أوبك وعشوائية القرارات

الدكتور محمد محمود شمس

لعلنا نتسائل هنا بمرارة فى خضم الإرتفاع الشاهق لأسعار البترول أين تقع حاليا منظمة الأوبك ؟ و أين توجد ؟ وهل هى ذلك الغائب الحاضر فى أسواق البترول العالمية؟  لقد فقدت منظمة الأوبك بكل المقاييس سيطرتها على أسواق البترول العالمية منذ عدة سنوات لكن الوضع الحال لا يمكن وصفه إلا بالعجز التام لهذه المنظمة لما تفتقر إليه تماما من مقدرة على إتخاذ القرار.  فمتوسط أسعار البترول خلال الأشهر الماضية يفوق  35 دولار للبرميل و البترول الخام يتدفق إلى الأسواق العالمية من كل صوب نتيجة إنتاجه من مناطق كان يتعذر الوصول إليها فى غياب هذا الإرتفاع الشاهق لأسعار البترول منذرا بذلك بإنخفاض حاد فى المدى الطويل لإسعار البترول يفوق إدراك وتصور منظمة الأوبك. فمنظمة الأوبك دائما و كعادتها فى كل بضع أشهر تخرج على المراقبين الدوليين و المتخصصين فى شؤون البترول و الطاقة بالشرق و الغرب بقرارات غريبه لا علاقة لها بإقتصاديات العرض والطلب العالمية على الإطلاق. ففى يوم الثلاثاء العاشر من فبراير 2004 قررت منظمة الأوبك خفض حصة إنتاجها الإجمالية بمقدار مليون برميل باليوم وذلك فى إجتماعها رقم 129 الغير عادى بالعاصمة الجزائرية. فيشير الجدول رقم (1) إلى أن سقف إنتاج البترول الخام الجديد لدول المنظمة والذى قرر تطبيقه إبتداءا من أول إبريل من عام  2004 سينخفض من  24,500 مليون برميل باليوم إلى  23,500 برميل باليوم بإنخفاض نسبته نحو 4 بالمائة.

المصدر:مركز إستشارات الجدوى الإقتصادية والإدارية بجدة

و هذا الإنخفاض جاء للأسف بالرغم من ما تضمنه محضر جلسات وزراء الأوبك الذى أشير فيه بزيادة الطلب العالمى على البترول خلال عام 2003 و الربع الأول من عام 2004  . و الذى أدهش المراقبون من قرار المنظمة هو أن الإحصاءات العالمية من مختلف المصادر العالمية والإقليمية والمحلية للدول المستهلكة للبترول ومصادر الطاقة المختلفة تشير إلى أن النصف الأول من عام 2004 سيشهد إرتفاع لأسعار البترول العالمية بالمستوى الحالى لإجمالى العرض والطلب للبترول. من أجل ذلك كانت دهشت المراقبين الدوليين و المهتمين بشؤون الطاقة العالمية من قرار وزراء منظمة الأوبك العشوائى بخفض الإنتاج بمليون برميل باليوم حيث أنه كان من المتوقع أن تستمر منظمة الأوبك بمستوى الإنتاج الحالى على الأقل خلال الربع الثانى من عام 2004 بدون خفض لإنتاج أو زيادة مفرطة للأسعار.

فإجتماع وزراء المنظمة السابق لم يكن ضروريا و كان من الممكن أن يتفق الوزراء على إبقاء الوضع الحالى على ماهو عليه بدون تغيير سقف الإنتاج عبر المؤتمرات الهاتفية كما يحدث بالمنظمات العالمية وبين رؤساء الدول لتجنب إحداث بلبلة لا داعى لها وذلك لما تسببه مثل هذه الإجتماعات ذات الرنين الإعلامي من إضطرابات عالمية فى مختلف أسواق السلع والخدمات. فالحقيقة التى يتفق عليها الكثير من المراقبين على المستوى المحلى والإقليمى والعالمى أن منظمة الأوبك لا تتصرف فى كثير من الأحيان بالدهاء الذى تتميز بها المنظمات الدولية و كما وتفتقر إلى فطنة المراقب الدولى ، فهؤلاء يحسنون الرمى وإصابة الهدف سياسيا وإقتصاديا بالعلم والخبرة والدراسة. ومن أجل ذلك نجد أن منظمة الأوبك دائما تتلقى من الصحف الغربية والمرقبين الدوليين  اللوم و الإتهام بالجشع و بالطمع بسبب المغالاة فى رفع أسعار البترول بينما الأسعار العالمية للبترول سوف ترتفع تلقائيا فى الربع الثانى لعام 2004 على ضوء التوقعات الإحصائية المستقبلية للعرض والطلب العالميين بدون تدخل الأوبك.

