نتاج قرار اتخذه الوعي الاجتماعي

دار الحنان

رانية سليمان سلامة

(1) ميلادها

 
"حين انطلق تعليم الأولاد في البلاد سعت، وحاولت، وعاركت ليصبح تعليم البنات مساوياً لتعليم البنين".
تركي الفيصل (1)
 
 
" كانت رائدة التعليم النسوي في المملكة يوم كان الكلام ـ مجرد الكلام ـ  عن تعليم المرأة مغامرة غير مأمونة العواقب".
غازي القصيبي (2)

نضجت في ذهن الأميرة عفت من جديد فكرة افتتاح مدرسة للبنات، بعد أن تعثرت المحاولة في الطائف، وأقدمت على خطوتها التالية مستفيدة من تجربتها السابقة، ومستندة إلى حقيقة هامة تؤكد أن المجتمع يجب أن يكون مهيأً لاستقبال هذه الخطوة، ويجب أن يسهم فيها مقتنعاً بأهميتها وجدواها لتنجح.

تغيّرت الإستراتيجية ولم يتغير الهدف، فكانت الخطوة التاريخية المصحوبة بقراءة سليمة لطبيعة المجتمع لتتوافق معه، وتحظى بدعمه وتشجيعه. وفي عام 1375هـ/1955م زرعت الأميرة عفت البذرة الأولى التي استقرت في باطن أرض الوطن، لتظهر بواكير ثمارها كدار لرعاية الفتيات اليتيمات والمحتاجات، ومن ثم امتدت فروع تلك الرعاية إلى توفير تعليم نظامي يتضمن تدريس بعض المواد الحديثة في ذلك الوقت.

كالخيال تلوح صور الإعداد لتلك الخطوة في ذاكرة ابنتها الأميرة لولوة الفيصل، فتلتقطها سريعاً وتقول:

"استيقظت ذات صباح، ووجدت حركة لافتة في المنزل، حيث أحضرت والدتي آلات الخياطة وأقمشة متنوعة من (البفتا) و(الدانتيل) وأدوات تطريز، وجلست بيننا مع صديقاتها يعملن على حياكة الزي المدرسي والمفارش والستائر التي ستزين بها جنبات الدار. لم يكن كل ذلك متوفراً ـ آنذاك ـ لتشتريه من الأسواق. وكانت سعيدة وهي تقوم بهذه المهمة".

حتماً كانت سعيدة وهي تحيك بيدها ملابس الطالبات، وأكاد أرى بين طيّات المشهد حلماً كان يحاك في خاطر الأميرة عفت تتداخل فيه خيوط العزيمة والتخطيط والإصرار ليخرج ثوباً من العلم يزين مستقبل كل فتاة.

"رأيت أن البدء يجب أن يكون بدار للأيتام، لكن كلمة الأيتام لا أحبذها، بل أرغب نفيها لذلك اخترت للدار  اسم (دار الحنان)"

عفت الثنيان (3)

(دار الحنان) هو الاسم الذي اختارته للدار التي تقدم الرعاية للمحتاجات، وفي خاطرها أمل وعزيمة على أن تتوسع الرعاية لتشمل المحتاجات للتعليم بشكل عام، فهي تؤمن بأن الحاجة إلى التعليم لا تقل أهمية عن الحاجة إلى المال والطعام والمسكن. وقد تكفّلت ـ رحمها الله ـ بمصاريف تلك الدار، واستقدمت لها معلمات من الدول العربية المجاورة، كما عهدت بها إلى معلمة بناتها السيدة (مفيدة الدباغ).

ولكن مجدداً فوجئت الأميرة عفت بأن أحداً لم يرسل بناته للمدرسة. كما وجدت أن الدار قد أصبحت محل تساؤلات من المجتمع، بين مَن ينظر إليها معتبراً أنها مأوى لليتيمات، ومَن يرى أن تعليم البنات يقتصر على مَن يحتجن إلى العمل لإعالة أنفسهنّ وأسرهنّ.

وبين طيّات الصفحات التي تذكر حكمتها في معالجة هذا الخلل وجدتها تضع تلك التساؤلات والعقبات التي واجهتها على مائدة التحليل، وتقول:

"نحن شعب ذكي، لا نقدم على خطوة دون أن نقتنع بحاجتنا إليها" (4)

 كانت عفت مقتنعة بتلك الحاجة إلى تعليم البنات، غير أنها أرادت أن يقتنع المجتمع ليشاركها بالحراك في هذا الاتجاه. وأقرأ التاريخ وأمزجه بالواقع لأستمع إلى صدى إجابتها التي أعلنت بها عن أداتها لإقناع الآخرين، فوجدتها ببساطة تفعل قبل أن تقول:

 

"لقد ألحقت بناتي وبنات الأسر التي أعرفها بالمدرسة"

 

30 طالبة فقط كن كقطرات السيل التي حفرت مجراها في الطريق لتعبر من خلاله بنات الوطن إلى صروح العلم. وتسلّمت عفت شهادة نجاح تجربتها في العام التالي، حيث التحقت بمدارس دار الحنان 100 طالبة. ولم يكتفِ الأهالي بذلك، بل أرادوا أن تكون لهم مساحة أكبر من المساهمة في هذا المشروع، فطالبوا بأن يكون الالتحاق بالقسم الخارجي للمدرسة برسوم، ووافقت الأميرة عفت وحددت الرسوم الشهرية بـ 30 ريالاً، وأصبح ريع طالبات القسم الخارجي في عام 1377هـ مخصصاً لدار الرعاية.

"لم تكن البداية سهلة، وكنت أعلم ذلك، فكافحت وكافحت معي بنات الرعيل الأول من بنات بلادي اللواتي تحدين المصاعب، واجتزن العقبات بكل صبر وثبات في سبيل نيل العلم والمعرفة. يقول الله تعالي ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض )" (4)

 

وتعلّق الأميرة لولوة على هذا النجاح، فتقول:

"المشاريع الناجحة هي تلك التي تحيط عملها بأسوار منيعة من دعم المجتمع وقناعته بأهميتها، ولا يمكن أن نغفل في تجربة والدتي الدور الذي قام به الأهالي عندما التفوا حولها وحول المؤسسة، وألحقوا بناتهم بها. فدار الحنان كانت نتاج قرار اتخذه الوعي الاجتماعي، ولم تكن إنجاز والدتي وحدها".


المراجع
(1) الشرق الأوسط – العدد 7762 – 28/فبراير/2000م
(2) كتيب (عفت الثنيان.. تاريخ وإنجاز) – إعداد البروفيسورة سميرة إسلام
(3) مجلة المجلة باريس- رنا البيطار
(4)  من كلمة الأميرة عفت في حفل مرور أربعين عاماً على تأسيس دار الحنان 1416هـ