وضع اقتصادي متردي يجبر الأطفال الفلسطينيون على العمل

بعد مرور حوالي عام ونصف على الانتفاضة

عربيات: نابلس - لبنى الأشقر

ليس هناك شيء اصعب من أن تشعر بالحرمان , وان تشعر بأنك عاجز عن عمل شيء لتغيير وضع معين , وليس هناك أجمل من لحظة فرح وسعادة ترسمها على وجه طفل صغير , شعور لا يمكن وصفه بصدق إلا من إنسان لمس ذلك عن قرب , حالة عايشتها شخصيا , كنت أسير متجهة إلى عملي , فإذا بطفل يناديني من الخلف , استدرت فإذا به لا يتعدى العاشرة يقف خلفي ويمد يده ويقول لي: خالتو أعطيني شيكل.

نظرت إليه باستغراب وقلت له: لماذا تريد الشيكل؟.

فقال لي , بدي اشتري سندويشة .

أخرجت النقود من محفظتي وناولته إياها وقلت له :لماذا لم تأخذ مصروفك؟

فقال لي: لم تعطيني أمي "مصاري"

فقلت له :لماذا ؟

قال : لانه "معهاش مصاري أبوي ما بشتغل وما معانا نصرف "...

سرت في طريقي وأنا أفكر كم عدد الأطفال الفلسطينيون الذين يعيشون حالات من الحرمات والعوز والحاجة ويعانون ظروفا مشابهة لظروف الطفل الصغير وربما أوضاعا أسوا بكثير من وصفه فإلى أي مدى وصلت معاناة أطفالنا.

تفهم وتضحية

الطفل عرفات ابن التاسعة من محافظة سلفيت في شمال الضفة يشعر بالألم لعدم شرائه ملابس جديدة لهذا العام يقول: " كان مصروفي 3 شيكل يوميا , أما هذه الأيام فلا آخذ أي مصروف " وذلك لأن الأهالي  لا يملكون المال لاعطائهم .. هكذا تحدث عرفات وبراءة الأطفال تطغى على ملامحه الصغيرة , عرفات ليس الوحيد الذي يتحدث بهذه اللغة , فسمر من محافظة جنين على رغم سنوات عمرها اللاتي لا تتعدى السنوات الست فهي تفهم ما يعانيه والديها وما تمر به الأسرة من معاناة  مادية ونفسية , فأوجدت حلا بسيطا يتناسب ووضعها , فهي لم تجد سوى أن ترضى بما هو لديها ,وان لا تطلب شيئا يثقل على كاهل والدها ... تقول سمر"والدي لا يعمل وعندما حاول الخروج إلى إسرائيل , امسك به الجنود وسجن لمدة شهر , أنا لا اطلب أي شيء من أبي فلا احب أن أراه حزينا ولا احب أن اثقل عليه" ... ولم تتذمر من الواقع المرير الذي يعيشه الفلسطينيون بل آثرت القناعة والرضى بما وصل إليه وضع أسرتها, وهذه أسمى درجات التعبير فهي صغيرة السن وليست شابة كبيرة تستطيع الاحتمال , ولكن إرادة البقاء والصمود غرست في دماء أطفالنا منذ نعومة أظفارهم.

أما فوز من مدينة نابلس فيخرج منذ الصباح مرتديا ملابس المدرسة وحاملا لاجزاء من ملصقات صغيرة يدور بها على المكاتب ويدرس في دوام مسائي , وعن سؤالنا لارتدائه ملابس المدرسة من الصباح قال فوز "حتى لا أهدر وقتي فأنا أعمل لأحصل على المال وأساعد والدي في المصروف ".

 

عمل قليل وخطر كبير

هذه هي رؤية الأبناء للوضع الاقتصادي الحالي وهذه هي الحلول المتوفرة لديهم لمساعدة أهاليهم في مجابهة الوضع الحالي والوقوف في وجه الحصار الجائر المفروض عليهم بقوة السلاح, أما عن رؤية الآباء لتأثير الوضع الاقتصادي على أطفالهم يرى أبو خالد من محافظة نابلس أن الطفل الفلسطيني اصبح رجلا يتحمل المسؤولية في سن مبكرة ويقول " ابني يعمل في بيع العلكة والمحارم بعد الظهر , ويحفف ولو قليلا من أعباء ومصاريف الأسرة" ... أبو خالد لا يشجع عمل ابنه لكنه  وكما قال مجبر على ذلك فهو لا يعمل ولم يترك بابا إلا وطرقه للعمل " لكن الحصار المشدد لم يترك مجالا لاحد أن للتنفس , فكيف يسمح بالعمل "  أضاف أبو خالد.