 الجدير بالذكر إن سعر البترول المرتفع حاليا والذى يبلغ متوسطه نحو  35 دولار للبرميل خلال الأشهر الماضية يفوق النطاق السعرى الذى تعهدت منظمة الأوبك المحافظة عليه فى السابق وهو بين  25 دولار إلى 28 دولار للبرميل. فلماذا خفض الإنتاج؟ ولماذا البلبلة التى لاداعى لها؟

 

أثر قرار الأوبك على الإيرادات السعودية

إن هذا التخفيض فى سقف إنتاج البترول الناتج عن الإرتباك الواضح فى إتخاذ القرارات العشوائية سينتج عنه إنخفاض فى حصة المملكة من إنتاج البترول من  7,963 برميل باليوم إلى  7,638 برميل باليوم بكمية مقدارها 325 ألف برميل باليوم وهى تساوى إنخفاض فى إنتاج المملكة العربية السعودية مقداره نحو  119 مليون برميل بالسنة. و بهذا القرار الغير صائب الذى إتخذته منظمة الأوبك بحضور وموافقة وزير البترول و الثروة المعدنية السعودى السيد/ على إبراهيم النعيمى فإن الميزانية السعودية ستخسر من إيراداتها السنوية مبلغ إجمالى قدره نحو  13 مليار ريال سعودى فى ظل عجز متوقع فى الميزانية السعودية مقداره 30 مليار ريال سعودى ودين عام متفاقم يقدر بنحو  760 مليار ريال. هذا إذ لم يتم خفض آخر من خلال قرارات أخرى لمنظمة الأوبك لإنتاج المملكة و ضياع آخر لإيرادات المملكة البترولية و إضافة أخرى للدين العام. فلست أدرى كيف سيكون أثر هذا المصاب المؤلم على  الدكتور/ إبراهيم العساف وزير المالية الذى يسعى لزياد الإيرادات البترولية السعودية وليس خفضها. وهذا السؤال الحيوى الذى نرجو من الأستاذ / على إيراهيم النعيمى وزير البترول والثروة المعدنية إجابة شافية و مطمئنة له تشفى صدور المواطنين السعوديين وخريجين الجامعات الباحثين عن وظائف فى ظل هذا الإنخفاض المستمر لإيرادات البترول السعودى. ويشير الجدول رقم (2) إلى الخسائر التى لحقت بالميزانية السعودية خلال عامى  2001 و 2002 من خلال قرارات منظمة الأوبك بخفض الإنتاج ثم رفعة  بدون إجراء دراسات متقنة لأسواق البترول العالمية. 

 

لماذا العشوائية؟

بإلقاء نظرة سريعة على قرارات منظمة الأوبك خلال العام المنصرم 2003  فقط نجد أنفسنا فى حيرة كاملة بسبب الصعوبة الكبير التى تواجهنا لتفسير قرارات منظمة الأوبك التى تبدو بوضوح أن لا علاقة لها بتقنيات إقتصاديات أسواق البترول العالمية و لاتترجم بدقة إنعكاسات أسعار البترول الحالية وكذلك المستقبلية.

