حوار توارت فيه الأسئلة إحتراماً للإجابات

الشاعر الكبير عبد المنعم عواد يوسف وخمسون عاما من الإبداع

القاهرة- يسري أبو العينين
صور وفيديو

أصدقائى
لا تناموا
هذه الليلة نقضيها سهارى
نملأ الليل غناء وسمر
ونغنى للقمر


حينما تنظر إليه تأخذك من اللحظة الأولى قسمات وجهه المريحة.. تخشع لأنك فى حضرة شيخ كبير، ثم لحظات ويحملك ليحلق بك فى سماوات لا أول لها ولا آخر من العذوبة والرقة والحب والشعر الجميل .
 

أتسألنى:

لماذا يعشق الإنسان؟

لأن الحب فى دمنا،

كمسرى الروح فى الأبدان

عشقنا،

لم يكن فى الوسع ألا نبلو الأشواق

ولهفة عاشق مشتاق

عشقنا،

لم يكن فى الطوق ألا نعرف الحُبّا

ونارا تصهر القلبا

عشقنا،

فالهوى قدر على الإنسان

يفاجئنا، يحاصرنا،

فلا نقوى على النيران..

وتأتى الآن تسألنى: لماذا يعشق الإنسان؟

إنه كتلة من الشعر العذب ، الصافى.. شاعر كبير.. همه الأول الإنسان بكل أحلامه والوطن بكل آماله..

سألت مرة:
- يا سيدى المجيد..

أليس من عجائب الزمان،

أن يموت بعضنا من ندرة الطعام؟

أجابنى:

- بل من عجائب الزمان،

أن يموت بعضنا من وفرة الطعام ‍

لمحت بازيا ينقض فى ضراوة الخطر

على خيال بلبل صغير

وحينما أبصرته بين مخالب الحداد يحتضر

أدركت ما عناه شيخنا الكبير.


وكما غنى للإنسان، غنى للحب فخرج لغته كملامح وجه، بسيطة  ورقيقة لا غموض فيها ولا تجميل.. صدق فى المشاعر إلى أقصى درجات الصدق..

حينما تمضى بنا الأيام من دون لقاء
يصبح العمر خواء
صدقينى..

لم يكن إلا هباء

لم يكن إلا هشيما..

ذلك العمر الذى ولى قديما،

قبل أن يجمع ما بينى وعينيك اللقاء


عبد المنعم عواد يوسف هو تجربة إنسانية شديدة الثراء، لم تتوقف عن العطاء. اعتبر أن الفن وسيلة للحرية  سلاحا للمقاومة، فلم يعش منفصلا عن واقعه الوطنى و القومى فى يوم من الأيام .

تعالوا، ننطلق ..
من ذاتنا الصخرية الأسوار..

نخرج من قواقعنا..

نعانق كل شمس نهار..

نحضن كل نجم مساء..

ونجعل من شبا الأقلام أسلحة..

نصد بها جيوش الليل..

كل جحافل سوداء..

ونرفع راية الأوطان..

ونحمل شارة الإنسان..

فلا فن، ولا فنان..

إذا لم نحتضن حرية البلدان..

إذا لم يرتفع فى الأرض..

كل الأرض..

صوت كرامة الإنسان..

 

إنه رائد من رواد الشعر الحديث فى الوطن العربى. بدأ نشر قصائده فى الخمسينات وتحديدا عام 1950 م ولا يزال ينشر حتى الآن.. بدأ مع صلاح عبد الصبور ومحمد مهران السيد وكمال نشأت وفوزى العنتيل وكمال أيوب وحسن فتح الباب ونجيب سرور وأحمد عبد المعطى حجازى وجيلى عبد الرحمن وغيرهم من الأسماء البارزة التى شكلت تاريخ الحركة الشعرية فى مصر.
 

