بيير بورديو: التّلفزيون الذكي يُلاحق عقولنا

احذر من مصيدة متابعة القناة الواحدة ونجومها وضيوفها

عربيات - المغرب: فاطمة الزعيم
صور وفيديو

رغم اختراق شبكات التواصل الاجتماعي لحياة الناس بشكل سريع ومخيف فإن التلفزيون لم يفقد بعد سلطته الخارقة في توجيه الرأي العام وصناعة شهرة الأشخاص والمؤسسات. كما أن الشركات العالمية لا تتوانى في ابتكار جيل جديد من التلفزيون الذكي يُمكّن مشاهديه من تصفح الإنترنت والقنوات وتحميل التطبيقات ودعم تعدد المهام والاستجابة للأوامر الصوتية والتحكم بالتلفاز بواسطة حركة اليد. ولم تعد مشاهدة التلفزيون تقتصر على الجلوس أمام جهاز التلفزيون بل تعدته إلى وسائط للمتابعة عبر مقاطع الفيديو والمواقع الإلكترونية للفضائيات وتداول البرامج المثيرة في الشبكات الاجتماعية وتطبيقات الأجهزة الذكية. وأصبح واضحا للمشاهد لهث القنوات الفضائية خلف مضاعفة نسبة المشاهدة على حساب القيم أحياناً أو تحت شعار الجرأة أو نشر خطابات الكراهية والفرقة بين أطياف المجتمع. فمن أين يستمد التلفزيون قوته في الصمود أمام جديد التكنولوجيا؟ وما نوع المخاطر التي تهدد المشاهد بعد قضاء ساعات طوال أمام جهاز التلفزيون؟

صناعة النجوم ومرآة النرجسية
يُعتبر التلفزيون عاملا حاسما فالأحداث والفضائح والندوات التي تُطرح من قبل صحفيي الصحف المكتوبة لا تصبح حاسمة إلا عندما يتحدث عنها ويبثها الإعلام المرئي، كما يتم استثمار ذلك في الوقت نفسه ببراعة سياسية. إذ ما زال التلفزيون قادراً على أن يجمع حول نشرة الأخبار عدداً من المشاهدين يتجاوز  هؤلاء الذين يطلعون على كل صحف الصباح والمساء. 

ورغم القيود التي يفرضها التلفزيون على ضيوفه في اختيار المواضيع وتحديد سقف زمني ضيق لنقاش قضايا مهمة فإن جل الباحثين والعلماء والكتاب يقبلون بالظهور في التلفزيون بل ويسعون للحصول على هذه الفرصة الذهبية.  
وفي كتابه "التلفزيون وآليات التلاعب" يُرجع بيير بورديو -عالم الاجتماع والمفكر الفرنسي-  سرّ هرولة الشخصيات المذكورة نحو التلفزيون إلى البحث عن الإدراك من طرف الآخر. أن يكون طرحك مقبولاً من جانب المعدين، وتكون حاضراً كلما كان ذلك ممكنا على شاشة التلفزيون، فيعرفك المشاهد، ولكن قد ينعكس ذلك على الإنتاج الأدبي والعلمي فنجد أغلب هذه الشخصيات تكتب على فترات كتبا مختزلة أو مقالات وظيفتها الأساسية هي تأمين دعوتهم إلى البرامج التلفزيونية كما لاحظ الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي جيل ديليز، لهذا السبب أصبحت شاشة التلفزيون اليوم كأنها مرآة النرجسية.

التفكير السريع والأفكار الشائعة
ويرى بيير بورديو أن أحد المشاكل الكبرى التي يطرحها التلفزيون هي مشكلة العلاقات بين التفكير والسرعة. إذ هل يمكن التفكير أثناء اللهاث بسرعة؟ ألا يُدان التلفزيون بأنه لن يحصل على الإطلاق إلا على مفكرين -على السريع-  عندما يعطي الحديث لمفكرين أُجبروا على أن يفكروا بسرعة متزايدة؟.

في الواقع يجب التساؤل لماذا هم قادرون على قبول مثل هذه الشروط الخاصة تماما، لماذا يمكنهم أن يفكروا في ظل ظروف لا يمكن لأحد أن يفكر في ظلها على الإطلاق؟ يبدو أن الجواب هو أنهم يفكرون "الأفكار الشائعة" والتي تحدث عنها فلوبير، هي تلك الأفكار التي يتقبلها الجميع، تقليدية، وسطية شائعة ومشتركة. لكنّها هي أيضا تلك الأفكار التي عندما تتلقاها يكون قد تم قبولها بالفعل، بحيث لا يكون هناك محل لطرح مشكلة التلقي والإدراك بعد ذلك. 


