العائلات الفلسطينية الفقيرة تقتات الجراح وتبتلع الألم خلال أيام الإجتياح الأخيرة

66,5% من الأسر تحت خط الفقر

عربيات: فلسطين - مرفت صادق

عندما شرع البعض بالدخول في حيرة طويل، "ماذا بقي لم نشتره؟ و ماذا سنحتاج أيضاً؟ ربما بعض المسليات والحلوى و السكاكر، وربما كميات أخرى من المشروبات، ما من مكان في الثلاجة، لا بأس سنستخدم الأخرى مع مراعاة تأمين أكبر كمية ممكنة من الأطعمة التي لا تحتاج للتبريد والحفظ، وعن الخبز فحدث ولا حرج لا أذكر كم من المرات كان المخبز المقابل لمكان سكننا قد أعاد العمل في تلك الأيام التي سبقت الاجتياح، جمعوا ما هو ضروري وما ليس ضروري، لا أحد يعلم ماذا سيحصل" قال الجميع، ربما يطول الأمر أكثر مما نحتمل، وكأن الطعام سيسد فوهة الألم التي تمزقت دواخلنا وسينسينا أن هناك وعلى مقربة منا من يموت كل لحظة.

كانت هذه صورة..

على الوجه الآخر وتحت ذات الظروف صورة أخرى، الوقت استعدادا للاجتياح والزمن خوف من هذا الآتي بكل أشكال الموت والألم والدمار، لا فرق بين الصورة الأولى والثانية سوى الخوف.

أولئك يخافون الموت بالرصاص أو القذائف، وهؤلاء أيضا يخافون الموت للسبب ذاته إضافة لعامل آخر، "لا شيء يجعلنا نصمد حتى تأتي هذه الرصاصة وتريحنا" لسان حال الصورة الثانية.

كانوا يشهدون الاستعدادات لمواجهة الاجتياح فقط من موقع المتفرج، "العين بصيرة واليد قصيرة"… لا أحد يعلم كيف سيقضون أسابيع في صناديق مغلقة دون هذا الذي يتسلى به الناس الآخرين ولا يجده هؤلاء عندما يدب الألم في أمعائهم وتحيط بهم صرخات أطفالهم، وتنادي الزوجة في الأيام الأولى للاجتياح "لم يتبق سوى رغيف وقليل من الطعام".

تحت خط الفقر

وقد أصدر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عشية الإجتياح نتائج مسح نفذه الجهاز، وقد أظهر أن حوالي 2,24 مليون فلسطيني من أصل حوالي 3,2 مليون في الضفة الغربية وقطاع غزة يعيشون تحت خط الفقر.

و أظهر المسح أن 374811 أسرة أي ما نسبته 66,5% من إجمالي الأسر الفلسطينية عاشت منذ بداية الإنتفاضة تحت خط الفقر بسبب الحصار والإغلاقات بالمقارنة مع ما نسبته 25% قبل بداية انتفاضة الأقصى في أيلول من العام 2000.

فيما بين المسح أن نسبة الفقر في محافظات الضفة الغربية عشية الإجتياح الأخير للمدن والبلدات الفلسطينية بلغت 57,8%، بينما وصلت في محافظات القطاع إلى 84,6%.

وقد أظهر هذا المسح الذي نفذ في الفترة الواقعة بين 19 كانون ثاني و21 شباط الماضي وشمل 2917 أسرة منها 1943 أسرة في الضفة و974 في محافظات غزة، أن 56,5% من الأسر الفلسطينية أي ما يقدر ب 318448 أسرة كانت قد فقدت، ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي على الضفة وغزة قبل أكثر من 18 شهرا، أكثر من نصف دخلها، ففي حين قدر هذا الدخل ب 2500 شيقل كمعدل عام "3000 شيقل في الضفة، و2000 شيقل في غزة"، انخفض هذا المعدل إلى 1500 شيقل خلال شهر شباط الماضي في محافظات الضفة، وإلى 883 شيقل في محافظات القطاع.

وقد انعكست هذه الأوضاع الاقتصادية السيئة على تدني قدرة أرباب العائلات على توفير المتطلبات الأساسية لعائلاتهم لا سيما مع ارتفاع معدلات البطالة بشكل مضطرد منذ بداية الانتفاضة بعد أن منعت قوات الاحتلال آلاف العمال الفلسطينيين من التوجه إلى أماكن عمله في أراضى 48، وقلة توفر فرص العمل في مناطق الضفة وقطاع غزة.

وتجلت هذه الصورة واضحة خلال الاجتياح الأخير حيث امتد منع التجوال في الكثير من المدن والمناطق الفلسطينية إلى أسابيع طوال الأمر الذي أدى إلى نفاذ مدّخرات الكثير من العائلات في محاولة لسد النقص الحاصل في المواد الغذائية والتموينية والأدوية.

بلا عشاء…

كنا نبحث عن أولئك الذين عاشوا أسابيع طوال عايشوا فيها الألم والجوع والخوف ولا زالت آثاره تغرقهم حتى الآن ما بين ديون تراكمت عندما لم يجدوا دونها بدا استرضاء لنداءات أطفالهم، وعطفا على مرضاهم الذين سيموتون ألما إذا ما توفرت لهم كمية كافية من الدواء خلال أيام المنع الطويلة ..