ومن يجلس مع عبد المنعم عواد، إنما يجلس مع تاريخ الحركة الشعرية، ليس فى مصر فحسب وإنما فى العالم العربى أيضاً. ومن هنا تأتى أهمية أن يكون هذا اللقاء لمجلة عربيات مع الشاعر الكبير عبد المنعم عواد يوسف، وهو اللقاء الذي اخترنا تجريده من الأسئلة إحتراماً للإجابات التي نترككم معها.


ـ لا أعرف ما الذى ساقنى إلى درب الشعر.. أعلم أن ظروفا ما مواتية تؤدى إلى ولوج عالم الإبداع ، كأن تتعلق بشخص يحب الأدب فتنهج نهجه وتحتذى خطاه، أما أنا فقد نشأت فى أسرة لا تنتمى للأدب من بعيد أو قريب، ولم يكن من بين أقاربى من له اهتمام بهذا الفن الجميل .. فن الشعر. ولم يدر بخلدى أننى سأصبح يوما ممن يزاولون الكتابة ولعل من حرك فى نفسى هذا الهاجس هو مدرس اللغة العربية فى المدرسة الأولية حين تنبأ لى بأننى سأكون أديبا ، ولم أفهم وقتها معنى أن يكون الإنسان أديباً.

- بدأ اهتمامى بالشعر (شعر الفصحى) فى المرحلة الثانوية، وأقول شعر الفصحى لأنه سبقه اهتمامى بشعر العامية، وهو ما كان يسمى آنذاك بالزجل. حيث أقبلت على كتابته ونشره فى مجلة (البعكوكة)، وهى مجلة شعبية كانت تصدر قبل ثورة 1952 ولعبت دورا مهما فى إحياء هذا الفن ونشر إبداعات كبار شعرائه كبيرم التونسى وأبو بثينة وحسين شفيق المصرى.

- قرأت ديوانى شوقى، وحافظ، واستهوانى حافظ إبراهيم. وأحببت شعر المرحوم محمود غنيم ببساطته وروحه العذبة، قبل أن أقف على شعر المهجر وما به من روعة.. وكان لجبران وميخائيل نعيمة تأثير كبير فى نفسى، بيد أن إعجابى الأشد كان بأيليا أبو ماضى وإلياس أبو شبكة، ثم أقبلت على قراءة دواوين على محمود طه بكل شغف لدرجة أننى كنت أحفظ منها الكثير .

- كتبت أول قصيدة وأنا فى الصف الثانى الإعدادى مشاركة منى فى معركتنا مع العدو الصهيونى التى احتدمت عام 1948 م. ثم فى عام 1950 نشرت أول قصيدة لى فى "ركن الأدب" بمجلة "الزمان" وكان يشرف عليه الشاعر الكبير المرحوم "محمد الأسمر".

- اعترافا بالفضل، أقول إن "ركن الأدب" فى مجلة الزمان كان نافذة ثقافية أطل منها على الحياة الأدبية لأول مرة مجموعة كبيرة من الشعراء منهم من ودع الشعر الآن ومنهم لم يزل مخلصا لهذا الفن الجميل ومنهم من هو الآن فى رحاب الخالدين ومنهم من أدعو له صادقا بطول العمر وتجدد الإبداع. من هذه الأسماء وبقدر ما تسعفنى الذاكرة: محمد الفيتورى ومحى الدين فارس ومهران السيد وإبراهيم عيسى وجليلة رضا وفتحى سعيد وفوزى العنتيل وهاشم الرفاعى و كيلانى سند و الدكاترة أنور عبد الملك، ومحمود الربيعى وماهر فهمى ورجب البيومى وزكريا عنانى. كما أننى عرفت المرحوم بدر شاكر السياب لأول مرة من خلال قصيدة بيتية نشرها له ركن الأدب عام 1950م.

- فى ركن الأدب جمعتنى صداقات ببعض الشعراء، ظلت حتى وقتنا هذا لم تشبها شائبة فى يوم من الأيام. وبرغم عدم التقائنا فى بعض التوجهات السياسية، فقد ظلت دوافعنا الثقافية ومنازعنا الفكرية متمثلة فى الإيمان بكرامة الإنسان وحريته، وأهمية أن تسود العدالة الإجتماعية وأن يطرح الإنسان عن كاهله كل صنوف القهر.. ولقد ظلت هذه القيم الأساسية روافد أصيلة لتجربتنا الشعرية.