أم محمد من جنين يخرج أبنائها الاثنين يوميا إلى الحاجز العسكري لبيع العصير والماء والمثلجات فهناك ترى اكتظاظا للسائقين والركاب الذين ينتظرون تحت أشعة الشمس الحارقة لساعات عديدة للسماح لهم بالمرور عبر الحاجز " كما يقول المثل مصائب قوم عند قوم فوائد وهذا ينطبق على عمل أولادي فهم يبيعون الماء البارد والعصير للناس المتواجدين بالمئات على الحاجز العسكري فهم يشترون   كي يخففوا عن نفسهم حرارة الشمس والضغط النفسي بسبب انتظارهم لساعات طويلة" تتحدث أم محمد ونظرات خوف ترتسم على ملامحها فهي تخشى على أبنائها من التعرض للإصابة على الحاجز خاصة وانه تجري في الحيان كثيرة اشتباكات بين الجنود المتمركزين على الحاجز وبين المارين الذين ملوا الانتظار ومنعهم من الذهاب إلى أعمالهم.

و أم عبد الله من محافظة سلفيت تقول " أولادي يشعرون بحجم المعاناة التي نمر بها ويتفهمون جيدا الوضع الحالي , حتى أن ابني الكبير اقترح على والده ترك المدرسة ليعمل في أي شيء ليساعد في هذه الظروف الصعبة , لكن والده رفض فهو ما زال صغيرا ولا يقوى على العمل , كما أن دراسته أهم من أي شيء آخر".

 

وعن تأثير الوضع الاقتصادي على الأطفال يرى محمد عطوي رئيس نقابة الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين في مدينة نابلس شمال الضفة الغربية أن الطفل لا يستطيع فهم قضية "وضع اقتصادي متردي "فمثلا قضية كان يحصل على مصروف يومي يصل إلى دولار ومن الصعب أن يستوعب اليوم عدم حصوله على أي مصروف , بالتالي ينعكس ذلك على آرائه وسلوكه في البيت والمدرسة والمجتمع المحيط به, فترى بعض الأطفال يتسربون من المدارس واخرون يتراجع تحصيلهم الدراسي , وقد تظهر ظواهر اجتماعية سلبية مثل ظاهرة التسول أو حتى السرقات والاعتداء على الآخرين , ويتابع عطوي بان حرمان الطفل من مقومات أساسية في حياته والتي تشكل شخصيته تعزز جيلا جديدا ناقما على الأوضاع والمجتمع بدرجة كبيرة, وهذه قضية خطيرة جدا تحتاج العمل الجاد , وذلك من خلال عقد دورات إرشاد نفسي للأباء والأطفال ومحاولة تفريغ الكبت والحرمان الذي يعانون منه مع دمج الطفل في الجو المحيط به, ومحاولة إيجاد حلول للقضايا الاقتصادية.

تقارير وإحصاءات

وحسب تقارير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني قدرت الخسائر الإجمالية للاقتصاد الفلسطيني الناجمة عن الحصار خلال الشهور الأربعة الأولى من انتفاضة الأقصى حوالي 1,151 مليون دولار أي ما يعادل 20%من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع لعام 2000 على افتراض عدم وجود إغلاق للحدود ووصلت نسبة البطالة إلى 38%أي ما يقارب اكثر من 250 ألف شخص وتشير التقارير إلى أن 64,2%من الأسر الفلسطينية تحت خط الفقر .

وحسب التقرير السنوي لجهاز الإحصاء المركزي (أطفال فلسطين قضايا وإحصاءات )لعام 2001فان العامل الاقتصادي يعتبر من العوامل الرئيسة لعمل الأطفال حيث أن الحاجة المادية تضطر الأسرة لدفع أبنائها للالتحاق بسوق العمل لسد احتياجات الأسرة حيث وصل عدد الأطفال العاملين في عام 2000في الفئة العمرية(10_17) 27,404أي ما نسبته 4.5% من بين الأطفال لنفس الفئة العمرية  .