كانت أم باسل الحوراني من مدينة نابلس لا تتوقع أن يصلهم " الهنا" كما قالت لأنهم "يسكنون أعلى الجبل والوصول إلى تلك المنطقة صعب عدا عن كون المنطقة خالية من المقار أو المواقع المستهدفة".

لكن أتت رياح الإجتياح كما لا تشتهي سفن الحي الفقير الذي تسكنه أم باسل وعائلتها " عند بدء الاجتياح فوجئنا أن الدبابات شرعت بالدخول إلى المدينة من منطقتنا كونها تشرف على أجزاء واسعة في البلد".

أم باسل : احترق وجه ابنتي ولم يكن لدينا قطرة ماء لكي نطفيء النار

 

وأم باسل واحدة من 16 فردا كانوا يسكنون البيت المكون من ثلاث غرف لا تتوفر فيها أسباب العيش الصحي مع مجموعة من الأبناء المرضى منهم ما هو معاق ومنهم ما تعرض لحروق أفقدته جمالية ذلك الوجه الجميل المتواري خلف البقع الحمراء كما هو الحال مع ابنتها آلاء 4 سنوات التي تعرضت لحريق شب في وجهها وأطرافها عندما كانت تحول مساعدة والدها بإشعال النار في أول أيام العيد، اشتعلت النار في أجزاء الفتاة، حملها والدها وأخذ يهيم على وجهه من مكان لآخر وهو يصرخ حتى أغمي عليه… وما كانت هذه القصة لتلك الفتاة الصغيرة التي جلست أمامنا مشوهة الوجه واليدين لتثير فينا كل هذا الألم لولا كلمات والدتها المتحسرة:"لم يكن لدينا يومها نقطة ماء واحدة في البيت كي نطفئها، أخذ الجيران يزودوننا بإبريق من هنا وقنينة من هناك".

ولم يكن الماء وحده ما تفتقده هذه الأسرة، لقد شاهدنا هذه المرأة تجتاز الحواجز يوميا متوجهة إلى القرى المجاورة في محاولة لإيجاد أي مصدر يوفر لها وعائلتها قوت يومها ولازالت معاناتها اليومية مستمرة.

وعن أيام الإجتياح القاسية حيث منع التجول لأسابيع ونفاذ القليل مما كان في المنزل تقول الابنة الكبرى لأم باسل: "في اليوم الأول للإجتياح حشرونا في غرفة واحدة وكنا ستة عشر فردا وأخذوا يصرخون ويعتدون علينا وعندما راحت ابنتي الصغيرة تبكي طلب مني أحدهم أن أسكتها وإلا سيقتلها ولكنها لم تتوقف عن البكاء فانهالوا بالضرب على أخي المريض نفسيا ولكنه من شدة خوفه جلس دون حراك في الزاوية وراح يبكي".

وحتى تكتمل خيوط المأساة تضيف أم باسل: "أخذ الناس يذهبون إلى أحد المحلات في شارعنا ويسجلون أسمائهم في أوقات رفع المنع كي تصلهم المساعدات لبيوتهم لكننا لم نستطع ذلك لأن الدبابة كانت تقف أمام بيتنا وأي حركة كانوا سيطلقون النار هكذا أخبرونا…" وتتابع:" لقد رحمنا الله من الموت جوعا لأن السيدة التي تسكن في الطابق السفلي كانت تملك دكانا صغيرا واستطعت أن أحصل على بعض المعلبات وثلاثة كيلو غرام من الطحين وكل ذلك بالدين طبعا لأننا لا نمتلك ثمنها ومازالت تطالبنا حتى اليوم بنقدها دون أن نستطيع التسديد ".

لم يكن الحصول على الطحين ليحل إشكالية الجوع عند هذه العائلة التي كما قالت الابنة "نامت بلا عشا عدة مرات" لعدم توفر الطعام، "لم يكن عندنا غاز كي نستخدمه في خبز العجين، لكن الله لم ينسانا فقد وجدنا القليل من الحطب في إحدى الغرف ويبدو أن والد زوجي رحمه الله كان قد  جمعها ليوم ما"

وعندما سألناها عن ما إذا تلقت عائلتها مساعدات معينة أو كانوا اتجهوا لتلك التي أخذت على عاتقها مساعدة العائلات المستورة والمتضررة من جراء العدوان الإسرائيلي، تنهدت أم باسل:" لم نذهب لأية مؤسسة شو بدنا نحكيلهم الله يساعد، أكيد في غيرنا وضعهم أتعس".

خبز وشاي فقط
في بيت آخر من مدينة نابلس كان الفقر يحدثك دون لسان يتكلم به منذ دخولك هذا المنزل حتى الوجوه هنا تنضح فقرا، الأب أبو عمار شبه معاق إذ أنه تعرض لحادث سير عندما كان يبيع الخضار في منطقة القدس في صيف العام 2000 أي قبل انطلاقة الانتفاضة بشهر تقريبا على إثر ملاحقة من الجيش والمستوطنين، وهو الآن يعاني من كسر في الحوض وكسرين في الظهر.