- فى تلك الفترة أيضا أرسلت بقصائدى إلى المجلات الأدبية التى كانت تصدر يومذاك، وكم كانت فرحتى بالغة حين بدأت قصائدى تظهر على صفحات مجلة "الثقافة" التى كان يرأس تحريرها الأستاذ الكبير المرحوم أحمد أمين. وكيف لا تستبد الفرحة بطالب فى المرحلة الثانوية وهو يطالع إنتاجه الشعرى منشورا إلى جانب كتابات كبار الأدباء. لكن الفرحة الكبرى كانت حين نشرت قصيدتى "أطياف" فى مجلة " الرسالة " و التى كان يشرف عليها الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات، والتى كانت بمثابة الشهادة لى بأننى أصبحت شاعرا بحق .

- تخرجت من كلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية، وفى هذه الكلية بدأت ثقافتى الأدبية القائمة على اجتهادى الشخصى تتخذ شكلا أكاديميا قائما على نسق صحيح, فعلى أيدى أساتذتى طه حسين وشوقى ضيف انفتحت أمامنا دروبا رحبة لدراسة شعرنا العربى القديم على أسس علمية ومنهجية صحيحة. ثم كان للدكتورة سهير القلماوى الدور الكبير فى تعريفنا بالأدب الحديث وللدكتور عبد العزيز الأهوانى فضل وقوفنا على الأدب الأندلسى، وللدكتور عبد الحميد يونس الفضل فى تمهيد دروب الأدب الشعبى واطلاعنا على كنوزه من سير شعبية وأساطير وحكايات .. وفى كلية الآداب تعرفت على الزملاء رجاء النقاش بهاء طاهر ومحفوظ عبد الرحمن وصافيناز كاظم وهدى العجيمى الذين أصبح لهم وزنا كبيرا الآن فى الحياة الثقافية.

وفى عام 1952 م نشرت قصيدة "الكادحون" فى مجلة الثقافة فى تلك الفترة التى كان يشرف عليها المرحوم محمد فريد أبو حديد وتعد هذه القصيدة ثانى قصيدة من الشعر الجديد تنشر لشاعر مصرى فى هذه المجلة، بينما كانت الأولى لعز الدين اسماعيل " لعملاق"، والثالثة لصلاح عبد الصبور " أبى". ولعلنى لا أتجاوز الحقيقة حين أقول أن قصيدة "من أب مصرى إلى الرئيس ترومان" لعبد الرحمن الشرقاوى كانت هى القصيدة الأم فى هذا اللون من الشعر، وأقصد شعر التفعيلة، ثم قصيدة "العملاق" وقصيدة "الكادحون" وأخيرا قصيدة "أبى" .. كانوا بمثابة الإشارة الخضراء لغيرنا على الدرب .. فخطا إثرنا الكثير من شعراء جيل الرواد ومنهم حسن فتح الباب وكمال نشأت وفوزى العنتيل وأحمد عبد المعطى حجازى ونجيب سرور وكمال عمار وغيرهم.

ـ وفى الستينات بلغت قصيدة التفعيلة أوج نضجها شكلا ومضمونا.. كان الشكل قد تحددت سماته الفنية ورسخت قواعده واستمد المضمون من المد القومى الرائع والمكاسب الثورية مواضيع للإبداع كانت تتجدد بتجدد الأحداث وتتوهج بتوهج حماس الجماهير وتفاعلها الثورى وظهر على الساحة الشعرية مبدعون كثر أمثال محمد عفيفى مطر وفاروق شوشة ومحمد ابراهيم أبو سنة وغيرهم كثيرين وعلى رأسهم الشاعر الذى شغل الدنيا و الناس المبدع الكبير المرحوم أمل دنقل الذى كان شعلة من النشاط لا تخمد ولا يقر لها قرار.


