج لأدائها في الموقع المخصص بنفس طابق العيادة ليتفاجأ بأفواج تخرج من باب عيادة مجاورة أو مكتب للرقية الشرعية فدفعه فضوله إلى السؤال عن الشيخ والاستفسار عن ثمن الكشفية ليتلقى الإجابة المذكورة أعلاه... وبعيداً عن التشكيك بقدرات المعالج يعتبر ماجد أن دراسة الجدوى لمثل هذا المشروع تعتبر بحد ذاتها عبقرية، فالراقي قد وضع مكتبه في المكان الصحيح بين العيادات التي يرتادها مرضى مصابون بأمراض عضوية والمعلوم أن المريض يكون في حالة من الضعف النفسي خلال رحلة بحثه عن العلاج فإذا عز الشفاء على يد الطبيب تزداد فرص بحثه عن خيارات أخرى سيجدها متوفرة لدى المكتب المجاور للرقية الشرعية... الطريف أن زوجته قررت تغيير طبيبها خشية من أن تصادف أثناء مراجعتها جنياً هارباً من مكتب المعالج.

أؤمن بالحسد والسحر وبوجود الجن، كما أؤمن بالرقية الشرعية وبأهمية وجود معالجين ولكن يبدو أن الحابل قد اختلط بالنابل في العقد الأخير حتى تجاوز الإيمان بهذه الأمور حد الاعتقاد إلى الاتكال عليها وتفسير الأمور من خلالها، وتجاوز العلاج حد الحاجة حتى تحول إلى سوق مفتوح يتفوق فيه الطلب على العرض مما رفع من أسهم العاملين فيه وزاد من عدد المتداولين لخدماتهم... والملحوظ أن هذا السوق الغامض أكثر زبائنه من النساء مما يشير إلى أن العيون التي كان العرب يتغنون بأن في طرفها (حور) أصبحت متهمة بأن في طرفها (حسد)، كما أنهن أصبحن يصرعن ذا اللب (سحراً) حتى لاحراك به.

إنه عصر السرعة الذي يدفع بأهله إلى البحث عن حلول سريعة للمشاكل، وعصر تحولات المشاعر من فطرية إلى مرضية حيث أصبحت الغيرة حقداً والإعجاب حسداً والإيذاء غاية... واختلطت المفاهيم حتى تجاوز اللجوء إلى السحر الرغبة بالإيذاء إلى الرغبة بالتحصين فنسمع عن السحر الذي تقوم به الخادمات الوافدات لتحصين أنفسهن من أذى مستخدميهن، ونسمع عن أمهات يسحرن أبناءهن حتى لايتعلقوا بالخادمات، وأخريات يسحرن أزواجهن لإنقاذ حياة زوجية مضطربة، ويائسات يبحثن في الزار عن حل للعنوسة وغيرها من الحالات الشاذة.

للشيخ سلمان العودة محاضرة شيقة بعنوان (هل يعاني الجن من أزمة سكن؟) وجدت تعليقات إلكترونية مثيرة عليها حيث يقترح أحدهم ساخراً تأسيس شركة مساهمة -على غرار بعض المساهمات الوهمية الشهيرة– لحل أزمة السكن التي يعاني منها الجن على أن تكون امتدادا متطورا لعملية تسويق الوهم بتوظيف الجهل ومباركة أدعياء العلم الشرعي، وبذلك نكتفي بتأجير عقولنا للأوهام دون الحاجة لتحويل أجسادنا إلى شقق سكنية بالمجان.

قد يعجز عقل الإنسان عن تفسير مايصاحبه من سوء حظ وأمراض أو تعثر في الحياة ولكن حتى لايقع ضحية لكهنة «أشتاتاً أشتوت» فيستحق الضرب «بالشلوت» لإخراج الجني «المحشور» أو يشقى بالبحث عن من يبصق في وجهه بركة أو احتقاراً لابد من تحركات جادة يقودها الثقات لتمييز المعالجين، وكم أتمنى أن يتجه الإعلام من مسار الكشف عن السحرة والمشعوذين إلى التشهير بالأشخاص الذين يثبت تعاملهم معهم للحد من لجوء غيرهم لنفس الطريق.


رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