ففى 12 يناير عام 2003 إجتمع وزراء منظمة الأوبك بالعاصمة النمساوية فيينا و قرروا فى إجتماعهم رقم  123 زيادة سقف حصص إنتاج البترول لدول الأعضاء بإستثاء العراق بمقدار 1,5 مليون برميل باليوم من 23 مليون برميل باليوم  إلى 24,5 مليون برميل باليوم إبتداءا من أول فبراير 2003.  و فى 24 إبريل من نفس العام 2003 أى بعد أقل من شهريين إتخذ نفس الوزراء بمنظمة الأوبك قرارمعاكس تماما لما إتخذوه قبل أقل من شهرين فقرروا خفض الإنتاج بمقدار 2 مليون برميل فى اليوم إبتداءا من أول يونيو 2003 نظرا لعدم إلتزام بعض دول المنظمة بقراراتهم الأمر الذى أدى إلى زيادة الإنتاج الفعلى للمنظمة إلى  27,4  مليون برميل باليوم. و فى 24 سبتمبر  2003 أى بعد ثلاثة أشهر أخرى من قرارهم بخفض الإنتاج بمقدار 2 مليون برميل باليوم إتخذ وزراء منظمة الأوبك قرار معاكس آخر بزيادة الإنتاج هذه المرة بمقدار 1,5 مليون برميل باليوم ليصبح سقف الإنتاج  24,5 مليون برميل باليوم إبتداءا من أول نوفمبر 2003. و فى إجتماعهم الأخير رقم 129 بالجزائر فى 10 فبراير  2004 عكس نفس وزراء منظمة الأوبك قرارهم السابق أيضا الذى لم يمضى عليه أكثر من أربعة أشهر وقرروا خفض الإنتاج بمقدر مليون برميل ليصبح سقف إنتاج البترول لدول المنظمة 23,5 مليون برميل فى اليوم. و لا ندرى ماذا أعد وزراء منظمة الأوبك من قرارات معاكسة فى الأشهر القليلة القادمة حيث أن إتخاذ قرارات رفع ثم خفض ثم رفع الإنتاج ثم خفضة مرة أخرى أصبح أسلوب إعتادت عليه المنظمة و لا يمكن تفسيره إقتصاديا.

الجدير بالذكر فإنه إذا أردنا أن نسرد وقائع قرارات وزراء المنظمة خلال السنوات العشر الماضية نجدها لا تختلف إطلاقا عن تلك القرارات العشوائية خلال عام 2003 . و للأسف الشديد أن المنظمة لا تقبل بأى حال من الأحوال النقد البناء بل وتعتبره إهانة لها بالرغم بأن جميع المنظمات العالمية الإقتصادية والغير الإقتصادية تفتح صدورها لجميع أشكال النقد و نتائج الدراسات من مختلف مصادر المعرفة بهدف الإستفادة العلمية والعملية منها و بغية تصحيح أوضاعها.  فحرى بمنظمة الأوبك أن تسمع وتقرأ ما يكتب عنها سواء كان صحيحا أو غير صحيح ولابد أن تطلع على الدراسات الإقتصادية و آراء المختصين من مختلف المصادر الأكاديمية وغير الأكاديمية لتصحيح أوضاعها و الإستفادة من نتائجها وتوصياتها بدون عصبية وحساسية. فما أوتيتم من العلم إلا قليلا والجميع غير معصوم من الخطأ.

 

كلمة أخيرة

إن فهم تحركات العرض والطلب بأسواق البترول العالمية يحتاج إلى خبراء على مستوى علمى وعملى عالى فى مجالات كثيرة فنية وإدارية كالهندسة بفروعها المختلفة والجولوجيا والإقصاد والتسويق والمحاسبة وغيرها من العلوم المساندة لتجنب عشوائية القرار. إن العرض العالمى والطلب العالمى للبترول خلال عام 2003 لم  يصاب بخلل فى توازنه و لم يتذبذب بالدرجة التى تجعل  وزراء منظمة الأوبك يجتمعون خلال هذا العام نحو ستة مرات تارة يرفعون الإنتاجة وتارة أخرى يخفضونها بكميات لا تبرر وضع سوق البترول العالمية الحالى والمستقبلى.  هذا يدل على عشوائية مؤسفة فى عملية إتخاذ قرارات المنظمة و يشير إلى غياب الدراسات الإقتصادية العلمية المتقنة كا يفيد بالبعد التام عن الواقع الإحصائى للعرض والطلب العالميين فى الحاضر وفى المستقبل. الجدير بالذكر أن أرباح شركات البترول العالمية دائما فى تزايد مستمر تصل فى معظم الأحيان إلى أكثر من 10 مليار دولار سنويا بسسب الإعداد الفنى و الإدارىللتعامل مع سلعة البترول الإستراتيجية بينما إيرادات البترول للدول الأعضاء فى منظمة الأوبك تتذبذب من شهر لأخر مسببة إرتباكات مالية مؤلمة لميزانيات هذه الدول بجانب التصاعد المستمر فى الدين العام. فحرى بمنظمة الأوبك أن تواجه أسواق البترول العالمية بالعلم والمعرفة والخبرات العالمية و بالدراسات الإقتصادية والإحصائية المستفيضة من أجل وضع سياسة بترولية لمنظمة الأوبك طويلة الأجل تنبع من الإدراك الحقيقى لإقتصاديات البترول و التمييز بينها وبين أسواق الخضروات.

الدكتور / محمد محمود شمس
رئيس مركز إستشارات الجدوى الإقتصادية والإدارية