حدثنا أبو عمار وزوجته عن حياتهما التي ازدادت صعوبة خلال فترة الاجتياح الأخيرة،:" لم يكن لدينا سوى كيلو شاي والقليل من الطحين ،فاضطررت للاستدانة من زوج أختي مائة دينار كي أقضي أمورنا لكنها ذهبت كثمن للعلاج والأدوية…".

تقول أم عمار:"كنا طيلة فترة الاجتياح نخبز على الحطب ونختصر الطعام طيلة اليوم في وجبة واحدة ولم نكن نأكل سوى الخبز المغمس بالشاي وفي اليومين الأولين كنا نأكل العدس ولكنه نفذ بعد ذلك".

سرقوا الفتات

في الطابق الأرضي من هذا البيت تسكن ابنتهم المتزوجة، ولم يكن وضعها بأفضل من حال أهلها، جمعت القليل من المعلبات علها تسد حاجتهم على أمل أن لا يطول الأمر، لكن وبالرغم من قلة ما تملك هذه الأسرة قام الجنود عند اقتحامهم منزلها بمصادرة كافة المعلبات وأكلها أمام الأعين الجوعى.

تقول أم عمار:" ظلوا طيلة فترة المنع يتجولون في حارتنا ويطلقون النار على الجدران ويخربون ما يستطيعون تخريبه،" تضيف:"ابني عمار "13 عاما" هو المعيل الوحيد للأسرة ، حتى الآن يعاني آلاما في أقدامه من شدة الخوف الذي أصيب به، كنت أنظر إلى وجهه فأظن أنه سيموت كلما بدأ القصف واطلاق النار العشوائي ".

يقول أبو عمار: "يعمل عمر في إحدى المطاعم بأجرة 10 شواكل في اليوم،يعطيني منها 5 شيكل كي أوفرها لشراء الدواء ويشتري بالأخرى ما يتيسر للبيت، وهي لا تكفي بشيء".

تضع أم عمار يدها على خدها وتشكو:" لقد وقع حفيدي وكسرت قدمه، وهو يسكن مع عائلته في منطقة أخرى من المدينة، ولا أملك أجرة السيارة كي أستطيع زيارته…".

وعن المساعدات الني تلقتها العائلة تقول الزوجة:" لم نتلق أية مساعدة ولم يشق علينا حدا غير رب العالمين".

ويسرد لنا هذا الرجل إحدى القصص التي تدل على أصالته رغم الفاقة التي يعيشونها يقول:" يبدو أن مجموعة من المقاومين كانت ملاحقة من قبل الجنود وأخذوا يدقون الأبواب علّهم يجدون ملجأ آمنا لهم لكن السكان هنا ظنوا أنهم جنود ولم يستجب لهم أحد…" يضيف لو كنا نعلم أنهم من الشباب لأدخلناهم… مش بحاربوا عشان وطننا وأولادنا …كنا اقتسمنا معهم الخبزة وشربة الميّ …لا أحد يعلم ماذا جرى لهم يبدو أنهم مسكوهم ".

وعن "شربة الميّ" تعلق أم عمار:" قطعت المياه عن حارتنا مدة 8 أيام ولم يكن عندنا احتياطي كافي من الماء، لم نكن نغسل ولا نستحم فقط كنا ندخر ما تبقى لدينا للشرب وكنا نسقي الأطفال أولا كي لا يموتوا من العطش".

أيتام..

أم فراس تعيش حالة مشابهة ولو بسوء أكثر قليلا، فهي تعيش مع أبنائها الأيتام دون معيل وفي بيت من المريع أن تعيش فيه، وقد عاشت فترة الاجتياح في ظروف" الله يعلم قديش صعبة" كما قالت.

جلست أمامنا وسط هذا :" الكوم من اللحم" أيتامها الذين أخذوا يسترقون النظر خجلين،كانت تجاهد لإخفاء دموعها، لكن كرامتها أبت أن تظهر ضعفها وحاجتها.

كنت أعلم أن اليهود سيحتلون المدينة ومما حدث في المدن الأخرى عرفت أنهم سيمنعون التجول مدة طويلة، لكن لم يكن بيدي شيء، لم يكن بيدي أن أفعل شيء، ولم أكن أملك ما يمكن أن أشتري به من مؤونة كي لا يجوع صغاري".

وتتابع:" كنا طيلة الفترة الحرب(هكذا أسمتها) لا نملك سوى كيلو من الشاي أعطتنا إياها الإغاثة وبعض الطحين…".

تضيف:" عندما كانوا يرفعون المنع كان الناس يهرعون لشراء ما ينقصهم،أما أنا فلم أكن أملك شيكل واحد لشراء أي شيء…"، أجابتنا أم فراس عن ذاك السؤال الذي قرأته في أعيننا " لماذا لا تبحثين عن عمل؟، " حاولت البحث عن عمل لكن الرجال لا يجدون فهل سأجد أنا…"،" اليوم نأكل عند هؤلاء الجيران واليوم الآخر عند الجيران الآخرين…ماذا سنفعل لنا الله".