إعلام الإثارة ووسيلتك للتوازن العقلي
لكن الأكثر أهمية وخطورة هو أن رؤية معينة للمعلومات تصل إلى حد التغييب والاستعباد الكامل لها تسعى الآن إلى فرض نفسها على مجمل المجال الإعلامي بعد أن كانت محصورة من قبل فيما يعرف بصحافة الإثارة المتخصصة في الأخبار الرياضية والأحداث المتفرقة، يتم ذلك من خلال تزايد الوزن الرمزي للتلفزيون، وتزايد القنوات التلفزيونية المتنافسة التي قد تضحي بقدر كبير من المهنية بحثا عما هو مثير، عما يجذب المشاهدة، عن الخارق للعادة، وعن التوجيه الفكري المكثف.

ويعتقد بيير بورديو أنه  يمكن للقوى والتّلاعبات الصحفية أن تعمل أيضا بطريقة أكثر حذقا وبراعة وفقا لمنطق حصان طروادة، أي بإدخال إنتاج يتميز بالتبعية في مجالات مستقلة، مثل المنتجين التابعين الذين يتلقون التكريم تحت تأثير القوى الخارجية، تكريم لا يمكن لهم أن يحصلوا عليه من خلال قيمتهم الفعلية داخل مجالهم. 

أما النصيحة للمشاهد الذي قد يجذبه الطرح المثير ويؤجج حماسه، خاصة في الأطروحات والنقاشات والأخبار التي تتناول الصراعات السياسية أن يتجه من مشاهدة قناة إلى ضدها وهو مدرك أنه يشاهد توجهات متحيزة تتأثر بالتحزبات ورأس المال، ليبقى مشاهداً بعيداً عن مصيدة الاستعباد، أو يتجه إلى قراءة أكثر تعمقاً في وجهات نظر مختلفة تجنباً للرؤية من زاوية واحدة، وللمساعدة على خلق التوازن العقلي وعدم الانجراف نحو توجه إعلامي قد يتبناه تأثراً دونما فرصة لاختبار صحته.

 

التلفزيون أفيون الشعوب
أظهرت أبحاث علمية أن مشاهدة التلفزيون تجعل المناطق العليا من الدماغ في حالة غير نشطة، حيث يتم نقل الأنشطة إلى المناطق السفلى من الدماغ. وتتسبب عملية مشاهدة التلفزيون بشكل متكرر في ضمور هذه المناطق العليا كما أنها تبطئ عملية نمو الدماغ. وهذا ما يحول المشاهد إلى كسول حقيقي. ووفقا للباحث هربرت كروجمان فإن مشاهدة التلفزيون كتعاطي الأفيون أو مشتقاته (المورفين والكوديين والهيروين). 

والتلفزيون يقلل من قدرتنا على التفكير بعقلانية. وقد أظهرت العديد من الدراسات أنه عندما يشاهد الغالبية التلفزيون فإن الدماغ يكون على استعداد لابتلاع كل ما يقدمه بدون تحليل نقدي. فالمعلومات التي يقدمها تكون مبسطة بشكل مفرط مما يجعلها مفهومة من طرف الجميع، بينما الواقع أن الحياة أكثر تعقيدا من ذلك العالم الذي يصوره التلفزيون. فالمشاكل لا تحل بالبساطة والسرعة التي يصورها ولا تحتمل الأبيض والأسود فقط. ومن هنا تأتي ضرورة إعمال جانب البحث والقراءة لتشكيل رؤية مكتملة وواقعية وإبداعية بعيداً عن الأفكار الجاهزة التي نستقبلها عبر أجهزة البث.

أطفيء تلفزيونك فورا واستمتع بوقتك
في كتابها "اخلع رداء التوتر" تدعو لويس ليفي إلى إطفاء التلفزيون والاستمتاع بالوقت. فالدراسات أوضحت أن الأشخاص لا يشعرون بمزيد من الاسترخاء أو الرضا بعد مشاهدة التليفزيون. لذا، إذا كنت تعتقد أنك تفعل ذلك من أجل تخفيف التوتر، فهذا غير مجد. 

والأخبار الجيدة أنه إذا توقفت عن مشاهدة التليفزيون، فسيكون لديك وقت لعمل جميع الأشياء التي تحبها والتي كنت متأكداً أنه ليس لديك وقت للقيام بها. وسيكون لديك وقت للتحدث مع الآخرين، أو للعب مع الأطفال، أو للقراءة. 

ونختم بمقولة للكوميدي الأمريكي الراحل جروشو ماركس "أنا أجد التليفزيون وسيلة تعليمية للغاية. ففي كل مرة يقوم شخص ما بتشغيله، أذهب إلى حجرة أخرى وأقرأ كتابا جيدا"، واليوم ربما المشاهد أصبح إتجاهه للشبكات الاجتماعية كبديل للكتاب، وقد تكون  فرصة لخلق التوازن المطلوب وتوسيع نطاق الإطلاع، أو مصيدة إذا كان لا يتابع من خلال هذه الشبكات إلا نفس القنوات ونجومها وضيوفها.