- بطبيعة الحال كان للنكسة عام 1967م  تأثير كبير.. صدمت النفوس، وكسرت القلوب فكان فرار كثير من المبدعين من واقع الهزيمة العسكرية المرير إلى خارج مصر، لعلهم يعيدون هناك توازنهم النفسى، وكنت مع الخارجين فشددت الرحال إلى منطقة الخليج.

- نعم كانت فترة طويلة .. لكنى لم أنفصل عن الحياة الثقافية فى القاهرة، وشاركت فيها بقدر مشاركتى فى الحياة الثقافية فى الخليج. تقريبا كل دواوينى الشعرية صدرت من القاهرة وأنا بعيد عنها .. عدا ديوان "أغنيات طائر غريب" الذى صدر فى بيروت، وعندما عدت أخيرا إلى القاهرة أصدرت ديوانى "لكم نيلكم ولى نيل".

- بالطبع تركت فترة إقامتى هناك أثارها فى تجربتى الشعرية من حيث الشكل والمضمون، ومن يقرأ ديوانى "هكذا غنى السندباد" و "بينى وبين البحر" اللذين صدرا فى القاهرة سيرى إلى أى حد بلغ أثر إقامتى الطويلة هناك فى تجربتى الإبداعية.

تعود إليها، ككل النوارس حين تؤوب إلى مهدها

تحدق من خلف دمعتها الطافرة

تجىء إليها بكل اشتياقك

كل الحنين،

تؤم الأماكن،

نفس الأماكن،

نفس الرؤى..

(غير أن الوجوه التى طالما صافحتك هنا، لم تعد ها هنا)

فمن هؤلاء ترى؟

أيها العائد الآن،

بعد غيابك هذا الذى طال، تحتضن القاهرة ..

 

- الإنتقال من مدرسة شعرية إلى مدرسة أخرى أمر يتطلبه التطور الأدبى ونضج تجربة الشاعر الفنية. كان طبيعى أن أبدأ كلاسيكيا بفعل قراءاتى ودراساتى الأولى، ثم أتحول رومانسيا، ومن الرومانسية إلى الواقعية .

- حين اكتشفت أن التزامى الواقعى سيكون على حسابى المستوى الفنى و الجمالى، كان على أن أعادل معادلة صحيحة بين الفن والإلتزام ومن هنا كان وقوفى عندما يمكن تسميته بمدرسة " الحداثة المعتدلة ".

- أنا حريص على العروض الشعرى الجديد، ولست على استعداد للانزلاق إلى ما يسميه متطرفو الحداثة  "قصيدة النثر".

- حريص أيضا على عمق التناول للرؤية الشعرية دون أن يؤدى هذا إلى الغموض و الإلغاز. مع حرصى على التشكيل وبناء شعرى على التصوير لا التقرير .

- أنا لا أنزلق إلى تداخل خطوط الصورة، أو الوقوف عند ضبابية الحلم كما هو الحال عند السيرياليين. والتزامى بأن أكون ابن واقعى والمعبر عن عصرى لا يكون على حساب المعايير الفنية الأصيلة .

- التوافق الإيقاعى فى شعرى يعود إلى إيمانى بأن العنصرين الأساسين فى التجربة الشعرية هما: التشكيل باللغة و الموسيقى.

- أحاول مع حرصى على أهمية الإيقاع أن أكسر حدته بحيث تبدو القصيدة – لغير العارفين – وكأنها قصيدة نثر، ومن وسائل كسر الإيقاع: التدوير واستخدام البحور غير الصافية والتى تتنوع فيها التفعيلات، ومن ذلك تعاملى مع "البحر الطويل" وغيره .

- نعم الإيقاع الموسيقى قد أصبح ساريا فى نفسى سريان الدم فى العروق، والتكلف بعينه أن أتخلى عنه فى تجربتى الإبداعية .

- نعم أستطيع أن أقول بأننى راض تماما عن الصيغة الشعرية التى توصلت إليها الآن، وجعلت لى حضورى الخاص بين شعراء الحداثة .